تقارير وتحقيقات

علجية عيش: المشترك الإنساني في الفكر الإصلاحي الديني

علجية عيشالأوروبي والعربي الإسلامي الحديث

- هكذا أرسى المجمع الفاتيكاني ثقافة الحوار مع الإسلام لمواجهة الإسلاموفوبيا.

- الأنسنة هي الوجه الآخر للعلمنة.

- المشترك الإنساني تتقاسمه ثقافات متعددة لإعادة الإنسجام للإنسان والإنسانية وتجاوز الأزمات


قال باحثون في الفكر الديني أن العصر اليوم هو عصر انتصار القيم الإنسانية وما حققته من نتائج توصل إليها العقل البشري بعد تحرره من الكنيسة الكاثولوكية واللاهوت الديني، وأن إحداث مقاربة بين التنويريين في الغرب ودعاة التنوير في الشرق متوقف على الوقوف على خصوصية الفكر الأوروبي والفكر الإسلامي، من وجهة نظر الباحثين فإن مجال الأنسنة يتجاوز المرحلة السابقة التي قام بها الشرق الإسلامي الذي كان متفوقا على حضارات غيره في مرحلة الفتح الإسلامي، كما أن التعايش السلمي بين الأديان لاسيما بين الإسلام والمسيحية وبخاصة الكاثولوكية، فهي مرتبطة أساسا بالحوار بين الأديان والحضارات والثقافات، خاصة وأن العلاقات الحالية بين المسلمين والمسيحيين تشكل نموذجا في إرساء القيم الإنسانية

هل تكفي قيم الأنسنة وحدها في بناء مجتمعات بشرية يسودها العدل والمساواة والإحترام بعد 16 سنة من إرساء هذه القيم؟، وهل يعود ذلك إلى خصوصية الوضع الفكري والمراحل التي عرفت بعصر التنوير؟ والتحولات التي شهدها الإنسان الذي كانت له الجرأة في نقد النص الديني؟ تلك أسئلة طرحها باحثون في الفكر الديني ومختصون في مقارنة الأديان وعلوم الشريعة من الجزائر ومن دولة قطر للرد عليها في مؤتمر دولي حول مفهوم "المشترك الإنساني في الفكر الإصلاحي الديني الأوروببي والعربي الإسلامي في العصر الحديث" نظمته جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بشرق الجزائر عن طريق تقنيات التحاضر عن بعد، والذي جاء متأخرا بسنة كاملة، حيث كان من المفنرض تنظيمه قبل ظهور الوباء، لكنه شهد غياب كبير للطلبة والباحثين لاسيما المختصين في مجال مقارنة الأديان، فكانت قاعة المحاضرات عبد الحميد ابن باديس فارغة تماما فلا يتعدى عدد الحضور أصابع اليد كما يقال، رغم أن المؤتمر جاء في الوقت الذي تحتفل فيه الجزائر بذكرى وفاة رائد الإصلاح الديني في الجزائر العلاّمة عبد الحميد ابن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي واجهت حركة الإستشراق ودعت إلى التجديد الذي يرتبط بمفهوم الإصلاح reformation، وقد سلط باحثون من الجزائر ومن دولة قطر في هذا المؤتمر الدولي الضوء على إشكالية "المشترك الإنساني في الفكر الإصلاحي الديني الأوروبي والعربي الإسلامي في العصر الحديث".

المؤتمر يهدف إلى فهم الإصلاح الديني من جهة عقدية وقيمة الإصلاح من خلال التجربة الأوروبية والإسلامية، لاسيما وأن المشترك الإنساني تتقاسمه ثقافات متعددة من أجل إعادة الإنسجام للإنسان والإنسانية وإظهار مدى قدرة الإصلاح الديني على تجاوز الأزمات العالمية التي تزداد اليوم تعقيدا بسبب الصراعات الدينية فيما يسمى بـ: "الإسلاموفوبيا"، وبات الأمر يلح على الدعوة إلى حوار الأديان والثقافات، كما ركز المحاضرون على إشكاليات أخرى مترابطة ومعقدة تحتاج إلى فك رموزها على غرار "حركة الأنسنة" التي هي بيدغوجية جديدة مبنية على التمرّن والتنوير السياسي وتحتاج إلى مناظرات دينية من خلال العودة مباشرة إلى الكتاب المقدس ( الإنجيل) ومقارنتها بما جاء في القرآن الكريم، فالأنسنة عرفها الحداثيون بأنها الوجه الآخر للعلمنة، وقد أشارت العديد من النظريات الأوروبية والعربية إلى أن الأنسنة تتمحور حول الإنسان لتحديد الهوية الإنسانية، تبقى مسألة المصطلحات فهي لا تزال دون تمحيص علمي فكانت عائقا كبيرا في تقريب الرؤى لفهم العلاقة بين الأنا والآخر وإمكانية العيش معا في إطار التعايش السلمي مع الإحتفاظ بخصوصية كلّ منهما.

في هذا السياق أرادت حركة الأنسنة في العالم الأوروبي أن تبعث نفسا جديدا في المسيحية الكاثولوكية وإقامة مقاربات بين النزعة الإنسانية، كان المنطلق كهنوتيا قام به المفكر الغربي راسموس مختص في الفكر النقدي، لكن سرعان ما تم التخلي عنه من أجل الإنخراط في الحياة الإنسية، فكانت هناك مراجعات للعهد الجديد وترجمته وتفسيره، وقد وقف دارسوا الكتاب المقدس ( العهد الجديد) ومنهم راسموس على نصوص غير معقولة، قدمها للكهنة، هذا الأخير اعتمد على منهج الوثنيين الذين اعتبرهم أكثر مسيحية من المسيحيين أنفسهم، وإن كان راسموس قد جعل النزعة الإنسية كمنهج و قاعدة دون الخروج عن الكنيسة، فمحمد إقبال وقف على وضع الأمة الإسلامية وعوامل التحضر في العالم الأوروبي، فعمل على تجديد الفكر الديني من خلال المنهج الرشدي من أجل التعقل فقال بخلود العقل الفعال، كانت هذه مقارنة للفكر النقدي بين راسموس ومحمد إقبال، قدمها محاضرون، حيث ركز الإثنان على علاقة الإنسان بالدين من أجل إعلاء قيمة الإنسان، ذلك باستخدام المنهج العقلي والنقدي لكل المضامين المعرفية والتعامل معهما بقداسة.

أما فكرة التعايش السلمي بين الأديان لاسيما بين الإسلام والمسيحية وبخاصة الكاثولوكية، حسب الدكتور عبد القادر بخوش باحث في الفكر الديني من جامعة قطر في ورقة قدمها عن طريق تقنيات التحاضر عن بعد فهي مرتبطة أساسا بالحوار بين الأديان والحضارات والثقافات، وقال ان العلاقات الحالية بين المسلمين والمسيحيين تشكل نموذجا في إرساء القيم الإنسانية بدليل أن البابا فرانسيس في سنة 2013 دافع عن روحانية الإسلام وقيمه وفي روما استقبل عدد كبير من المهاجرين المسلمين الغير شرغيين ة كانت له مواقف مشرفة في حواره مع الأزهر في إطار مبادرة " حُبُّ الله"، عكس مواقف البابا السابق الذي وصف افسلام على أنه دين عنف وتطرف وأنه دين لا يمجد العقل.

المجمع الفاتيكاني الثاني دعا إلى ثقافة الحوار مع الإسلام لمواجهة الإسلاموفوبيا

و بما أن المسيحية تعتبر من مقومات الفكر الغربي فقد أشار الباحثون إلى انقسام المسيحيين إلى تيارات، وركزا في دراساتهم على التيار الكاثوليكي، لكنهم لم يتطرقوا إلى انقسام المسلمين إلى تيارات، أو بالأحرى أغفلوا هذا الجانب في مداخلاتهم ( أي الإسلام السُنِّي والإسلام الشّيعي) في ظل استمرار الصراع بين السنة والشيعة، وهذا من أجل توحيد المشترك الديني بينهم وإعطاء للإسلام الصبغة العالمية، كل هذه المسائل تحتاج إلى دراسة المشترك بكل أبعاده الدينية والفلسفية، الأخلاقية والسياسية، الذين شاركوا في المؤتمر الدولي تطرقوا إلى دور المُجَمَّع الفاتيكاني الثاني المعاصر وما صدر عنه من قرارات في الفترة بين 1962 و1965 والتي تعتبر حسبهم فصل جديد للمسيحية، حيث أدخل المجمع أديان أخرى كالإسلام واليهودية واختصر مسائل عديدة أهمها الدعوة إلى حوار مسيحي إسلامي والتعايش مع المسلمين، أي أنه أصبح لاهوتا جديدا، إلا أن نظرة الغرب للإسلام ظلت تعكس ما يقول به المجمع الفاتيكاني، لأن ظهور الإسلام عند الغرب كان تحديا تاريخيا لمواجهة الديانة المسيحي.

الفكرة التي اثارت اهتمام الباحثين هي دور الإستشراق الذي كانت تحركه الكنيسة الكاثولوكية، حتى أحدث مؤتمر المجمع الفاتيكاني الثاني المنعقد في 1962، تغيرا كبيرا على كل المستويات، كانت لبعض المفكرين اليسوعيين والبابوات أطروحات إيجابية من الإسلام وبالخصوص البابا بولس السادس، هكذا أرسى المجمع الفاتيكاني ثقافة الحوار مع الإسلام من أجل نبذ فكرة الإسلاموفوبيا، وخالف ما جاءت به قرارات المجمع المسكوني الثاني الذي اتبع نظام الرهبان وابتعد عن المسيحية الصحيحة، خاصة وأن العصر اليوم وهو عصر انتصار القيم الإنسانية وما حققته من نتائج توصل إليها العقل البشري بعد تحرره من الكنيسة الكاثولوكية واللاهوت الديني مثلما اشار إلي ذلك الدكتور محمد أوجرتني الذي قال أن إحداث مقاربة بين التنويريين في الغرب ودعاة التنوير في الشرق متوقف على الوقوف على خصوصية الفكر الأوروبي والفكر الإسلامي، من وجهة نظر الباحثين فإن مجال الأنسنة يتجاوز المرحلة السابقة التي قام بها الشرق الإسلامي الذي كان متفوقا على حضارات غيره في مرحلة الفتح الإسلامي.

ما يلاحظ أن المحاضرين أهملوا جانبا مهما من النظريات التي تأسست في هذا الشان، خاصة ما يسمى بـ: الإنتروبولوجيا الدينية، التي تحدث عنها كثبر من المفكرين على غرار المفكر الجزائري محمد أركون الذي كانت له أطروحات ونظريات حول الإصلاح الديني، الذي كثر استعماله وتوظيفه من طرف رواد النهضة الأوروبية الحديثة ومن قبل زعماء الإصلاح والتجديد في العالم العربي والإسلامي الحديث، فقد كانت لمحمد أركون نظرة خاصة لما يسمى بـ: "الإنتروبولوجية الدينية"، كما تكلم عن العلاقة بين تطبيق الدين الإسلامي تطبيقا صحيحا وتقليده، على غرار ما حدث في التقليدين اليهودي والمسيحي، وصولا إلى غاية "علمنة" المجتمع الإسلامي وتنويره، فمحمد أركون كان له منهجا خاصا في تطبيق النص القرآني وهو منهج كان قد طبق على النصوص المسيحية، ويتلخص في إخضاع القرآن للدراسة النقدية التاريخية المقارنة، والتأمل الفلسفي لمعنى النصوص، ودعا إلى إخضاع النصوص القرآنية إلى النقد من وجهة نظر تاريخية، فمن جهة أراد بذلك أن ينتقد الأطروحات الاستشراقية للعقل اللاهوتي عند أهل الكتاب، ومن جهة أخرى أراد أن يفسح المجال أمام الحداثة والأنوار، بمعنى أنه يحرص على التمييز بين المُفَكِّر فيه وبين اللا مُفِّكِر فيه وما لا يمكن التفكير فيه داخل النسق الإسلامي، وهذا لمعرفة إن كان الدين ثابت أو متغير.

تبقى إشكالية العلاقة بين الإسلام والمسيحية من وجهة الباحثين من القضايا الحساسة جدا، لاسيما في هذه المرحلة بالذات، مرحلة يتكالب فيها البعض على الإسلام والتحولات السياسية التي تمر بها المنطقة العربية، تلعب فيها النزاعات دورا هاما، تظهر فيها مصطلحات ومفاهيم جديدة تحتاج إلى أكثر تبسيط مثل: ( المواطنة، الحداثة، التحرر الفكري والديني، الأنسنة، الدمقرطة، العرقومية، العردينية، العلمنة، الإسلاموفوبيا، وغيرها من المصطلحات، كمصطلح "الأسلمة" islamization، والذي يقابله مصطلح التنصير والتهويد، في ظل تطور الفلسفات والسياسات، وهي طبعا بالنسبة للبعض مسألة معقدة وشائكة لأسباب عدة، بسبب ظهور مصطلحات جديدة كالعربنة، وإن كانت هذه المصطلحات هي ثمرة تلاقح أفكار نخبة من العلماء ورجال الدين والمختصين في العلوم والإنتروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس وحتى الطب، فإن الصراع القائم بين التقليديين والحداثيين مستمر، والدور الذي لعبه المستشرقون في نقل أفكارهم وترجمتها، خاصة وأن لفظ أسلمة كما يقول بعض الباحثين من الألفاظ التي شاعت في الدراسات الغربية وكتابات المستشرقين، أي تَحْويل الفكر من منهجٍ ما إلى منهجٍ آخر قائم على الإقرار بشرائع الدين الإسلامي، تضاف إليها مختلف النظريات التي نشأت منذ عصور، ما أراده المؤتمرون هو تنبيه "النخبة" من السقوط فريسة الأفكار السطحية التي يطرحها قليلي العلم والفكر.

 

علجية عيش

 

 

في المثقف اليوم