تقارير وتحقيقات

حلقة نقاشيّة في مكتبة الإسكندرية

عصمت نصارنظمت مكتبة الإسكندرية حلقة حوارية أقرب إلى نظام الموائد المستديرة حول موضوع "خطاب التواصل بين قادة الرأي وعوام المثقفين"، وذلك في صباح يوم الأحد الموافق (22ديسمبر 2019) في القاهرة وقد جمعت هذه الحلقة بين عددٍ كبير من النُخَب الثقافية في مختلف التخصصات المنوطة بتوجيه الرأي العام مثل (فضيلة المفتي الدكتور شوقي علام، الأنبا أرميا رئيس المركز الثقافي القبطي)، وبضعة وزراء سابقين ولفيفٍ من أعضاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وممثلي المرصد الأزهري ونفر غير قليل من أساتذة الجامعات، ذلك فضلاً عن القائمين علي المشروعات الحضارية في المكتبة، وقد أدار هذه الحلقة السياسي المخضرم (الدكتور مصطفي الفقي) والمثقفة الواعدة (الدكتورة الشيماء الدمرداش).

وفي كلمة الافتتاح أشار "مصطفي الفقي" في عجالة إلي أهمية الحوار والتواصل والتساجل والمناقشة بين نُخَب المثقفين وقادة الرأي من المفكرين، وذلك لتحديد مضمون الخطاب ولغته في ضوء الأوضاع الراهنة وكيفية توصيله للرأي العام، موضحاً أن المشكلة الرئيسة التي نواجها هى كثرة الخطابات غير المسئولة التي تعمل علي تشويش الجمهور وافتعال المشكلات وإثارة القضايا المغلوطة بين الشباب متخذة من الدين ستارة لتزييف الوعي وتفكيك العقل الجمعي.

أما كلمة "الدكتور شوقي علام" فقد انصبت حول نشأة ما نتطلق عليه مصطلح (الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين).

وفي هذا السياق نضيف أن منشأ هذا المصطلح يرد إلى دوائر الاستشراق السياسي الإنجليزي منذ عام 1838م (وليس مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين) حيث نشأت الخلايا الأولى للماسونية التورانية في تركيا، تلك التي نجحت في إدخال النظم السياسية الغربية في شتى أروقة الثقافة الإسلامية العثمانية حتي تحول الدستور العثماني إلى دستور علماني، وأنُشّئت المحاكم المدنية وانحصرت سلطة المحاكم الشرعية في أضيق الحدود.

وفي أخريات القرن التاسع عشر روَجّ ساسة الغرب لمصطلحي القومية والوطنية بين المثقفين المصريين والشوام.

أما أجهزة المخابرات الإنجليزية والألمانية والروسية والأمريكية فقد انشغلت بانتقاء الأشخاص الذين سوف يقودون الفكر السياسي في الشرق الأوسط، وكان معظمهم من المنتمين إلي الفكر الإسلامي المتشدّد وبعض الأساقفة والمطارنة في سوريا ولبنان ومصر. وصفوة القول أن معظم الجماعات المنتمية لمصطلح الإسلام السياسي الأن قد خرجت من جُعبة بوتقة المحافل الماسونية بداية من الوهابية إلي المودودية، ومروراً بجماعات الإخوان والسلفية الجهادية وانتهاءً بداعش.

وأضافت بعض المداخلات أن الدين الإسلامي في أصوله وشريعته لم يكن أبداً ضد المصالح المرسلة أو معادياً للسياسات الحكيمة التي تنظم المجتمعات والأوطان، وأن السياسة الشرعية ما يميزها عن دونها هو التزامها بما أحل الله، وحرمه في نصوصٍ إلهية قطعية الثبوت والدلالة، أما نظم الحكم الثيوقراطي فلم يدنِ منها سوى الفكر الشيعي في نظام الإمامة.

وفي هذا السياق نضيف أيضاً أن جلّ مفكري الإسلام السياسيين قد أكدوا أن علم السياسة علم مدني عملي تطبيقي، وأن معيار صحته يستنبط من مقاصده التي لا ينبغي عليها الجنوح عن مقصد الشرع ودون ذلك للقاضي أو الحاكم في المجتمع الإسلامي تسييس المجتمع تبعاً لمقتضياته وواقعاته وواقعه.

أما "الأنبا أرميا" فأكد علي ضرورة التمييز بين حرية البوح والفكر والاعتراض من جهة والفوضى والتفكير الجامح من جهة أخرى، وأوضح أن تصدي غير المسئولين والمتخصصين للقضايا ذات الشأن العام غير جائز ولاسيما في مخاطبة الجمهور.

وفي هذا السياق نضيف أن قادة الفكر والمتفلسفين في الثقافة الإسلامية قدماء ومحدثين قد نبهوا علي خطورة لغو المتعالمين علي الجمهور، ولعلنا نتذكر دعوة "أبي حامد الغزالي" (لإلجام العوام عن علم الكلام) و نقد "أحمد لطفي السيد" لمزيفي الوعي من الكُتاب والصحفيين، وذلك عقب إعادته للعمل بقانون المطبوعات ثانيةً.

ومن أطرف المداخلات تلك التي دعت إلى كف بعض المتعصبين من أئمة المساجد عن الدعاء علي المسحيين في خطبة الجمعة، وكان من الأجدى القول بمعاقبة مثيري الفتنة الطائفية في القنوات التلفزيونية أو الكتابات الصحفية - من الإعلاميين المسحيين والمسلمين علي حد سواء- ولا سيما بعد غيبة العلماء المعنيين بالتناظر والنقد العلمي للخطابات الدينية.

ذلك فضلاً عن تعمد بعض معدي البرامج الإتيان بالمتطرفين والشواذ والمجترئين ومناقشتهم أمام متعالمين غير متخصصين من محبي الشهرة والظهور، فكل هذه المظاهر تشكك الجمهور في مصداقية النخب من رواد الفكر المسئول وأهل الدربة والدراية.

أما عن بنية الخطاب المراد تفعيله فقد عنيت المداخلات بضرورة ضبط دلالات المفاهيم ومعاني الكلمات من قبل المتحدث، وذلك لإزالة اللبس والغموض عنها وسيما بعد تدهور وانحطاط لغة التواصل بين مرسلي الخطابات والمتلقين.

ثم شرعت في عجالة تبيان أن أزمة الخطاب الحالي ليست في السلطات المؤيدة أو المعارضة، ولا في مضمون الخطاب بل في غيبة من يحمل الخطاب من قادة الفكر وأرباب الأقلام أمراء المنابر، فمعظم المتحدثين قد شوهتهم الأكاذيب وحطت الشائعات من مكانتهم، واعتزل البعض الأخر عن العمل التوجيهي مخافة أن يصنف مع هذا الفريق أو ذاك.

أما الفريق الأخير من العلماء، فلم يدرب نفسه علي مخاطبة العوام أو شرح مراده بأسلوبٍ يفقهه رجل الشارع الذي يشكل الغالبية العظمي من الجمهور، أضف إلى ذلك غيبة التنوع في أسلوب الخطاب، فالنشرات الإذاعية والمقالات السياسية والندوات الثقافية لم تعد أساليب محببة للمتلقي الباحث عن الحقيقة في ظل فوضي الإعلام وأوهام السوق ومسرح الأكاذيب.

وقد أثار فريقٌ من الحضور موضوع المواطنة ومحاولة بعض المتأمرين إضعاف روح الولاء والانتماء لمصر، وترغيب الشباب في النزوح إلي الخارج للتخلص من الأزمات المتتالية ومؤامرات الأغيار وفساد المنتفعين أملاً في الانخراط في دنيا العولمة الغربية، أو تبني شعار الخلافة الإسلامية وأستاذية العالم ونقض الفكر القومي العلماني والانتصار لشعار عالمية الإسلام.

وفي هذا السبيل نضيف أنه ليس هناك أدني تعارض بين الدين والمواطنة؛ فلم يتحرج "النبي صلى الله عليه وسلم" من البوح بعاطفته وانتمائه لوطنه "مكة"؛ وقد استبعد النزعة الدينية من شروط المواطنة في صحيفة المدينة التي ضمّت اليهودي والمسيحي والوثني، كما إنه لم يدرج المسحيين ضمن الأعداء أو المنافقين بل كانت إلى الحبشة هجرة المسلمين الأولى ووصفهم القرآن بأنهم أقرب إلى المسلمين من غيرهم.

وفي العصر الحديث استثني معظم المفكرين العرب الدين من مقومات الوطنية، فذهب "أنطون سعادة" و"ساطع الحصري" و"علي يوسف" و "ميشيل عفلق" إلى أن وحدة الثقافة والنظام السياسي من أكثر المقومات أهمية لتطبيق مصطلح المواطنة، أما "عبدالله النديم" فقد أضاف على ما تقدم الانتماءات المشتركة والعادات والتقاليد، وذهب "تادرس المنقبادي" إلى أن وحدة الأرض واللغة والمصالح المشتركة والنظم السياسية والاجتماعية هى العُمد التي تحدد معني المواطنة.

وبيّن "أخنوخ فانوس" أنه لا تعارض بين المواطنة والانتماءات إلى أفكار أو رؤى أو اتجاهات مذهبية أو سياسية، واشترط "أمين الريحاني"، أن يكون ولاء المواطنون الأول للوطن الذي يعيشون فيه بغض النظر عن الجنسية التي كانوا يحملونها قبل ذلك أو الدين أو اللغة.

وأكد "لطفي السيد" أن وحدة الثقافة والمصالح العامة، تقع في صدارة شروط المواطنة والعمل بإخلاص من أجل رعاية الأمة والموت برضا وقناعة زوداً عن أراضيها.

وفي نهاية المداخلات وعد "الدكتور مصطفي الفقي" في عقد المزيد من الحلقات النقاشية حول هذه القضايا التي أثارها هذا اللقاء وذلك عقب تلخيص البحاثة "الدكتور كمال إمام" توصيات الحلقة النقاشية الأولى.

والسؤال الذي يطرح نفسه هل المعنيين بمخاطبة الجمهور يدركون مسئولية عملهم وآداب رسالتهم وأخلاقيات مهنتهم؟!

 

بقلم: د. عصمت نصار

أستاذ الفلسفة - جامعة القاهرة

 

في المثقف اليوم