تقارير وتحقيقات

الرصاصة الطائشة وتغير مجرى التاريخ

"الرصاصة (العيار) اللي ما تصيب تدوش".. مثل عربي

اشهر نصب لمسدس في العالم المكنى بنصب (لا للعنف). رفض نصبه في البلد الاصلي الذي ينتمي اليه النحات كارل فريدريك رويترسفيرت  (1934 - 2016)،  فغزى هذا النصب اليوم ساحات مدن جميع انحاء العالم وطبعا وطنه الاصلي كذلك.

الكل يعرف مقولة: رب رمية دون رام.

التاريخ الانساني مليئ بحوادث لا نجد دوما سببا معقولا لحدوثها. كان هناك قوى غير مرئية من ما وراء الطبيعة تتحكم بها. الحوادث ليست مطلقة ولا نسبية وهي ليست مبهمة كذلك لكنها قد تغير مجرى التاريخ. قد يكون هناك علاقة بين الحادثة ولقاء شخصين في زمن معين ومكان محدد دون اي سابق معرفة او تخطيط.

الروليت الروسي لعب بالنار قد يؤدي الى انتخار الاعب اثناء اللعبة. تعتمد على الرصاصة الطائشة. مفهوم اللعبة تاتي من وضع رصاصة واحدة في مخزن السلاح (الشاجور الدوار) اليدوي اي المسدس (ذو الست رصاصات) من نوع (مالكوم) الشهير. هذا المسدس نراه على الاكثر في افلام الكابوي (رعاة البقر) وما يسمى افلام الغرب المتوحش. عرفت اخيرا ان العديد من تلك الافلام صورت في مدينة الميرة الاسبانية والتي فيها مناطق شبه صحراوية (يعتقد الناس بانه لا يوجد صحراء في القارة الاوربية) وقد تم بناء قرى باكملها على طريقة العمارة الامريكية البيوت الخشبية في الافلام الكابوي (رعاة البقر) وتحولت المنطقة الى مزار للسواح. لا يزال يصور هناك الافلام الى يومنا هذا. خاصة ما كان يسمى ب(افلام اسباكيتي كابوي) وكان معظم الممثلين من الطليان والاسبان.

3950 توفيق

صورة جدارية من متحف المرية، الاندلس

اما في مملكة السويد فهناك قرية سياحية (هاي شبرال) بني على نفس النمط (النمط الريفي الامريكي القديم) يزورها السياح مع اطفالهم كي يعيشوا في اجواء الغرب الامريكي. يؤدي الممثلين المحلين الادوار الشخصيات المشهورة والتي شاهدناهم في بعض افلام الكابوي

3951 توفيق

ملصق دعائي للقرية هاي شبرال السويد

الهدف من اللعبة اي الروليت الروسي هي ان يظهر الاعب اعلى درجات الجسارة والشجاعة اي لا يخاف حتى من الموت. استخدمت اللعبة في العديد من افلام هوليود الامريكية. السياسة الدولية اليوم يشبه كثيرا هذه اللعبة (القذرة) التي يرهب الاعب والمتفرج معا في نفس الوقت. العديد من الدول استخدمت هذه الرصاصة في لعبة الحرب والسياسة وكانت النتيجة دوما الخسارة كتلك الطلقة الطائشة تحيد من مسارها الطبيعي وتستقر في قلب احد الضحايا. كمن يقول (رب رمية من دون رام) هذه الطلقة الطائشة في العلوم العسكرية اجريت كتجربة على  100 اطلاقة مدفع اطلقت تحت نفس الضروف والاسلوب والمدفع نفسه. الا ان دوما احدى طلقاتها تحيد عن مسارها. وتلك الرصاصة الطائشة  كانت سببا لاشعال الحرب العالمية الاولى حين اطلق صربيا قوميا الرصاص على ولي عهد النمسا فرانس فرندينارد.

مخلص الكلام، هذه اللعبة تشبه مبدا الاحتلال في نتائجه السلبية على الظالم المعتدي، على الضحية البريئ وعلى المتفرج الذي ليس له (لا ناقة ولا جمل).

كنت قد كتبت كلمة (الإمبريالية الروسية) كمصطلح جديد في القاموس السياسي المعاصر في احدى مداخلاتي وطبعا استهزء بها البعض فيما قدم اخرون تعريفا لكلمة (الإمبريالية) لتوضيح الامر على انها اعلى درجات الرسمالية. اعادة امجاد الماضي حلم القوميين في كل زمان ومكان.

كنت مع زوجتي في زيارة قصيرة الى مدينة (مالمو) نهاية العام الماضي. المدينة تقع في جنوب مملكة السويد وتربطها عبر بحر البلطيق جسر جميل مع عاصمة الدنمارك، كوبنهاجن .إحدى صديقات زوجتي مشكورة، حجزت لنا في فندق وسط المدينة غرفة جميلة تطل على المحطة المركزية في المدينة. مدينة احببتها ودرست في جامعتها كباحث قبل أن أحال على التقاعد.

وكنت قد حللت في هذه المحطة لاجئ  قبل ٣٥ عاما. ولا زلت أتذكر شكل البناية القديمة، رغم التغيرات الكبيرة التي أجريت عليها من تكبير البناية وتحديثها.

نزلنا في هذا الفندق وفجأة وانا ادقق في اللوحة النحاسية في بهو الفندق والتي خط عليها أسماء المشاهير  والشخصيات من نزلاء الفندق عبر التاريخ ومنذ تأسيسها قبل الحرب العالمية الاولى. إذ بي ارى بين اسماء تلك الشخصيات من أمراء وفنانين وسياسيين والذي جلب انتباهي هذا الاسم بالذات لينين (فلادمير اتش لينين) الذي كان يوما ما أحد نزلاء هذا الفندق الجميل مع ثلاثين من رفاقة في طريقهم من  منفاهم زيورخ في سويسرا وعبر المانيا النازية والسويد وفلندا وصولا الى سانت بطرسبورغ

3952 توفيق

الصورة من المتحف الروسي في ملقا، الأندلس

هذا  الاسم بالذات غير تاريخ العالم باسره منذ ثورة 1917 وانهيار روسيا القيصرية ومن ثم تاسيس الإتحاد السوفيتي  عام 1922 و"الايام العشرة التي هزت العالم" وكاد لينين أن يموت غرقا في الحدود وفي إحدى بحيرات شمال السويد أو فنلندا وربما كانت تلك الحادثة حافزا له بعد سنوات حين آثر عدم إحتلال فنلندا حتى بعد حربه معها ويمكننا ان نشاهد آثار الحرب قائمة لحد يومنا هذا في الحدود مع روسيا وبذلك أصبحت جمهورية فنلندا دولة مستقلة. اليوم تغيرت الصورة ف (لو) ها هنا حرف شرط غير جازم يفيد التعليق في الماضي أو المستقبل ، فرضنا انه غرق في تلك الحادثة  وكانت البحيرة كالرصاصة الطائشة لكنا راينا عالما اخر غير هذا ما نحن عليه اليوم. الغريب ان التاريخ مليئ بتلك الحوادث التي كان من الممكن ان تغير مجراها. العراق شهد عملية اغتيال زعيمها عبد الكريم قاسم عام 1959 وكان بين المجرمين القتلة اسماء غيرت لاحقا تاريخ العراق المعاصر واتوا بالماسي على الشعب العراقي وجيرانهم. لكن سياسة الزعيم وتطبيقه مبدا " عفا الله عما سلف" كان السبب المباشر لعدم تنفيذ القصاص بحق هؤلاء المجرمين. اللذين وصلوا الى الحكم لاحقا وعاثوا فسادا في الارض.  الشيئ نفسه يمكن قوله بالنسبة للدكتاتور ادولف هتلر الذي اصابه رصاصة في الحرب العالمية الاولى ولم تستقر في قلبه ليخلص الانسانية من شروره. والقائمة طويلة بين اشخاص نجوا من الموت ولكنهم تحولوا لاحقا الى اشرار وطغاة نشروا الموت والعنف.

3953 توفيق

اللوحة التي تزين مدخل احد الفنادق وعليها اسماء شخصيات غيرت التاريخ.

العالم في تغير مستمر ومن يعتقد اليوم ان هناك ولو ظل من أفكار لينين في القيادة الروسية الحالية فهم في وهم كبير ويعيشون في الماضي. روسيا اليوم دولة رأسمالية ، امبريالية بكل المقايس  كما عليه القوميين الحالمين بمجد ماضيهم التليد حين كانوا امبراطوريات تسعبد الشعوب.

اعود الى الوقت الحاضر لاذكر للقارئ الكريم ان بعض ما جرى في الماضي نرى آثاره في المستقبل وتلك دورة زمنية ومكانية تنطلق ثم تعود الى نفس النقطة والاي بدات كنها (اعادة وتدوير).

الحرب إحدى تلك الدورات حتى لو عاد ك"  كوميديا ".

التاريخ مليئ بالامثلة فيما يخص احتلال جيش لاراضي دولة ثم تاتي الخسارة بعد نشوة النصر القصيرة. لو عدنا الى صفحات التاريخ نرى حتى شعوبا هاجمت واحتلت دولا ثم ذابت الشعوب الغازية  وانصهرت بين ظهراني تلك الشعوب واختفت تماما من الوجود. صفحات التاريخ مليئة بتلك الحوادث.  الاندلس والحكم الاموي فيها لم يكن ليتم لولا نجاة عبد الرحمن ابن معاوية من بطش العباسيين اللذين قتلوا

جميع الأمراء من الامويين. صقر القريش الذي يكنى به هذا الانير مثل (الطلقة الطائشة) الذي حكم في الثكقرة الاوربية. انظر الى بلاد الرافدين وكم من مرة احتلت ولم يبقى من المعتدي اليوم اي اثر. لا بل انظر الى مصر وتاريخ الاحتلال للمصرين. ربما الاهرمات التي تعتبر احد العجائب السبع للعالم القديم الشاهد الوحيد  الذي لا يزيلة الزمن والحروب وتبقى شاخصا ودليل على فناء الاحياء جميعا وبقاء التراب والحجر وشعب وثقافة الشعب المصري العريق

3954 توفيق

الاستثناء الوحيد (الطلقة الطائشة) بين جمع يؤدي التحية النازية

المشكلة كما اسلفت ان بعض القذائف الطائشة تؤدي لحدوث امور غير متوقعة في مكان ما. كما هي في ظاهرة حركة الفراشات في غابات الامازون الاستوائية التي تؤدي طيرانها الدائري الى حدوث فراغات هوائية في الجو تؤدي لاحقا الى عواصف واضطرابات في الغلاف الجوي نتيجتها قتل الالاف وخراب مدن باكملها في الولايات المتحدة مثلا. هذا حال العالم اليوم فالجسد واحد حيث يحدث مجاعة في مصر اذا جرى الحرب في اوربا مثلا. نعيش اليوم  في عالم العولمة التي يسميها البعض (القرية الكونية) عالم تحول فية الدنيا الى (اسنان المشط) اي ناكل ونلبس نفس الماكل والملبس ونفس الماركات (العلامات التجارية) ونستخدم نفس الاجهزة بل نغني نفس اللحن وقريبا سنتحدث بلغة مشتركة ونتواصل عبر الانترنت حيث المسافات والوقت تساوي صفرا حيث نرى مجرى الحوادث حال حدوثها اينما كنا حتى على القمر.

اما تلك الرصاصة الطائشة ك(الطفرة الوراثية عند البشر) التي تطلق من مكان ما وعن طريق اوامر غبي جاهل بالتاريخ ومساراتها المتعرجة وهو بنفسه وبالتاكيد منتوج سيئ لمجتمعات الجاهلة صانعة الغباء التي تنتج الطغاة.

اطلاقة المدفع الطائشة لها قصة طريفة كان استاذي للغة الالمانية (شبرينغر) قبل اكثر من اربعين عاما في النمسا يرددها على اسماع الطلبة الاجانب اللذين ينوون الدراسة في الجامعة ولكنهم في السنة التحضيرية. تلك القصة الطريفة ذو المغزى الاستهزائي عن تلك القذيفة الطائشة التي اطلقها النمساوين على مقر الحامية العثمانية في المدينة واستقرت طعبعا حسب روايتهم على الطاولة التي كان قائد الحامية يتناول غذاءه. كنت امر من امام البناية كلما ذهبت الى اعدادية كيبلر في الجهة الاخرى من نهر مور . هذا الزقاق يقع في المدينة القديمة والمسماة سبور كاسه. في هذه البناية يشاهد جنديا عثمانيا وقد خرج بنصف جسده من الشباك ليرى من اين جاءت تلك القذيفة.

3955 توفيق

هذا ما سوف تشاهده وانت تمر من امام مقر الحامية العثمانية في مدينة كراتس النمساوية

نعم تلك القذيفة (الفاشوش اي حكم الغبي)  الطائشة تاتي بنتائج سلبية على الجميع ويحرق الاخضر واليابس كما فعل الدكتاتور النازي ادولف هتلر وامثاله وما اكثرهم في كل الازمان . اينما تولوا وجهوكم واينما كنتم حتى على سطح القمر سيكونون هناك امثالهم.

***

د. توفيق آلتونجي

2022

في المثقف اليوم