أوركسترا

قصر البارون.. ميثولوجيا العالم ومرايا الفكر والجنون

سارة فؤادالبارون الجنرال إدواد لويس جوزيف امبان ولد عام ١٨٥٢ في بلجيكا وتوفي ٢٢ يوليو عام ١٩٢٩..تاركاً عالمه الغامض وإرثه والذي يتكون من ضاحية مصر الجديدة وعدة مشروعات هامة،  قصره الذي يحمل اسم البارون مزخرف على الطراز الهندي يحاكي معبد انجكور وات في كمبوديا ومعابد أوريسا الهندوسية والمعابد الخميرية في شمال الهند. القصر لامس الكثير من المعتقدات وظل سحراً مثيراً للخيال والفضول أَو الخوف لدى البعض،

 من يكون البارون امبان؟ وما إنجازاته؟

كان البارون موهوباً في كل شيء يفعله سواء في الهندسة أو الصناعة والإقتصاد أو المعمار، وكان يعد أغنى أغنياء العالم. سافر إلى الكثير من البلدان المكسيك، البرازيل، أمريكا الجنوبية، إفريقيا، الهند والكونغو.. حيث أقام العديد من المشاريع، ولكنه عشق مصر إلى حد رغبته في الإقامة بها بقية عمره، كما أوصى بدفنه في تراب مصر حتى وإن وافته المنيه وهو خارجها، كان عبقريا وأكبر وحوش الصناعة في العالم، فشارك في مشروعات التطور الصناعي الهائلة بأوروبا وأسبانيا والصين ومصر، منحه ملك فرنسا لقب "بارون" نظراً لجهوده في إنشاء مترو باريس، ثم تقدم إلى الحكومة المصرية بمشروع إنشاء ضاحية جديدة في صحراء شرق القاهرة وأخذها بسعر جنيه واحد للفدان الأرض وبتسهيلات من الحكومة المصرية، وكان هذا في عهد الخديوي "عباس حلمي الثاني" (١٨٩٢–١٩١٤) واختار البارون لمدينته اسم "هوليوبوليس" أي مدينة الشمس والتي تعرف ب"مصر الجديدة".وضع تصميمها المهندس المعماري البلجيكي "إرنست جسبار" ورأى البارون أن الخدمات والمرافق تنقصها، فأقام بها محطات الكهرباء والمياه والمترو بالتعاون مع مبعوث شركة "مترو باريس " المهندس البلجيكي" أندريه برشلو"، وأنشأ ثلاثة خطوط من الترام في أماكن مختلفة بمصر الجديدة ليسهل الوصول إليها من وسط العاصمة، أقام أكبر فندق بالشرق الأوسط واستغرق منه عامين، وكان ينوي تسميته ب"الواحة" لكنه غير النية آوان افتتاحه إلى اسم "هليوبوليس بالاس"الذي أصبح حالياً " قصر الإتحادية" الرئاسي، واستضاف كبار العظماء في العالم آنذاك مثل "ألبرت الأول" ملك بلجيكا وزوجته الملكة "إليزابيث دو بافاريا ".كما أقام أكبر ملاهي بالشرق الأوسط، ثم بنى بعد ذلك خمس مدارس وأندية رياضية وحلبة لسباق الخيل وملاعب جولف. اختار المهندس الفرنسي" ألكسندر مارسيل" لبناء قصر" البارون امبان" بضاحيته المكتملة بجوار البيوت الكبيرة والتي صممها على الطراز البلجيكي والأوروبي والإسلامي.

2189 قصر البارون 1

تصميم قصر البارون..

تم بناء القصر على مساحة ١٢.٥٠٠ ألف متر، هي عبارة عن القصر الرئيسي والبرج وحديقته الواسعة، ويقع في قلب مصر الجديدة، في قلب شارع العروبة ويطل على شارع ابن بطوطة وابن جبير وحسن صادق. بني القصر ممزوجاً ومتأثراَ بمختلف الفنون الهندية والبوذية والعربية، بداية من تماوج زخارفه (والتي هي عبارة عن الفيلة الهندية والتنين الأسطوري والفرسان المحاربة بالسيوف وتمثال بوذا الذي يصارع غواية مارا وبناته في الأسطورة البوذية والذي يجسد برواية المنحوتات قوة النفس والتصميم) وانسيابها مع حدود النوافذ، على الأعمدة وحول البوابة الرئيسية في محاكاة واضحة لمعابد انجكور وات بكمبوديا وأوريسا الهندوسية، وفي تناغم مع نوافذ صممت على الطراز العربي، والقصر يضم تحفاَ بلاتينية وبرونزية وذهبية وساعة أثرية تعرض الوقت بالدقائق

والساعات والأيام والشهور والسنين مع توضيح تغييرات أوجه القمر! أرضيته من الرخام والمرمر المستورد من إيطاليا وبلجيكا، قيل أن البرج بني على قاعدة متحركة بحيث يدور دورة كاملة كل ساعة ليتيح الرؤية من جميع الإتجاهات، وحديقة القصر واسعة تجمع نباتات وزهور نادرة. القصر الرئيسي ينقسم إلى طابقين ويبلغ عدد الغرف ٧، بالطابق الأول توجد غرفتان للإستقبال وغرفة للعب البلياردوا، بداخل قاعة مائدة الطعام انتشرت رسوم مأخوذة عن مايكل آنجلو ودا فنشي ورامبرانت ومشاهير عصر النهضة، كما حمل كل ركن عموداً

رفيع الصنع من التماثيل الهندية الثرية بالأساطير البوذية والطابع الباعث على الرهبة بعض الشيء.وبالطابق الثاني أربع غرف للنوم وكل غرفة بها ملحق حمام خاص بها، صمم القصر بقصد ألا تغيب عنه الشمس فكانت تدخله من جميع غرفه ونوافذه، أما سطح القصر فتنتشر به زخارف النباتات والحيوانات الخرافية التي تكمل أسطورتها، فاستغله البارون لإقامة الحفلات وشرب الشاى وكان يصعد إليه بواسطة سلم من خشب الورد. أبدع زخارف القصر الفنان جورج لويس كلود.كما صممه بالكامل المهندس المعماري" ألكسندر مارسيل" وقيل أن للقصر سراديب ثلاثة، واحد يصل بين القصر وكنيسة البازيليك والثاني بينه وبين قصر الرئاسة والثالث بينه وبين فندق هوليوبوليس. في اليوم الذي توج فيه امبان بلقب البارون عام " ١٩٠٧" تم وضع حجر الأساس لقصره الجميل والذي اكتمل عام ١٩١١ حيث استغرق بناؤه ما يقارب خمس سنوات، وهناك وثائق فرنسية بتاريخ ١٩١١ تكشف أن لونه الأصلي هو الطوبي المحروق 

" burnt sienna "

2189 قصر البارون 2

ما بين الوقائع والخرافة والجنون

ظل قصر البارون مساحة خصبة للروايات والشائعات وأساطير الجرائم الغامضة، فقيل أن البارون كان له أخت تدعى هيلينا وقد لقيت مصرعها إثر سقوطها من شرفة بالبرج الرئيسي بالقصر وقيل أن البرج توقف عن الدوران منذ ذاك الوقت، كل ذلك على خلفية الظن بأن مقتلها فعل فاعل ولذلك توقف دوران القصر فجأة، فروحها غاضبة من أخيها البارون الذي تخاذل عن مساعدتها، وهناك مزاعم تروي أن للبارون زوجة كانت تفضل الجلوس في الغرفة السفلية أو البدروم والتي سميت بغرفة المرايا ولقيت مصرعها هي الأخرى.. وجدت جثتها مفصولة الرأس في مصعد لتوصيل الطعام من الدور السفلي إلى غرفة البارون العلوية ! وعن ابنته آن تعرفت إلى سيلفيا وهي ابنة صديقه والتي قادتها إلى عبادة شيطانية حيث أهدتها ورقة مفضضة مرسوم بها الصليب بوضع معكوس وثبتتها آن على حوائط غرفتها، ومن ثم انزلقت معها في أفعال المجون والممارسات الشيطانية والشذوذ وإشعال البخور وغناء التراتيل الغريبة بداخل السرداب، حتى وجدت آن مقتولة بعد عامين من تعارفها على سيلفيا الشريرة..! ظلت غرفة آن تذرف الدم فقيل أن أباها يحاول استحضار روحها مما جعل الدم يتدفق من الجدران وسميت غرفة الدم لذلك السبب "قبل ترميم القصر كان الحراس يقولون في هذا الشأن :نمسح الدم ويخرج غيره اليوم التالي ! " ولكن أثبتت وثائق بلجيكية تخص البارون أنه لم يتزوج إلا من امرأة أنجبت له ولدين هما جان ولويس ولم ينجب البنات أبداً، كما أنه توفى قبل كل إخوته، وسابقاً صرح فريق إحياء قصر البارون المفوض للإشراف على القصر من جهة وزارة الآثار أنه لا يوجد ما يثبت حتى الآن أن القصر دوار فالفكرة صعبة قليلاً، ولكي يدور القصر سيحتاج أن يثبت على قاعدة رمان بلي بمساحات واسعة جدا تتيح للقصر آلية الدوران والتحرك، وفي تصريحات سابقة مع إحدى الصحف قال د.رفيق جورج صاحب كتاب "قصر البارون" أن الدم على حوائط الغرفة قد يعود إلى اصطدام الوطاويط لدى طيرانها في الظلام (وهو مستحيل علميا كون الوطاويط تشعر بالمجسمات أمامها!) أو نتيجة لممارسات عبدة الشيطان في فترة التسعينيات حيث جذب غموض القصر والأساطيرالحوامة حوله مجموعة من الشباب المنتمين لعبادة الشيطان واستغلوه كمساحة خصبة تتيح ممارسة الطقس الشيطاني وذبح الحيوانات وإقامة حفلات الميتال ! الدماء المنتشرة بغرفة الدم نتيجة ذبحهم الحيوانات مما فجر الدماء على الجدران أو ربما صدأ نتيجة عوامل الزمن أصاب الحوائط وأعطى لون الدم

2189 قصر البارون 3

رأي

القصر ليس مجرد انعكاس لحضور الفنون القديمة وأساطير الميثولوجيا، وليس مجرد أثر لسيرة عبقرية مرت بظروف زمنية واقتصادية لها سماتها الحضارية ثم التقت بسحر مصر فأبدعت المشاريع والإنجازات، ولكنه أيضاً فضح سطوة تأثير الخرافة في طبقة لا بأس بها من المجتمع المصري، كأنه كان المرآة بوجهيها وجه يعكس الجمال ووجه يعكس الإنقياد وراء الخرافة والتبريرات الضالة والهروب والإهمال، القصر الهائل برواياته وفترة خرابه وسكونه يعكس تلذذ البعض بسماع الخزعبلات بدلا من اقتحام الحقيقة وسبر أغوارها والبحث عنها، وبدلاً من فعل شيء جاد كما فعل البارون امبان الأجنبي، تأخرنا كثيرا في إحيائه والعناية به حيث ترك مهملاً لسنين. إذا تأملت ما جرى عبر العقود الماضية وما أصاب حالة القصر أدركت مدى تصديق أغلبية الناس والمحيطين به أنه مسكون بالجن والأشباح والماورائيات، لتجد البعض يؤكد سماع أصوات الأثاث تتحرك في غرف القصر، ورؤية الحرائق تشتعل وتنطفئ من تلقاء ذاتها وهي حادثة رواها بعض حراس القصور المجاورة في الثمانينات بيقين مخيف، ورغم تناثر تلك الأقاويل لم يظهر واحد منهم يجزم أنه رأى بعينه شيئاً فالجميع يتناقل الأخبار في سلسلة لا نهاية لها ! ورغم أن الجن مذكور في العقائد السماوية إلا أن الإثبات للقصص قبل تصديقها واجب أدبي هام.. لا يوجد ما يبرر إهمال القصر والبعد عنه لسنوات حتى أصبح خرابة مهجورة وساحة لعبدة الشياطين وشواذ الخيال، ما أدى إلى حادث القبض على عبدة الشيطان ١٩٩٧ الذي شغل الرأي العام، فالقصر باختصار موضوع هام ظل طي التغافل والركون إلى السلبية لما يقارب مائة عام، إلى أن بادرت أخيراً ومتأخراً وزارة الآثار بفكرة إحياء قصر البارون تحت ظل سلسلة من مبادرات الحكومة الجيدة بغرض البناء والتخطيط العمراني وأيضاً إحياء المعمار القديم، فعقد المهندس "محمد ابراهيم سليمان" اتفاقاَ مع ورثة القصر من عائلة امبان يقضي بالتنازل عن القصر للحكومة المصرية لطرحه ضمن الآثار المصرية، مقابل منحهم قطعة أرض في القاهرة الجديدة تصلح للإستثمار مما مهد لإعادة ترميم تلك التحفة "البارون" والإهتمام به، عاد تاريخ البارون مع فكرة الإحياء وفتحت السجلات المنطقية الخاصة بوقائع هليوبوليس وأهم ما حدث برأيي أن حواجز الأكاذيب حول القصر بدأت في التلاشي بشكل طريف فالوهم نهايته السقوط .وليتها كانت خطوة مبكرة تهتك ستر العفاريت! .. وعن ذلك بادرت مصر في ١١ سبتمبر ٢٠١٩ بتوقيع " اتفاقية التفاهم" مع بلجيكا بغرض التعاون معاً لإقامة معرض عن تاريخ مصر الجديدة "هوليوبوليس والمطرية" عبر العصور بقيمة ١٦ مليون جنيه في إطار مبادلة الديون البلجيكية، وتم ترميمه وافتتاحه فعلا بتاريخ الإثنين، 29 يونيو 2020 كمزار سياحي ولولا ذلك لاستمر القصر ساكناً في جنون الوهم دون مردود عملي ولظل صرح حيث تلهو الهلاوس بالخيالات وبالعقول كما يروق لها،  ولو تحدث البارون من قبره لأعلن رغبته في حماية القصر منذ زمن طويل مضى، ولكن تكلفة ترميم القصر بلغت في النهاية ما يقارب١٧٥ مليون جنيه مصري !

لقد أحب البارون مصر حتى ود أن يخلق بها مشاريعاً ومدناً ويكرس أمواله لأجلها، وهو الشيء المفترض تقديمه من ذوي رؤوس الأموال ورجال الأعمال والمسؤولين، الشيء المفترض عمله من ناحية المصريين قبل الأجانب فنحن أولى بالأسبقية في حب مصر وتقدير ثقلها كما قدرها البارون الأجنبي والغريب عنها أصلاً، ولذلك كانت خطوة جيدة لإحياء القصور القديمة تقود إلى فكرة إحياء عشرات البيوت والقصور والتي تعد من الآثار القديمة بدلا من هدمها أو تركها للإنهيار والخسارات وعوامل الزمن، وبرغم التكلفة العالية التي تم إنفاقها على القصر إلا أن الجدار الأقرب إلى حديقة القصر يعاني الآن تسرب الرطوبة والأملاح التي شوهت منظره بشكل يبعث على الدهشة نظراً لحملة الترميم والصيانة الكبيرة والتي لم يمض عليها فترة طويلة ! وتناقلت السوشيال ميديا بعض الصور في حالة من الإستياء تحت عناوين "من المسؤول !!"،  كما عاب البعض سوء الإهتمام بالتسويق لقصر البارون مما جعل نسب الزيارات ضئيلة

بينما ردت وزارة الآثار باتخاذ كافة الإجراءات العملية اللازمة لعلاج الرطوبة بالجدار على أسس علمية، قائلة بأن الجدار المتضرر هو الأقرب من الحديقة فمن الجائز أن تمسه الرطوبة وخاصة في المنطقة السفلية منه لتسرب الأملاح بسبب الري ولذلك استبعدت ري المضخات واستخدمت الري بالتقطير حفاظا على القصر، كما أكدت أن نسب الزيارات جيدة لا بأس بها ولا يعاني القصر نقص السائحين بل هناك توافد مستمر للقصر..على حد قولهم ! كما بررت الوزارة مؤخراً سبب ارتفاع تكاليف ترميم القصر من مائة إلى ١٧٥ بأن تلك الزيادة كانت من أجل ترميم السور المحيط بالقصر والوزارة ترغب في إقامة الحفلات داخله دون المساس به لإسترداد ثمن التكاليف لأن بيع التذاكر بثمن زهيد لايكفي!

الإهتمام بالقصر والتسويق له يعد شيئاً بسيطا نقدمه لإحياء "سيرة البارون" الذي عاصر حقبة مصرية بظروف اقتصادية" واجتماعية معينة وعكس تاريخها بمشروعاته المثمرة على أكمل وجه، قدم خلال حياته إنجازات ومشاريع حضارية عظيمة لمصر وجديرة بالذكر والإنصات، البارون أحب مصر من صميم قلبه أكثر مما يحبها بعض حاملي الجنسية والأصول المصرية ربما. فهل يصح أن نهمل ونتغافل عن أبسط الأشياء والتفاصيل الأولى بالرعاية والبحث؟! لا..لم يكن البارون ذاته ليتوانى عن رعاية خططه الإقتصادية والحضارية أو يتخاذل بالتقصير في أدق تفاصيلها لأنه يقدر سحر تلك البلاد! فإنها مصرنا العزيزة ونحن أولى بحبها أكثر مما أحبها البارون امبان العظيم.

 

سارة فؤاد شرارة

 

 

في المثقف اليوم