تقارير وتحقيقات

مسابقة "المنكوس" حناجر طريّة قادمة من أعماق الصحراء

عدنان حسين احمدانطلقت يوم الأحد الماضي 23 فبراير / شباط الجاري أولى فعاليات المرحلة الثانية من مراحل المنافسة على لقب "المنكوس" الذي تنظمه لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية الذي يهدف إلى صون التراث الإماراتي، ويسعى إلى الاهتمام بالموروث الشعبي، وتعزيز دوره في بناء الهُوية الوطنية. و "المنكوس هو لحن تراثي لغناء الشعر النبطي يعكس معاناة البدو في التنقل والترحال، ويترجم مشاعرهم وأحاسيسهم الداخلية العميقة، وهو ليس بحرًا شعريًا، كما يعتقد البعض، وإنما هو ضرب من الألحان البدوية المغناة يرتكز على خمس ميّزات رئيسة وهي "جمال الصوت، وإتقان اللحن، وبراعة الأداء، وطول النَفَس، ودقة مَخارج الحروف" وعلى المتسابقين ضبط هذه الميزات وعدم الإخلال بها. جدير ذكره أن عدد المتقدمين لهذه المسابقة الخليجية قد بلغ 300 متقدمًا لكن اللجنة أفزرت 18 متسابقًا فقط وسوف يحرز اللقب أحد هؤلاء المتبارين وينال جائزة قدرها نصف مليون درهم إماراتي وهناك خمس جوائز أخرى تُسند إلى الفائزين الخمسة تباعًا.

لجنة التحكيم

تألفت لجنة التحكيم من ثلاثة مختصين وهم الشاعر محمد بن مشيط المري من الإمارات، والشاعر والمنشد شايع فارس العيافي من المملكة العربية السعودية، والأكاديمي الدكتور حمود جلوي من دولة الكويت. أما المنشدون الستة فهم: سعد اليامي، علي محمد آل شقير، محمد آل دلبج المري، وناصر الطويل من السعودية، وعبد الله بن عمر المنصوري، وراكان عايض المنصوري من الإمارات. وقد تأهل منهم لمرحلة ربع النهائي المنشدان سعد اليامي وناصر الطويل من المملكة العربية السعودية.

تسعى هذه التغطية النقدية لتقديم قراءة موضوعية عن أداء المنشدين الستة، وطرق أدائهم، وقوة أصواتهم، فثمة فروقات فردية بين هذه الأصوات المتبارية التي وفدت إلى برنامج المنكوس من معظم دول الخليج العربي وإن كانت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة هما الدولتان المهيمنتان على المسابقة.

التعايش مع الكلمات

وأول هؤلاء المتبارين هو سعد اليامي من المملكة العربية السعودية حيث تميّز على أقرانة بالاندماج مع جوّ القصيدة التي غنّاها، وتفاعل معها بطريقة حميمة وصفها عضو لجنة التحكيم الشاعر السعودي شايع العيافي "بالتعايش مع الكلمات"، كما أثنى على إحساسه العميق بكل كلمة على انفراد، وهذا دليل دامغ على أن المؤدي قد اندمج مع القصيدة التي يغنّيها، وتفاعل مع صورها الشعرية النابضة بالحياة. أما الشاعر الإماراتي محمد بن مشيط المرّي فقد رأى أن المؤدي قد أتقن اللحن وأبدع فيه وأجاد وأكثر من ذلك فقد أضفى عليه جمالية خاصة حين منح اللحن شيئًا من عندياته مثل "الكسرات" التي شعر بها المتلقون وهم يستمعون إلى هذا النوع الأدائي الذي تتميز به صحراء جزيرة العرب. ولم يختلف الدكتور حمود الجلوي من الكويت عن زميليه السابقَين حين توقف أولاً عند إحساس المؤدي، فقد كان صوت المتسابق جميلاً، ونافذًا إلى أرواح المتلقين لكنه عابَ عليه بعض التردد الذي أصابه في أثناء رفع الصوت خاصة مع قافيتي الفاء في الشطر الأول والثاني قبل أن ينسجم مع فضاء القصيدة ويتماهى مع أجوائها الداخلية التي أبهرت الحضور وجعلتهم يصفقون بحرارة لهذا المؤدي الناجح. أما القصيدة المغناة فهي تعود للشاعر مصلج ذيب اليامي نقتبس منها هذه الأبيات الجميلة الثلاثة التي يقول فيها الشاعر:

"تمر الفرص مرّ السحايب بنا وتطوف     ونموت ومنازلنا بروس المشاريفي

نعايش زمنا المختلف بين أمان وخوف      وتبقى من أيام السعادة تناتيفي

تزين لنا الدنيا وهي وجهها مألوف        وأنا أدري أنها سبت فراق المواليفي"

بصمة خاصة

أما المتسابق الثاني فهو علي آل شقير من السعودية أيضًا وقد أدى قصيدة الشاعر محمد السلولي وبرع فيها حتى أن الشاعر محمد بن مشيط قد أثنى على طريقته المؤثرة في أداء اللحن، ووصف صوته بالجميل وقال عن الشاعر بأنه "صاحب بصمة خاصة" وهي ذروة ما يتمناه المؤدي الذي يعرفه السامع من خلال بصمته الصوتية التي تسحر المتلقين وتمنى على المتسابق لو أنه رفع صوته قليلاً ومع ذلك فقد نعته "بالمبدع في كل حالاته"، فيما ذهب الدكتور حمود إلى أنّ سمة التحدي تظهر في طبقته الصوتية العالية، كما أجاد التصرّف بطول النَفَس، وتوزيع مساحاته التي أتقنها بدراية لولا بعض الاستعجال الذي شابه في أثناء الغناء مشيرًا إلى أنّ المنكوس هو فن "البساطة والركود والبطء"، كما نوّه العيافي إلى جمال الصوت، وانضباط اللحن الذي شدّ السامعين.

712 عدنان احمد

إحساس مُرهف

كان المتسابق الثالث من حصة الإمارات العربية المتحدة التي مثّلها في هذا البرنامج أكثر من شاعر من بينهم  عبدالله بن عمر الذي يرى أن المنكوس نابع من وجدان بدوي، وقد تربى هذا اللحن عند البدو أنفسهم وهم الذين حافظوا عليه منذ القدِم وحتى يومنا هذا. أدّى عبدالله بن عمر قصيدة صالح بن عزيز المنصوري وتألق فيها حتى أن العيافي هنأه على إحساسه المرهف بكلمات القصيدة مع إشارة خاطفة إلى ارتباك المؤدي في موضع ما من القصيدة حيث قال:"تبارك الرحمن، لا أجد تعبيراً فالجمال هنا بكل ما تعنيه الكلمة، إحساسك بالكلمة وأداؤك جميل مع قليل من الارتباك، صحّت ذائقتك"، كما اتفق محمد بن مشيط مع زميله العيافي في تشخيص هذا الارتباك الذي أصاب المنشد لكن تفاعله التام مع كلمات القصيدة قد أنقذه بعض الشيء وغطى على الانفلات الذي لمسناه جميعًا كمتلقين نستمتع بالأداء ونتذوقه على مدى ساعتين مرتا مرورًا سريعًا. أما الدكتور حمود الجلوي فقد رأى أنّ المتسابق عبد الله هو أفضل بكثير من أدائه السابق، ويعتقد بأنه تفنن في الأداء، وأبدع فيه لأنه كان واثقًا من نفسه ولم يلتفت إلى الهنات والأخطاء البسيطة التي وقع فيها في أثناء أداء القصيدة.

ثقة بالنفس

يعتقد المتسابق الرابع محمد آل دلبج من السعودية بأن المنكوس خاص بأهل البرّ من الآباء والأجداد الأولين، وهو اللحن الجميل الذي كان يطربهم، ويضعهم في دائرة النشوة وقد أدّى قصيدة هادي المري التي يقول فيها:

"اسمحولي واعذروني ليا عفت الوطن     جعل دآرٍ شـد منها تجنبها المزون

اسمع بفرقا الولايف ولوعات الحزن    احسب ان مجربين الموده يكذبون".

وكان بن مشيط أول المعلِّقين حيث أعرب عن إعجابه بالأداء وقال: "أدّيت اللحن وأتقنته، وصوتك جميل، تعجبني ثقتك بنفسك". لكنه انتقد استعجاله في الأداء ونوّه إلى إخلاله بانضباطية اللحن. أما الدكتور حمود فقد رأى أن طبقة الصوت عالية وصعبة جدًا لكن المتسابق أجادها، ومع ذلك فقد عابَ عليه غياب الإحساس. أما العيافي فقد نبّه هو الآخر إلى خلل الاستعجال، وطلب من المتسابق إعادة الشطر الأول ببطء كي يلفت الانتباه إلى خصوصية المنكوس وحاجته الماسة للهدوء والتمهل في الأداء.

غياب الإحساس

أنشد المتسابق الخامس راكان عايض المنصوري قصيدة الشاعر صالح بن عزيز المنصوري فعلّق الدكتور حمود الجلوي بأن صوت المؤدي كان جميلاً، ونَفَسه يخلو من الانقطاعات، فيما كانت مخارج الحروف واضحة لا خلل فيها لكنه انتقد فيه غياب الإحساس، وعدم إبراز مفاصل الكلام. كما رأى العيافي ذات العيوب  التي تتمثل بغياب الانضباطية، والإرهاق البادي على الصوت، وتقطّع النفس لكنه لم ينكر عليه جمالية صوته شرط أن يلتزم بملاحظات أعضاء اللجنة ويأخذ بها جملة وتفصيلاً. وربما تكون ملحوظات بن مشيط متفقة من آراء الحكمين السابقين لكنه نوّه بموهبته الغنائية التي حباه الله بها وتمنى عليه أن يبذل قصارى جهده لإتقان القصائد التي يؤديها.

طبقة صوتية عالية

أما مسك ختام الحلقة الأولى من المرحلة الثانية فكان مع المتسابق السعودي ناصر الطويل الذي أنشد أبيات قصيدة هادي بن سهل المري التي يقول فيها:

"بالضحى شرفت عالي طويل ارجادها         هاضني مشراف أبو ميركه رجم طويل

ابدع القيفان واحب نظم اجدادها               من هواجيس تخالف ولا منها ذبيل

فأشاد الدكتور حمود بنَفَسه الطويل، وأثنى على طبقته الصوتية العالية، وقال له:" أنت مسك ختام الحلقة في هذه الأمسية". أما العيافي فرأى "أن المتسابق قدّم أداءً متميزًا يرتقي باسم البرنامج" شاكرًا حضوره المؤثر، وتجرّده من الضغوطات الخارجية، وتفرّغه لأدائه فقط ولهذا فقد أبدع، وتألق، ونال استحسان اللجنة والجمهور. أما بن مشيط فقد أضاف إلى محاسن صوته وأدائه جملة شديدة الأهمية مفادها:"غرّدتَ خارج السرب"، لقد "أقنعتنا، وأطربتنا، ونتمنى لك التوفيق".

وثائقيات المنكوس

تنوعت الحلقة الأولى من المرحلة الثانية للمنكوس بعدة فعاليات أخرى أبرزها الوثائقيات التي عُرضت في أثناء البرنامج الذي استمر على مدى ساعتين وقد تضمنت هذه الوثائقيات الجميلة آراء متنوعة لعدد من الشعراء والباحثين والمؤدين من الإمارات والسعودية والكويت يتحدثون فيها عن مواصفات مؤدي المنكوس نذكر منهم الصغير بن مرشود المنصوري، محمد بن سعيد الرقراقي، عبد العزيز بن سلمان الفدغوش وغيرهم من الأسماء المهمة في هذا المضمار ولعل أبرز ما قيل في هذا الصدد بأن "المنكوس يفترض الصوت العذب المطرب، والذائقة الجميلة، والإحساس الرقيق العميق". وعلى المؤدي أن يمتلك حنجرة طرية، صافية، وألا يكون صوته غليظًا يكسر لحن المنكوس الذي تتناغم إيقاعاته مع تفاعيل بحر الطويل المعروفة وهي "فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن / فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن".

لابد من الإشارة إلى أن الحلقة الأولى من المرحلة الثانية قد أفتتحت بلوحة غنائية وطنية راقصة وجميلة أداها الفنان الإماراتي المعروف فايز السعيد مع نخبة من طالبات مدرسة فاطمة بنت مبارك من الإمارات وكانت بمثابة تحية محبة لدولة الكويت الشقيقة لمناسبة عيدها الوطني وذكرى التحرير

.

أبوظبي: عدنان حسين أحمد

 

 

في المثقف اليوم