تقارير وتحقيقات

زيارة مدرسة تحتضر على ضفاف دجلة!

نكتفي بالصمت أنا وصديقي احمد الربيعي، منذ الخطوات البطيئة الأولى التي بدأت عند عتبة مقهى الشابندر في شارع المتنبي، الربيعي طبيب متخصص بالطب الباطني مقيم في استراليا،كان صباحاً مشمساً يدعونا للمضي أكثر، نجوس الطرقات المهجورة المؤدية الى مدرسته في سبعينيات القرن الماضي (الإعدادية المركزية)، وأرصفة الشارع عامرة بالخطى الواهنات، الشمس تصعد قليلاً بنور ساطع، يتجمع الناس كتلاً ودوائر، حول قاعدة تمثال، يلتقطون صور السيلفي مع المتنبي، أو حول مطعم كبة السراي الشهير، الأحاديث ممزقة متشنجة، الصمت متورم مملوء بالهواجس والخوف، كانت لدى الربيعي رغبة ملحّة في العودة إلى أيام الدراسة، حاولت أن أثنيه عن الزيارة، كنت أسعى أن لا يرى المكان على حقيقته الصادمة، اقترحت عليه بدائل أخرى ذات إيقاع مختلف، يقبل عليها الزوار.4881 جمال العتابي واحمد الربيعي

بظل ابتسامة ترتسم على شفتي الربيعي، سرنا على هواه ومزاجه وقياساته، على يسارنا مبنى الحكومة أو ما يعرف بـ(القشلة)، بحائطها السميك الذي تصاعدت فيه الرطوبة نحو أعلى تيجان الركائز الساندة للجدار، ما زالت حكايات الولاة العثمانيين الذين يمكثون في الحصن لم تنته، لدينا ألف تعلّة لم تنته، بموازاة القشلة مبنى آخر، ليس سوى جدار الواجهة الأمامية، البناية كانت تسمى متصرفية بغداد، هنا صوت يرن في خاطري خلف الجدار الوحيد المتبقي لمبنى نهشته أيادي السراق مثل فريسة أحالوها إلى ركام في حرب ضروس، صوت (والي بغداد)، في سبعينيات القرن الماضي، الذي أصدر فتاوى (تحريم الميني جوب).4882 جمال العتابي واحمد الربيعي

مضينا تطالعنا ملامح الأبنية المعذّبة، كنا نقطع شوطاً من المسافات مشياً، أعيد ما بيني وبين وزارة المعارف الملاصقة للشرطة العامة، من يردّ لها بياض الوجوه؟ من يستعيد بهاء العيون، منها انطلقت رحلة العمل في التدريس، في نهاية الستينيات صدر عنها أول أمر تعيين لي في الحكومة، رحت أبحث عن زاوية أودعت فيها بعض الأشياء، أوراق العمر، تركت عليها الأسماء، ثم نسيت الأسماء. خلف المبنى، يطلّ المصرف العقاري في  الركن المواجه للساحة التي يتعامد فيها شارع الزهاوي، أو ما يعرف بشارع حسان بن ثابت المركز الرئيس للمطابع ومقرات الجرائد لعقود من الزمن، المصرف الآن كأنه حقل محروق، أكداس من النفايات سدّت كل منافذه، ماذا لو قام أولئك الذين كانوا يشغلون الغرف الزجاجية فيه من مناماتهم، عن أي شيء سنحدثهم؟ لا ندري إن كانت تدبّ فيها حياة من جديد؟ أم أن الأزمان تمضي وتستقر في خزائن التاريخ اللانهائية؟ بلى كل الأزمان تمضي إلا زمن الخراب! ما زالت آثار مركز شرطة السراي شاخصة، وإن غلّفها الصمت، غارقة في نومها الأبدي، تفوح منها رائحة بول المعتقلين، أو المسفّرين الى السجون في أطراف المدن الصحراوية.4883 جمال العتابي واحمد الربيعي

قلت لصديقي أحمد، وفي نفسي صرخة محبوسة: كثيرة هي الجراحات، وغزارة النزف، كانت مركبة الشرطة تمضي بنا الى هذا المعتقل، لم يمر وقت طويل لاصطيادنا في فخ أقامه والي بغداد يستبيح فيه الورد وسيقان الصبايا الجميلات بأصباغ نتنة، كان الوالي يعيد عصر الظلام، ويترصد الجمال، ليخطف المعاني والأحلام، اقتادونا أنا وصديقي القاص عارف علوان إلى قفص حديدي، كأننا سبايا غزوات، وحشرونا على جدرانه ما بين حمّى الحقد وروح الإذلال، كانت الأيادي تعيدنا لإرث الصحراء، تلوح بالمقصّات لجزّ شعر رؤوس الخرفان، عفواً (الخنافس)، الذين تطاولوا على أمن الدولة، وتمادوا في إطلاق لحاهم، كان المشهد أشبه بحفل (عرس) أقامه الغجر البائسون، يرافقه صياح بوليسي هستيري: دعوا رؤوسكم مطأطأة أيها (المتخنثون)، هكذا تتعالى أصواتهم مثل سياط التعذيب.4884 جمال العتابي واحمد الربيعي

لم يتبق أمامنا سوى بضع خطوات لنكون في مواجهة البوابة الرئيسية للإعدادية المركزية، قلت لصديقي الربيعي: لنتوقف هنا عند هذا المبنى، ارفع رأسك قليلاً إلى الأعلى ما تزال بقايا لوحة (post) معلقة على الجدار تسألك: هل تذكرني؟ قال الشباك المفتوح، أسفل اللوحة، هل تعرفني؟ أنا دائرة البريد المركزي، ذبل لوني، وأصبح الحزن رفيقي، هل أتنبأ بأنك عدت الآن لتزورني وحائطي الأسود مبتل بسخام الطرقات؟ أكاد لا أصدق يا زائري أنك تعود إلى هنا حين غابت الخطوات عن الدرب، ما تزال صناديق الرسائل مغلقة، وأختام البوسطجيه مركونة في سلة حزن مهملة، أنا وحدي بقيت هنا، أبحث عن بلاد تضم رفاتي. تأوه أحمد حسرة، نفض عن يديه رماد الآجر المتآكل، لمحتُ في مآقي عينيه عَبرَة. قلت له: أريد أن أسمع ما يعتلج الآن في أعماقك، قبل أن تجتاز قدماك بوابة مدرستك:

– نعم يا صديقي أكاد لا أصدق صمت هذه الجدران، ولا خفوت رنين جرس المدرسة كان مثل قيثار يستفيق تارة ويصحو تارة أخرى، كأنه ناقوس دير يدعو للصلاة والشوق.

– دعنا يا أحمد أن نستعيد تاريخ هذا الصرح الذي كان موضع اهتمام الملك فيصل الأول، في غربه يجري نهر دجلة، يحجبه عنه دارٌ لبيت الحكمة، وشماله عبق التاريخ ممثلاً في القصر العباسي، وللحب طعم في جنوبه، في ملهى الهلال (مقهى البلدية) غنّت أم كلثوم في ثلاثينيات القرن الماضي. درسَ هنا عبد الكريم قاسم وطه باقر وحسين علي محفوظ وناظم الطبقجلي وقحطان المدفعي، وكمال السامرائي وفؤاد حسن غالي وعبد الوهاب البياتي، هؤلاء وغيرهم من نخب العراق الثقافية والعلمية تعلموا على يد أحمد سوسه وعبدالجبار عبدالله، يكفي المدرسة مجداً أن لجان تحكيم مسابقتها الأدبية كانت تتألف من علماء اللغة، أمثال مصطفى جواد، وعبد الستار الجواري.4885 جمال العتابي واحمد الربيعي

ما أضيع ما تسفحه الأدمع؟ كان الربيعي يتحسس الرحلة التي شغلها في صفه الخامس العلمي في الطابق العلوي، هنا قدمٌ، وهناك أقدام وحقائب، وأيادٍ تعطي، من قدسية الموضع، كان يرى ما لا أراه، يسمع ما لا أسمع، تُرى هل توسدت مدرستي أذرع البلوى، وغطّت في منام؟ أين شجرة السدر التي كانت تظلل الممشى؟ يبدو أن الفراشات ملّت رصاص الحروب، والعنادل حاصرها القتلة والجوع! أيا قدر المدرسة؟ يسألني:

– هذا ما يبيته لنا الزمان يا صديقي في تسلط هؤلاء الوافدين، لقد خسرنا الرهان، ها هي الريح تذرع المزابل، والشوارع والبيوت والمدارس، لتستقر في وجوه العابرين، تعبت خطانا يا أحمد تعبت في متاهات السنين، لنسترح قليلاً، فذا مكانك وكحل عينيك، تغفو وتصحو، والخراب هو الخراب.

لم يعد الماضي يسكن الساحة الأمامية للمدرسة، ليس له شميمه، ولا عطره ولا ذكرياته، بعد أن لملم زمانه الشائخ وانطوى، نقف في وسطها كما لو كانت حلماً أو ذكرى منسية، أمامك تسقط كل ذكريات الفتية وحقائبهم التي تحمل أسرارهم وأحلامهم، الفتية الذين تعلموا في أروقتك شرط وجودك الإنساني المتسامي، ومقامك العلمي الرفيع، وإرثك الباذخ في التفوق، ها أنا أرثي مجدك المضاع لأن الزمن لم يعد يأبه بالعلم والمدرسة، لكني أعرف عندما يهرم المرء، تتناساه ورود الصبح، غير أن الورد قد يذبل والماء قد ينضب، والوجه يهدم، وتظل الكلمات، فأي إرث هذا الذي تزمّين شفتيك كرهاً من دون أن تموتي؟

***

جمال العتاب - بغداد

 

في المثقف اليوم