تقارير وتحقيقات

قصائد نبطيّة تحتفي بالحُب وتمجِّد الأوطان

عدنان حسين احمدتهدف مسابقة "شاعر المليون" إلى صون التراث الشعبي الإماراتي خاصة والخليجي بشكل عام. ويُعدّ الشعر النبطي شقيقًا للشعر العمودي من حيث الشكل الخارجي، والإلتزام بقافية واحدة، واستعمال الأوزان العروضية المستخدمة في الشعر العربي الفصيح. وتأتي هذه المسابقة التي تُنظّم كل سنة مرة واحدة لدعم هذا النمط الشعري الذي يتواجد في البلدان العربية كلها بدءًا بدول الخليج العربي، مرورًا  ببوادي اليمن والعراق والشام والأردن، وانتهاءً بمصر والسودان ودول المغرب العربي. فهذا النمط الشعري هو الابن البار للصحارى العربية ذات البيئات المنفتحة التي لا تحدّها حواجز أو حدود. ويُرجِع بعض المؤرخين بدايات الشعر النبطي إلى شيوع اللهجات المحْكية إلى القرن الرابع الهجري، وقد أصرّت دولة الإمارات العربية المتحدة على إدامة زخم هذا النمط الشعري الذي يحبّه الملايين من المواطنين العرب ولا يجدون صعوبة في فهم معاني كلماته التي قد تبدو عويصة للمواطن العربي المديني الذي لم يألف هذا الضرب من الكلام الفيافي العربية.

تضمنت الأمسية السابعة ستة شعراء متسابقين وهم: برزان الشمّري من العراق، وحمد المويزري من الكويت، وعبدالله الحمومي من اليمن، وميثا الغافري من سلطنة عُمان، ومطرب العتيبي، ونبيل عاجان من المملكة العربية السعودية. وقد تنافس الشعراء الستة في قراءة قصائدهم النبطية أمام أعضاء لجنة التحكيم والجمهور الذي اكتظت به قاعة مسرح "شاطئ الراحة" فيما تبنّت قناتا "الإمارات" و "بينونة" تصوير المسابقة ونقلها نقلاً حيًا إلى محبّي الشعر النبطي.

1330  مسابقة شعرية

حدود مُلتهِبة

تُعدّ قصيدة "النملة الفارسية" للشاعر العراقي برزان الشمّري أنموذجًا للقصيدة الوطنية التي يتداخل فيها التاريخ بالدين، ويمتزج فيها الماضي بالحاضر وكأنَّ الشاعر يحمل مرآة مُكبِّرة تستدرج الوقائع والأحداث البعيدة والقريبة في آنٍ معًا. ومَنْ يتأمل هذه القصيدة جيدًا فلا يجد صعوبة تُذكر في تخيّل "حرب البسوس" التي دامت أربعين عامًا وكان الشاعر "جسّاس بن مرّة " آخر منْ قُتِلَ فيها.  هذا التلاقح بين "حرب البسوس" وبين الحروب التي يشنّها الفرس في أربع عواصم عربية وتحرّشات تكاد تطال غالبية دول الخليج العربي، هو ضرب من "الميتاسرد" الذي أتقنه الشاعر برزان الشمري وأجاد فيه إلى الدرجة التي أقنع فيها الجمهور أولاً قبل أن ينال رضا أعضاء لجنة التحكيم الثلاثة وهم: الروائي الإماراتي سلطان العميمي، والدكتور غسان الحسن من الأردن، والشاعر الكويتي  حمد السعيد الذين لم ينتبهوا لهذا التعالق الميتاسردي الذي أثرى هذا النص الشعري المكتمل إلى حدٍ كبير. وقد تكرر هذا الميتاسرد في التلاقح الثاني مع "ثورة العشرين" التي شنّها الثائر شعلان أبو الجون ضد الاحتلال البريطاني، وأن تلك الثورة التي انطلقت عام 1920 قد تكرر انطلاقها ضد التواجد الإيراني في العراق قبل ثلاثة أشهر من هذا التاريخ. يتمنى الشمري أن اليد التي تحمل "المُوس" الفارسية أن تُصاب بالشلل حيث يقول:

" ترى للحين ماطاح الجِمل يامعشر الأمواس / عسى يد المجوس اللي تحدّ الموس مشلوله"

ثمة أمنية يتمناها الكثير من العراقيين الشرفاء، ومحبّي الوطن حينما يردّدون مقولة تُنسب إلى عمر بن الخطاب يقول فيها: "ليت بيننا وبين الفرس جبلاً من نار لا ينفذون إلينا ولا ننفذ إليهم" ولأنهم على مرّ التاريخ يتدخلون في شؤون الغير، ويثيرون الفتن الراقدة، ويشنّون الحروب بحجة مناصرة المذهب الشيعي وهم منه براء فلا غرابة أن يلجأ العراقيون إلى أقصى درجات التخيّل ليقطعوا الحدود الفاصلة بينهم وبين الفرس بجبال من نار مشتعلة أبد الدهر، وهذا ما قاله الشمري بالضبط في البيت الآتي:

" الا ليت الجبال الشامخات اللي قوية ساس / تعوّد بيني وبينك قممها نار مشعوله"

إنّ منْ يقرأ هذه القصيدة يشعر بتماسكها وقوة بنائها الرصين منذ مُستهلها وحتى بيتها الختامي، أما بقية أبيات القصيدة فهي تعج بالصور الشعرية الجميلة والمعبِّرة التي تأخذ بتلابيب المتلقي.

أسطرة صورة الأخت

اختار الشاعر الكويتي حمد المويزري ثيمة "الأخت" كي تكون محورًا لقصيدته المتبارية واصفًا علاقة أفراد الأسرة من الرجال بهذه الأخت الشقيقة التي تملأ البيت فرحًا وعذوبة، أما محلّها فهو في الصدور أو في القلوب على وجه الدقّة وهذا ما يعنيه الشاعر في البيت الآتي:

" بنت المعالي شقيقة طيبين العيال / محلّها ف الصدور ونور تجويفها"

اتفق أعضاء لجنة التحكيم بالإجماع أن "القصيدة متماسكة في بنائها، وتسلسل أفكارها، ومتميزة بالتصوير الشعري الجميل، مع حضور واضح لدلالة النور التي أثرتْ تطور النص الشعري تخليداً للأخت وحقوقها".وقد ذهب الشاعر إلى أسطرة صورة الأخت إلى الدرجة التي قال عنها:

"عطية الله لـ أبوي مْن العطايا الجزال /  سحابةٍ تنْبت الصحرا .. سواليفها"

وربما يكون رأي الدكتور غسان الحسن هو الأكثر دقة لأنه أمسك بالعصب النابض لهذا النص الشعري الذي قال عنه: "أنها قصيدة لا يقولها ولا يشعر بها إلا من استشعر وجود البنت في الأسرة" فهي بؤرة البيت وعموده الروحي، ورائحته الزكيّة التي تعبق في الزوايا والأرجاء.

تمجيد لطبول الحرب

لم يفلح الشاعر اليمني عبدالله مبارك الحمومي في عقد مقارنة ناجحة بين مشاركاته في مواسم متلاحقة من مسابقة "شاعر المليون" وبين الحروب التي يخوضها المواطن اليمني دفاعًا عن الشرف وحياض الوطن. فثمة فرق كبير بين الحربين ولا مجال فيها لهذا الترميز الذي يخرج عن حدّه وينقلب ضدّه.

ما لفت نظري في هذه القصيدة هو تمجيد الشاعر لـ "طبول الحرب" التي يخسر فيها الجميع بما فيهم الطرف المنتصر فكيف سمح الحمومي لنفسه أن يُطري الحرب، ويُثني عليها، ويمنحها هذه المنزلة الرفيعة مع أنها مذمومة في كل زمان ومكان إلا باستثناءات محدودة تقتضيها حالات الدفاع عن النفس والأرض والعرض والمال؟ والأدهى من ذلك أنّ شغفه بالحرب قد وصل ‘لى درجة "العشق والتماهي" حيث يقول:"

"عرب من كثر مانعشق طبول الحرب والناقوس / عجاج الخيل غيمه فوقنا ودم الرجال أسيول"

كنت أتمنى على أحد أعضاء لجنة التحكيم أن يوجِّه هذا الشاعر الشاب إلى حُب الحياة، والأمان، والطمأنينة لا التعلّق بالحرب، والانجذاب إلى قرع طبولها، وأصوات نواقيسها، ثم مَنْ قال إن العرب كلهم أو غالبيتهم يعشقون طبول الحرب، ودويّ طائراتها، وزمجرة مدافعها، وأزيز رصاصها؟ لقد اعترض الدكتور غسان الحسن على عدم التوفيق والربط بين مسابقة "شاعر المليون" وخوض المعركة لكنه لم يعترض على فكرة التعلّق بالحرب أو الشغف بها إلى حدّ العشق. وقد أبدى الحسن إعجابه بطريقة إلقاء الشاعر، والصور الشعرية التي تتوفر عليها القصيدة التي تغرق بالدماء وتكتظ بالقتلى.

غناء ورقص حضرمي

وفي أثناء الفاصل بين القراءات الشعرية قدمت فرقة حضرموت عددًا من الأغاني والرقصات الشعبية التي نالت استحسان الجمهور فقد نقلنا صوت المطرب الجميل إلى مضارب حضرموت وفضاءاتها السعيدة. كما كان للرقصات اليمنية وقعها الخاص بين الحضور وذلك لرشاقة الراقصين، وخفّة ظلهم، وتماهيهم مع المقطوعات الموسيقية التي عُزفت بحرفية عالية تركت صداها بين الحاضرين.

اللمسة الثقافية

ثمة قصائد تُشعرك بنضجها واكتمالها منذ المطلع، وربما من صدر البيت، أو من أول صياغة موفقة كما في قصيدة الشاعر السعودي المجوِّد مطرب بن دحيم العتيبي الذي يكشف عن ملكته الشعرية في مستهل قصيدته حيث يقول:

" منظومة الحسن خِلْقت من رخام وثوبها خام / أشوفها بنت جا من بطنها تاريخ الأمّه"

فما إن يسمع المتلقي توصيف "منظومة الحسن" حتى تُوخَز لوامسه الحسّاسة دفعة واحدة لأنه طرق سمعها تعبير يشي بمواصفات جمالية أكثر وقعًا وتأثيرًا في النفس البشرية، ثم يباغتك التوافق الصوتي التام بين كلمتي "رخام" و "خام" اللتين تثيران في الروح تصورات شتى لكنه سرعان ما يأخذنا إلى أنّ هذه الكائنة الجميلة شكلاً ومضمونًا هي حاملة لتاريخ الأمة وسوف تُنجب العديد من الرجال المبدعين في مختلف مفاصل الحياة كالشاعر والمستكشف والعالِم، فهي امرأة ولود ترفد الحياة بالعلماء والأدباء والفنانين كما جاء في هذا البيت:

"عيالها شاعر وْعالِم ومستكشف وصمصام / ومورِّخٍ سطَّر أمجاد العَرَب من حر دمّه"

يحرّضنا هذا الشاعر المحترف على التلاقح مع أمجاد الماضي بواسطة التقنية الميتاسردية أيضًا وإن لم يغص فيها تمام الغوص مكتفيًا بالإشارة إلى الجوامع الإسلامية التي شُيّدت قبل 1400 سنة من هذا التاريخ الذي يندفع بنا إلى أمام. ثمة أكثر من إشارة وتنويه إلى أن الشاعر ضليع في اللغة العربية وأنّ حقل تخصصه في النحو واللغة قد أفاده كثيرًا في كتابة هذه القصيدة السلسة والمنسابة كماء في جدول رقراق.

رفقًا بالقوارير

بما أن ميثا الغافري هي الشاعرة الوحيدة في مسابقة هذه الأمسية الشعرية فقد نالت حظًا أوفر من الاهتمام والرصد لتجربتها الإبداعية في هذا النص الشعري الذي يتمحور حول الأم ومكانتها في الأسرة، وعلاقتها بزوجها وأبنائها سواء أكانوا ذكورًا أم إناثًا. ومن محاسن التصوير لدى الشاعرة العُمانية ميثا الغافري أنها شبّهت الأم  بالشجرة، وهي كذلك فعلاً، معطاءة، ومُضحية بالغالي والنفيس من أجل فلذات الأكباد، فلا غرابة أن تذبل قبل الأوان كما تقول الشاعرة في مستهل القصيدة:

"اتساقطت قبل الخريف وطال غصنيها جفاف / وبعرقها رجفة شتا مابانت بجذعٍ حَمول"

أبدى الشاعر الكويتي حمد السعيد إعجابه بقصيدة الشاعرة ميثا الغافري، وأشاد بموهبتها الشعرية التي يمكن تلّمسها في الترميزات، والصور الشعرية الجديدة، والنفس السردي الذي اتبعته في كتابة التنص الشعري الذي يرصد تفاني الأم، وسعيها اللامحدود في زرع القيم والمفاهيم الإسلامية في عقول الأبناء وأذهانهم. كما أكد غسان الحسن على تقنية السرد القصصي في هذه القصيدة والتنقّل السلس بين أركان الثيمة الرئيسة والثيمات الفرعية المؤازرة لها. فيما أشاد العميمي بجماليات القصيدة والموضوعات الإنسانية الدالة على الوعي، ومعالجة الشاعرة ميثا وغيرها من الشعراء لموضوعات مهمة كالأم والبنت والأخت.

عبق المكان

تفرّد الشاعر السعودي نبيل بن عاجان بقصيدته الوطنية التي تمجِّد المكان الذي يكشف حبه لمدينة الأحساء فلا غرابة أن يأتي على ذكرها في صدر البيت الأول من القصيدة قائلاً:

"من منطلق حُبّ العظيم لْصوت خطوات العظام / شاعر حساوي ها هُنا ينقش على العليا رسوم"

تنمو القصيدة وتتطور أحداثها لتشمل وحدة أبناء المملكة العربية السعودية أولاً ثم يتجاوزها إلى وحدة الأمة الإسلامية حتى من دون الإشارة إلى الأمة العربية مثلاً أو وحدة الكيان الخليجي في أقل تقدير. القصيدة تدعو إلى لمّ الشمل، وتوحيد الصفّ، والسير على الطريق الصحيحة. كما يدعو الشاعر في قصيدته إلى نبذ الخلاف الطائفي، وتقوية الأواصر بين الشعوب العربية والإسلامية، ويمكن أن نقتبس البيت الأخير الذي يقول فيه نبيل بن عاجان:

"سؤال هل يرضى " علي " نعيش هذا الإنقسام !؟ / سؤال هل يرضى " عمر " أنّا نُقتّل كل يوم ؟ !"

والجواب المنطقي إنّ الاثنين "علي" و "عمر" لا يرضيان بالانقسام والقتل وكلا الطرفين يُدينان بدِين المغفرة

والمحبة والرحمة.

وفي ختام المسابقة الشعرية تمّ الإعلان عن أسماء شعراء الأمسية الثامنة والأخيرة في المرحلة الأولى وهم: سلطان بن معتب الدوسري، ومحمد البندر المطيري، ومحمد الحمادي العتيبي من السعودية، وعامر بن فواز العجمي من الكويت، وعبد الله بن فهم من الإمارات، ومحمد حمدان العنزي من الأردن.

 

أبو ظبي: عدنان حسين أحمد

 

 

في المثقف اليوم