شهادات ومذكرات

العلامة مصطفى جواد في مذكرات الدبلوماسي نجدة فتحي صفوة

1264 مصطفى جوادبكل فخر واعتزاز نستذكر هذه الايام بمرور خمسين عاما على رحيل أيقونة العراق الموسوعية وحارس اللغة العربية العلامة الدكتور مصطفى جواد الذي أغمض عينيه بتاريخ (17 /12/ 1969) وغاب جسده الطاهر وصار ترابا عند رب كريم ولكن صوته الرخيم ما زال يصدح في الأجيال ب (قل ولا تقل) على الرغم من اليوبيل الذهبي لرحيله.

لعل من المفيد ان نشير هنا وبهذه المناسبة الى معلومات قد تكون جديدة عن فترة ايفاد د مصطفى جواد الى إنكلترا لتدريس الملك فيصل الثاني اللغة العربية حينما كان يدرس في احدى المدارس الإنكليزية في لندن والتي وردت في سياق مذكرات الدبلوماسي الراحل نجدة فتحي صفوة (الأدب والدبلوماسية في حياة نجدة فتحي صفوة) الذي كان يعمل ضمن طاقم السفارة العراقية في تلك الفترة، ولكن قبل التطرق الى هذه الذكريات نجد لزاما علينا أمام الأجيال الشابة التذكير بقليل من كثير مما قيل او كتب عنه من قبل كبار العلماء والمفكرين والكتاب باجمل الكلمات واروع الاوصاف التي تليق بعاشق العراق الذي قال عنه النحات الراحل محمد غني حكمت :

- ( ابالغ اذا قلت .. مصطفى جواد جعلني أعشق العراق أكثر، وهو عاشق كبير للعراق، فقد تعلمت منه كيف احب العراق).

فيما يصفه رئيس المجمع العلمي العراقي الاسبق الراحل الدكتور عبد الرزاق محي الدين :

- (مصطفى جواد رجل في مجمع ومجمع في رجل .. لقد أولدك العراق فكنت من انجب ابناءه راعيا لطامس اثاره وكاشفا عن دارس اخباره وتبنتك العربية فكنت من اكرم ابنائها برا بها وحدبا عليها بل كنت من صفوة الصفوة ولب اللباب).

وكتب عنه العلامة الراحل د حسين علي محفوظ

- (كان مصطفى جواد مرآة تاريخ بغداد، ومرآة خطط بغداد ويعد من فلاسفة النحو العربي، وهو من أعلام المؤرخين وأكابر المحققين. لا بل هو في الطراز الأول في العربية والتحقيق والتاريخ، استاذ الكل واليه تنتهي المعرفة في اللغة والتاريخ في عصره) .

عن تميز شخصيته تحدث زميله شيخ الوثائقيين العراقيين الراحل د. سالم الألوسي قائلا :

- (لم تجتمع في اي شخصية عراقية، كما اجتمعت فيه هذه الصفات كمؤرخ وأديب وعالم في اللغة وعالم في الفلكلور، وعالم في البلدانيات .. هذه هي التي ميزت مصطفى جواد وجعلته مميزا من بين الشخصيات العلمية والأدبية ليس في العراق فحسب وانما على مستوى الوطن العربي.. لم يلمس اي فرد من اصدقائه ومحبيه اي ميل الى اي طائفة، المسيحيون يحبونه،اليهود،الشيعة، السنة، الأكراد يدينون له بالإكبار، وبالإعجاب المطلق، لأنه يمثل الشخصية الوطنية العراقية).

في حين يصفه الراحل الدكتور علي جواد الطاهر بالكنز الضائع !:

- (أمّا مصطفى جواد فليس كنزاً بهذا المعنى المادي، وبهذا المفهوم الضيّق، إنّه كنز ضاع دون أن يستثمر، وتبدد قبل أن يستنفد. لقد ذهب الرجل وذهب الكنز معه، ولا يمكن في هذه الحال ردّ الفائت وتعويض الخسارة).

مصطفى جواد في مذكرات الدبلوماسي نجدة فتحي صفوة ..

في مذكراته " التي نشرها شقيقه نجيد فتحي صفوة مؤخرا يشير الدبلوماسي الراحل نجدة فتحي صفوة الى دماثة الخلق والشخصية اللطيفة والتميز بعذوبة الحديث وروح النكتة والتعليقات الذكية عند مصطفى جواد حيث اذ يقول في سياق مذكراته :

- ( توطدت علاقة الدكتور مصطفى جواد مع موظفي السفارة لكثرة تردده عليهم حيث كان يقضي معهم سويعات يمتعهم فيها بأحاديثه وتعليقاته الذكية، فاذا انتهى الدوام خرجوا معا لتناول الغداء في احدى المطاعم .... كنت حينها قد انتميت الى معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن وشرعت في اعداد أطروحة في أدب المهجر فصرت انتهز فرصة زيارة مصطفى جواد لنا لأطلعه على ما اكتبه من فصولها وافيد من ملاحظاته وآرائه .. وخلال الأيام التي يزور فيها السفارة كان يقف وسط الغرفة، او يقطعها جيئة وذهابا بخطوات قصيرة ويقف أحيانا متكئا على احد المكاتب، فيحدثنا حديثا عذبا في شأن من شؤون الأدب او في احداث العالم، ويقارنها بما يماثلها من احداث التاريخ مستخرجا من العبر او يعود للحديث عن السياسة او يطلق عليها النكات التي كانت طابعه الملازم في حديثه، الا انه لم يضمنها كتاباته - مع الأسف – اذ اتسمت بالجد ولم تنعكس شخصيته اللطيفة عليها، من جملة ذلك تعليق لطيف اطلقه د مصطفى جواد اثر حادث وقع لفراش إنكليزي ووكر وكان هذا حريصا على واجبه وجم الادب صباحا، ولكنه مدمن على شرب الخمر مساء، مما اودى بصحته وان لم يخل بعمله ..وبينما كان الدكتور مصطفى جواد في زيارتنا ذات يوم، علمنا بأن ووكر سقط فاقد الوعي في الطابق السفلي من مكاتب السفارة، حيث كان يقيم، فهرعت اليه ووجدته ممددا ارضا بقامته الطويلة، وقد اصفر وجهه وجحظت عيناه وكانت زوجته الى جانبه تبكي،عندها تذكرت أن الدكتور" ماكس ماكوفسكي" البولوني الجنسية جاء في زيارة للسفير، اذ كان طبيبا للملك الحسين بن علي، ملك الحجاز السابق ثم جاء الى العراق وأصبح من أطباء العائلة المالكة، وكانت له في بغداد شهرة واسعة وتكتظ عيادته الواقعة في شارع المتنبي بالمراجعين، الا انه لم يكن يحسن التحدث باللغة العربية، واسلوبه بالكلام مضحك ولا يفرق بين المؤنث والمذكر ولحراجة الموقف طلبت مساعدته فنزل الى السرداب مسرعا، وعندما عاد قال وهو يهز رأسه " ماتت ..من صك ماتت " بتاء التأنيث وعند سماعي الخبر عدت الى غرفتي متأثرا فوجدت زميليَ احمد كاشف الغطاء وخليل إبراهيم ومعهما الدكتور مصطفى جواد لا يزالون مستمرين بالحديث وسألني الجميع ما الخبر ؟فرويت لهم ما حدث ثم قلت ان الدكتور ماكس يقول انه " ماتت ..من صك ماتت " ويقصد انه مات حقا، فغط الجميع بالضحك لصفة التأنيث، على الرغم من أسفهم لما حدث ...... اما الدكتور مصطفى جواد tقال بنبرته المعروفة : لا تضحكوا كثيرا ! فقد يموت المرء ضاحكا ! وهو ما يردد بالعامية عن الضحك الكثير من الأعماق (يموت من الضحك)! كان ذلك التحذير للتوقف عن الضحك تعليقا نردده كلما نغص بالضحك لنكتة نسمعها ونتذكر من خلالها الدكتور مصطفى جواد..).

الحديث عن شخصية مصطفى جواد يطول ويطول ولا ينتهي في نقطة ولا يتوقف عند حد، لذا أحببت ان اجدد دعوة شيخ المؤرخين العرب الراحل د. حسين امين الى تكريمه من قبل الدولة والشعب قال وهو يصفه :

- (مصطفى جواد عراقي اصيل، رجل صريح، صادق الكلمة، لا يخاف من احد، وصرح انه من قرة تبة، وانه تركماني الاصل الذي جمع بين الاصل التركماني والابداع اللغوي في العربية ذلك الابداع الكبير ..مصطفى جواد النبتة اليانعة، المؤرقة، المثمرة، التي اعطى للعربية الكثير من الابداع والتطوير والازدهار، و يستحق من الدولة ان تكرمه ومن الشعب ان يذكره دائما، لما قدمه للثقافة العربية من علوم رائعة .. شخصية نادرة أنجبته العراق ولا يزال العراق يفتخر بمصطفى جواد، ويعد رمز من رموز العراق الكبيرة).

اليوم وبعد مرور خمسين عاما على رحيله، ترى هل استذكرناه بما يليق بمكانته وقامته العلمية ؟

 زاهد البياتي

 

في المثقف اليوم