شهادات ومذكرات

محمد الصبان: أحمد الطيب العلج.. ولد ليكون مسرحيا

محمد الصبانيعد الراحل "أحمد الطيب العلج" (1928-2012) إلى جانب الفنان المسرحي الراحل "الطيب الصديقي " من أبرز رواد المسرح المغربي، فقد كرس أزيد من ستة عقود من حياته لخدمة المسرح المغربي بالاقتباس والتأليف والتمثيل والتكوين، فهو المؤلف المغربي الذي كتب أكبر عدد من النصوص المسرحية، وهو المسرحي الذي طاف  كل ربوع المغرب، من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه ، لكي يقدم للناس أعماله المسرحية. لم يكتف بتقديم مسرحياته في العاصمة والمدن المركزية، بل وصل إلى المدن الصغيرة والقرى المهمشة، التقى جمهوره فوق خشبات أقيمت وسط الساحات العامة، وفي القاعات الفسيحة والضيقة، وفي ملعب كرة القدم، وفي كل مكان يمكن أن يتحول إلى فضاء مسرحي ييسر سبل اللقاء بالجمهور. وربما هذا ماجعل البعض يلقبه بموليير المسرح العربي.

ويمكن للمتأمل في مسيرة حياة هذا الرجل أن يلاحظ كيف كان القدر يقوده كل مرة إلى المسرح، وكأن المسرح هو الآخر يعشقه ويتواطؤ مع القدر لتحقيق الوصال .

ومن دون شك أن الصادفات تصوغ  أحيانا مسارات الحياة فتشكل نقطة تحول عميق في تاريخ الأفراد، وربما الشعوب. ألم  يؤدي سقوط التفاحة  إلى اكتشاف الجاذبية ؟ ألم يشكل هذا الاكتشاف بداية انطلاق تطورات علمية جليلة قادت الإنسانية إلى اختراعات مهمة غيرت وجه الأرض وأنماط العيش في مختلف بقاع العالم؟ْ !

إذا كان إسحاق نيوتن قد صاح "وجدتها وجدتها " حين   ومضت في ذهنه حقيقة الجاذبية إثر سقوط التفاحة فوق رأسه، فإن احمد الطيب العلج صاح في أعماقه "وجدتها وجدتها" عندما اكتشف  أو أدرك حبه للمسرح، وحدس وهو طفل في التاسعة من عمره أنه ولد ليكون مسرحيا.

أول لقاء له مع هذا الفن كان في أحد ايام سنة 1937  عندما رافق أخاه إلى مكان لا يعرف شيئا عنه  اسمه "المسرح" ، وبعد رفع الستار ومشاهدة العرض المسرحي صدم بهذا العالم الجديد، وانبهر بأصواته وأضوائه وشخصياته وحكاياته، ووشمت ذاكرته بتفاصيل هذا  اللقاء الأول وجزئياته: عنوان المسرحية " قف أيها المتهم" مخرج المسرحية : شهيد المسرح المغربي "عبد الواحد الشاوي"، أول ممثل يراه في حياته هو الفنان الموسقار "عبد الوهاب أكومي" وهو يؤدي دور "عطاء" في نفس المسرحية ... وتوالت بعد ذلك مصادفات أخرى نتجت عنها حكايات طريفة وطدت عشق العلج للفن المسرحي .

elgeترك الطفل أحمد الطيب العلج مقعد الدراسة مبكرا والتحق بورشة النجارة لتعلم الحرفة  وتحول إلى نجار في مدينة الدارالبيضاء،  وحدث مرة  أن جاءت إحدى فرق هواة  المسرح ، وكلفته بتهييء الخشبة لتقديم عرض مسرحي. أقبل العلج على إنجاز المهمة التي كلف بها، وبعدما أعد الخشبة وكراسي الجمهور والستارة حدثت المفاجأة المحرجة المتمثلة في غياب الفرقة المسرحية.. حضر المتفرجون وغابت صناع الفرجة ! ماذا سيفعل هذا النجار مع جمهور يطالب بانطلاق الفرجة التي حضر من أجلها؟ّ  كيف سيواجه صرخات الاحتجاج الغاضب؟.. فجأة لمعت في ذهنه فكرة تحقيق حلمه بالتحول إلى مسرحي ، فبادر العلج إلى ارتجال تمثيلية وزع أدوارها على زملائه الحرفيين، وصعد فوق الخشبة ليواجه المصير الغامض!. وكم كانت المفاجأة رائعة عندما لمس العلج إعجاب الجمهور بتمثيليته المرتجلة. فتأكد له من خلال هذه التجربة أنه خلق ليكون مسرحيا.

بعد ذلك اضطر العلج إلى ترك حرفة النجارة والعودة إلى مدينة فاس بسبب مرض أصاب رئتيه، ففتح دكانا في "سوق صافي" لبيع  الخضر في الصباح وبيع الصحف المرجوعة في المساء. في هذا الدكان رتب له القدر مصادفة أخرى على يد الطاهر سميرس رئيس فرقة "شباب الفن "  الذي أحضر إعلانا عن مسرحية تعتزم الفرقة تقديمها لتعليقه بباب الدكان  مقابل الحصول على تذكرتين لمشاهدة العرض. مرت الأيام والأسابيع ولم تقدم الفرقة عملها المسرحي، فبادر العلج إلى استفسار رئيس الفرقة عن الأمر، ثم اغتم الفرصة  لاستئذانه في السماح له بحضور التداريب، فتحقق له ما أراد. بدأ العلج يتردد على الفرقة لمتاعبة التمارين على المسرحية، وفي أحد أيام "السعد" غاب الممثل الذي يؤدي دور الخادم "مبروكة " فطلب منه مخرج الفرقة القيام بهذا الدور نيابة عن الممثل الغائب. لكن الفتى العلج لم يكتف بأداء الدور صامتا كما كان مفترضا، بل ارتجل جوابا لقي استحسان المخرج ، مما شجعه على الإمعان في ارتجال حواره بالعامية في عمل مسرحي مكتوب بالعربية الفصحى. وهكذا قابل أحمد الطيب العلج الجمهور -على حد تعبيره- وهو "ممثل شبه مؤلف"، لأنه قام بتأليف الدور الذي كان يؤديه. بعد نجاحه في أداء هذا الدور تعززت ثقته في نفسه، سيما وأن هذا الوجه الجديد استثني من الهجوم العنيف الذي قابل به النقاد العرض. ومرة أخرى تأكد له أنه خلق ليكون مسرحيا.

عاد أحمد الطيب العلج إلى مدينة البيضاء للبحث عن فرص جديدة تمكنه من العودة إلى الركح  وترسخ علاقته بأبي الفنون، فكانت  المصادفة  مرة أخرى هي المفتاح الذهبي الذي فتح له أبواب التألق المسرحي . لكن العلج لم يترك  المصادفات وحدها تحدد مصيره ، بل عبَّد طريق النجاح بالإصرار والطموح  المدعوم بالموهبة  والثقة في النفس، فقد جاد الحظ هذه المرة بفرصة حقيقية، والموقف  مخالف للمواقف السابقة، بحيث وجد نفسه  أمام نخبة من المسرحيين الشباب، تم انتقاؤهم من قبل مديرية الشبيبة والرياضة، وبتأطير خبراء في التكوين المسرحي  مثل الفرنسي " أندري فوازان" والمغربي"عبد الصمد الكنفاوي". و ليس أمام فرقة مكونة من زملائه الحرفيين، أو فرقة من فرق الهواة، أو جمعية من جمعيات الأحياء. فكيف سينتزع العلج موقعا ضمن هذه المجموعة، وهولا يحمل أية شهادة علمية، في حين كان باقي الأعضاء من حملة الشهادة الابتدائية على الأقل؟ لقد استنجد بحرفته الأولى والتحق بالتدريب نجارا، وبهذه الصفة أو من هذا الموقع ظل يتابع  محاولة  "الطاهر واعزيز" و"عبد الصمد الكنفاوي " ترجمة مسرحية " حلاق اشبيلية" من الفرنسية إلى الدارجة المغربية، لكن ترجمتهما لم ترقه ، فأخذ أحداث الفصل الأول وبدأ يسهر على اقتباسها عندما ينام أعضاء المجموعة، وعندما انهى اقتباس الفصل الأول حاول إطلاع الكنفاوي عليه لكنه رفض وأجابه ممازحا "اذهب أيها النجار لخشبك".

لم ييأس هذا النجار العاشق للمسرح، وقابل الرفض بالإلحاح  والإصرار إلى أن أذعن الكنفاوي لرغبتة  وقبل الاستماع لما كتبه، فقرأ الفصل الأول من مسرحية " المعلم عزوز" المقتبس من "حلاق اشبيلية" ..أعجب الكنفاوي بهذا الاقتباس   ولغته العاميه السلسة والأنيقة ، فأمر بإلحاقه بالفرقة وصرفت له مكافأة مالية مهمة وصلت إلى أربيعن ألف فرنك، وكانت هذه بداية مساره الإبداعي  الغني في مجال المسرح.

لقد التحق أحمد الطيب العلج بالتدريب المسرحي  نجارا وخرج منه كاتبا مسرحيا وممثلا لامعا، ثم أصبح أحد أهم ركائز هذه الفرقة (فرقة المسرح الشعبي)، وتألقا تألقا كبيرا ليس في المغرب فحسب ، بل في فرنسا كذلك  عندما مثلت الفرقة المغرب في مهرجان مسرح الأمم بباريس سنة 1956 . لقد كشف العلج إلى جانب باقي أعضاء الفرقة على قدرات عالية في التشخيص بحركات دقيقة وإشارات تتسم بعفويتها وتلقائيتها التي تميز المحترفين الكبار، الأمر الذي جعل الصحافة الفرنسية تنوه بهم وتخصص مقالات للإشادة بموهبتهم .

إن تألق العلج على مستوى التشخيص يتكامل مع نجاحه في الاقباس والتأليف، فللكتابة العلجية  خصائص فنية  حققت لنصوصه تميزا وفرادة، وجعلت إنتاجه يحمل صفة المسرح الشعبي، ومن أبرز هذه الخصائص توظيف اللغة العامية المغربية الراقية و المرصعة بالحكم  والأمثال والأزجال، والبناء الدرامي القائم على البساطة والتحبيك المحكم للأحداث ، واستلهام التراث المغربي الشعبي برؤية تجريبية كما في مسرحية "قاضي الحلقة" ومسرحية" جحا وشجرة التفاح".

لكن الكثير من النقاد هاجموا أعماله المسرحية من زاوية ايديواوجية، واعتبروها تساهم في تكريس الأوضاع القائمة عن طريق التطريب ودغدغة إحساس الجمهور، وهذا ماجعل أحمد الطيب العلج يعلن عن تذمره من النقد القاسي الذي واكب مسيرته المسرحية، بحيث  أن  أعماله لم تجد من  ينصفها، فجل النقاد المغاربة هاجموها  باسثتناء المنيعي والمساري والسولامي والسحيمي، ومع ذلك واصل مسيرته الإبداعية ولم يتوقف، لأنه كان يؤمن بأن الأعمال الجميلة والناضجة فنيا وفكريا ستفرض نفسها. وقد تحقق له ذلك وحظيت مسرحياته بشهرة واسعة ونالت العديد من الجوائز القيمة في المهرجانات العربية والدولية. وقد غادرنا منذ تسع سنوات تارك ارثا غنيا في الكتابة والاقتباس والإخراج والتمثيل مثل " ولي الله" و" المعلم عزوز" و" الحكيم قنقون" و " قاضي الحلقة".

كان العلج يعشق المسرح عشقا كبيرا، ويكتب الشعر للتغزل فيه والتعبير عن حالة الوجد التي تعتريه وهو يشيد عوالم نص مسرحي جديد، وقد عبر عن هذا الحب الجارف للمسرح بالقول: "أنتم لا تعرفون أنني أقول شعرا في المسرح في الوقت الذي لم استطع فيه أن اقول شعرا عن أمي ...ولكن المسرح قلت فيه شعرا، وكلما وجدت تفسي بصدد كتابة مسرحية أجدني أتغزل وتعتريني حالات من الوجد".

 

د. محمد الصبان

 

في المثقف اليوم