 مناسبات المثقف

خيط ممدود

aza_rashadالى المثقف:

كل سنة وصحيفتنا الغالية

 أكثر شموخاً وجلالاً

 

الضوء باهر.. باهر، لا أتذكر إن كان ضوء الشمس أم مصباح ضخم، الساحة أيضاً واسعة وموحشة كأني أراها للمرة الأولى،  لكن ظل الولد كان أكبر منه وهو يعطيني ظهره ويعدو. أعدو، بكل طاقتي، وراءه، فأنا وحدي أحسست بحرقة قلب أمه منذ فارقها.

 

أمرق داخل أزقة وممرات ضيقة، تظهر على جانبيها أبواب، بعضها موصدة، وبعضها ينفتح وينصفق بعنف عند بلوغي إياها دون أن يطل منها أحد. العرق يغمر جسدي، ملحه يلهب لساني، ثوبي المبتل يلتصق بنهدي المنتفخين، وحذائي يوشك أن ينخلع من قدميّ المسرعتين.

 

يختفي الولد. أتوقف، ثم ألمح طرف ظله باتجاه طرقات أخرى أكثر غرابة، فأغير اتجاهي وأعاود العدو. يتوارى الظل فلا أتوقف.

يختفي الضوء الباهر فجأة، وتحل ظلمة كثيفة وأنا أجتاز الممرات الضيقة. أتحسس الجدران كي لا أصطدم بها. أعدو.. خائفة من فقد أثره، من الاصطدام بالجدران، من التيه، من السقوط والارتطام بالأرض، من انفتاح أحد الأبواب فجأة يطل منها شيء مجهول، من مباغتة الولد لي بإحدى ألاعيبه المدهشة....

 

كان صغيراً.. صغيراً عندما لفوه في الأقمطة البيضاء ووضعوه، بفرح، في المنخل الكبير الذي يخص الجدة العجوز ذات الوشم المميز فوق جبهتها. راحوا يهزون الغربال ويطيرونه في الهواء فتبتسم الجدة بأسى وتهتز الأرائك والوسائد وينتفض قلب أمه. همست بوجل:

ـ انتظرته طويلاً.

كانت رائحة المسك والزعفران تملأ الجو عندما أشاروا للمبخرة وأعطوه لها آمرين: خطي.

الأولة.. باسم الله

والتانية.. باسم الله

والتالتة.. لا حول ولا إلا

والخامسة.. حصنتك من كل مَن شافك ولا صلى

رشوا الملح ثم علقوا فوق قلبه خرزة زرقاء فبكى. ضمته وألقمته ثديها ومسدت بأناملها خده الطري وغنت:

نام نام وأنا أجيبلك جوزين حمام

أغمض عينيه وابتسم فكبر خده.

 

يعود الضوء فجأة، لكنه ليس باهراً هذه المرة، بل شاحب كضوء مصباح فلورسنت ضعيف أو كأول خيط من خيوط الفجر.

أرى أمي هناك.. بجلبابها المشغول بخيوط زاهية، وطرحتها البيضاء الملتفة حول وجهها وعنقها كهالة نور. أمي جالسة فوق عشب أزرق، وأنا.. "صغيرة"، رأسي نائمة في حجرها، وشعري الطويل ينسدل مفترشاً العشب. تبتسم وهي تجلسني برفق أمامها وتلملم شعري المهوش، وتضفره لي. تغني بصوت هادئ وهي تعقد ضفيرتي بشريط أزرق، ثم تضع رأسي، مجدداً، في حجرها وتهدهدني فينسدل جفناي. قبل أن أغفو تطالعني، من بين الشجيرات النضرة، عين الولد كبيرة لامعة، تحدق باتجاهي ثم تختبئ في تشابك الفروع. أنهض متجاهلة دهشة أمي. أتخابث عليها بغمغمات وهمية كي أهرع وراءه. يتوارى. أتلفت حائرة ثم ألمح طرف ظله باتجاهٍ آخر فأعدو دون أن أودع أمي.

 

تحت الظلال المتقطعة لشجرة لم تورق بعد، كان يقف الشيخ العجوز عندما حدق بخطوط كفه الصغيرة ثم رفع نحو أمه وجهاً خالياً من التعبير، ولم يفتح فمه إلا وهو يلتقط فراشة حمراء حطت فوق شعرها. يبتسم بما يشبه ابتسامة قديمة هامساً:

ـ الفراشة الحمراء أجمل الفراشات... لكن عمرها قصير !

وضع الفراشة في كفها فبقيت ساكنة بلا حراك.

 

يباغتني الولد بعيداً عن ظله. يحتضنني. يدي الصغيرة جداً عما هي عليه تحتضن يده الصغيرة. يبتسم الولد، فيكبر خده، يكبر الولد، وأنا.. "صغيرة.. صغيرة" أضع رأسه في حجري وأغني. أوصيه ألا يبكي كثيراً بعد موتي فينفجر في الضحك، ويضحكني معه.

 

الدخان يملأ الجو ويغطى وجوه الرجال، الذين انكفأوا يعالجون آثار الدمار الذي حل بالبلدة، بسناج أسود. أخبرني أحدهم أن الولد كان في حضن أمه قبيل ثوانٍ من اختفائه، دون أن يتوانى عن تحميلها مسئولية ما حدث. وحكى آخر عن انضمامه لسرب الفراشات الملونة التي أفزعها الضجيج والدخان ففرت بعيداً، وتهامس آخرين عن رجال المعاطف البيضاء الذين استماتوا في محاولة إنقاذه. يغز أحدهم قلبه بالإبر والعقاقير. يتألم الولد ويصغر خده.

الألم أحسه في قلبي.. لماذا لا ينتبهون لصوتي؟ أخبروني أن أحدهم لمحه في مكان غير بعيد. أعدو، بكل قوتي وراءه. أود لو أضمد جراحه، أفتش عنه في العشب الأزرق، في غربال الجدة العجوز، في خيوط جلباب أمي، في أفرع الشجيرات التي احترقت قبل أن تورق، في لفائف صحف قديمة بقيت بعد زوال ممالكها، في كومة أحشاء منتزعة من أجسادها راقدة بجوار باب المشفى المتهدم، أفتش فلا أجده. أريد إعادته إلى حضن أمه. أريد ملامسة خده الطري.

 

كان في حضن أمه عندما انطلق الصفير، فاحتضنته أكثر. كانت تخاف عليه من من الهواء الطائر ومن القلوب الحاقدة ومن كل من شافه ولا صلى. تخاف عليه من أزيز الطائرات وقعقعة المدافع ودوي الانفجارات، لذا خباته بين نهديها وضمته أكثر.. أكثر، ربما، مما ينبغي، أو مما يمكنه أن يحتمل. أخبروني أنهم أفلتوه من حضنها بصعوبة...

 

عند حافة الرمال الصفراء يظهر الشيخ العجوز بوجه أكثر تجعيداً ولحية مبعثرة اتسخ بياضها بلون الرماد، يلملم بيديه المرتعشتين شعري المهوش ويضفره لي دون أن يبتسم ثم يعقد ضفيرتي بشريط أسود.

يشير لصخور بعيدة وصبارات وشواهد قبور صغيرة.. صغيرة، ثم يصيح وهو يدفعني بحسم:

- عودي.

أفكر بالولد... ثم ألتفت مخلفة له في أثري قطرات اللبن التي لم تجف من نهديّ بعد.. خيطاً ممدوداً فوق العشب الأزرق.

طبيبة واديبة وروائية ورئيس تحرير مجلة مصرية

 

خاص بالمثقف

..................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: المثقف .. خمس سنوات من العطاء والازدهار: 6 / 6 / 2011)