شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: جمال حمدان وسيمفونيته الجغرافية (1)

محمود محمد عليفي هذه الأيام تحل علينا  ذكرى ميلاد جمال حمدان عام 1928م، بمحافظة القليوبية، وكانت الجغرافيا بالنسبة له رؤية استراتيجية متكاملة للمقومات الكلية لكل تكوين جغرافي وبشري وحضاري ورؤية لتكوينات وعوامل قومتها وضعفها، كما أنه لم يتوقف عند تحليل الأحداث الآتية في الظواهر الجزئية، ولكن سعى إلى وضعها في سياق أعم وأشمل وذو بعد مستقبلي أيضًا، وكان جمال حمدان أحد أكبر المفكرين المصريين والملقب بـ"فيلسوف الجغرافيا"، شخصية أثرت في الأوساط السياسية والثقافية والفنية.

جمال حمدان، اسم يحتمل الكثير من الألقاب، فحياة صاحبه سيرة يجب أن تتغنى بها مختلف الأجيال، فصاحبها هو جواهرجى الشخصية المصرية، الرجل الذى اعتزل الحياة، وضحى بقصة حبه الوحيدة، لينجز مشروعه العلمى؛ والعلم بالنسبة له ليس مجرد مؤلفات أكاديمية تتراص على أرفف المكتبات أو تدرس للطلاب، فصنع من علم الجغرافيا  فلسفة للحياة، ومنهجا يصلح لكل زمان ومكان، انشغل بالشخصية المصرية.. ليثبت أن هذا الوطن يمتلك مقومات الريادة والزعامة.

كان جمال حمدان أحد أفذاذ عصره، فهو لم يكن مجرد جغرافي بارع، ولكنه كان مُفكراً مُبهراً، تميَّز من خلال قراءته المتعمقة للتاريخ، وقدرته على ربط الجغرافيا بالتاريخ، وإضفاء الطابع الاستراتيجي على أفكاره وتحليلاته، الأمر الذي منحها العمر المديد، والقدرة على التعايش مع تقلبات السياسة بعد مرور كل هذه الأعوام، فهو من أصدر عام 1964 كتاباً بعنوان "بترول العرب" ليلقي الضوء – لأول مرة – على أهمية البترول من الناحية السياسية والاستراتيجية، وهو ما استفاد منه زعماء الدول العربية بعد ذلك بـ 9 أعوام في حرب أكتوبر 1973.

كما كان جمال حمدان يمتلك قدرة ثاقبة على استشراف المستقبل متسلحًا في ذلك بفهم عميق لحقائق التاريخ ووعي متميز بوقائع الحاضر. وقد اشتهر بتوقعه الأشياء قبل حدوثها، حيث تنبأ بتفكك الكتلة الشرقية وابتعادها عن الاتحاد السوفيتي قبل 21 عاما من حدوثها بالفعل، ثم توقع أيضا تفكيك الاتحاد السوفيتي نفسه في كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرير"، كما كشف في كتابه عن اليهود وأبعاد الصراع العربي الإسرائيلي قبل النكسة بـ4 أشهر؛ حيث أدرك ببصيرته أن تفكك الكتلة الشرقية وافع لا محالة عام 1968م، وبعد 21 سنة وتحديدا في عام 1989 وقع الزلزال الذي هز أركان أوروبا الشرقية، وانتهى الأمر بانهيار أحجار الكتلة الشرقية وتباعد دولها الأوروبية عن الاتحاد السوفيتي، ثم تفكك وانهار الاتحاد السوفيتي نفسه عام 1991.

وكان جمال حمدان يتمتع بقدرة هائلة على قراءة المستقبل، حيث فضح أكذوبة أن اليهود الحاليين هم أحفاد بنى إسرائيل الذين خرجوا من فلسطين خلال حقب ما قبل الميلاد، وأثبت فى كتابه «اليهود أنثروبولوجيا» الصادر فى عام 1967، بالأدلة العملية أن اليهود المعاصرين الذين يدعون أنهم ينتمون إلى أرض فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمى هؤلاء إلى إمبراطورية "الخزر التترية" التى قامت بين «بحر قزوين» و»البحر الأسود»، واعتنقت اليهودية فى القرن الثامن الميلادى، وهو ما أكده بعد ذلك بعشر سنوات «آرثر كوستلر» مؤلف كتاب القبيلة الثالثة عشرة الذى صدر عام 1976.

ولد جمال حمدان في الرابع من فبراير عام 1928 بقرية ناي بمحافظة القليوبية، وكان والده أزهريًا له من الأبناء سبعة، ويعمل مدرسا للغة العربية في مدرسة شبرا التي التحق بها ولده، وحصل منها على الشهادة الابتدائية عام 1939، واهتم الوالد بتحفيظ أبنائه القرآن الكريم، وتجويده وتلاوته على يديه ؛ مما كان له أثر بالغ على شخصية جمال الذي حصل على شهادة الثقافة عام 1943، ثم التوجيهية الثانوية عام 1944، وكان ترتيبه السادس على القطر المصري، ثم التحق بكلية الآداب قسم الجغرافيا.

وكان طالبًا ومتميزًا ليتخرج عام 1948، ويتم تعيينه معيدًا، ثم أوفدته الجامعة في بعثة إلى بريطانيا عام 1949 حصل خلالها على الدكتوراه في فلسفة الجغرافيا من جامعة "ريدنج" عام 1953، وكان موضوع رسالته "سكان وسط الدلتا قديمًا وحديثًا"."كفانا إذن حديثًا عن مزاينا ومناقبنا، فهى مؤكدة ومقررة، وهى كفيلة بنفسها، ولنركز من الآن على عيوبنا، لننظر إلى عيوبنا في عيونها في مواجهة شجاعة، لا لننسحق بها، ولكن لنسحقها، لا لنسىء إلى أنفسنا ولكن لنطهر أنفسنا".

عاد "حمدان" إلى القاهرة لينضم إلى هيئة تدريس قسم الجغرافيا في كلية الآداب جامعة القاهرة، ثم رُقيَّ أستاذًا مساعدًا، وأصدر في هذه الفترة "جغرافية المدن، المظاهر الجغرافية لمجموعة مدينة الخرطوم -المدينة المثلثة، ودراسات عن العالم العربى"، وحصل بها على جائزة الدولة التشجيعية عام 1959، ليلفت إليه أنظار الحركة الثقافية، وفى الوقت نفسه يكسب غيرة بعض زملائه وأساتذته داخل الجامعة؛ فحين تقدم لنيل درجة أستاذ مساعد، وأقرت اللجنة العلمية هذا الترشيح مع أستاذ جامعى آخر، كانت هناك درجتان تقدم لهما أربعة من العاملين بالتدريس بالجامعة، ولم يفز جمال حمدان الأمر الذي جعله يرى في ذلك إهانة له، فتقدم باستقالته التي لم تقبلها الجامعة إلا بعد عامين كان خلالهما مسئولو قسم الجغرافيا يحاولون إثناؤه دون جدوى، ومنذ ذلك الحين فرض جمال حمدان على نفسه عزلة اختيارية عن الناس؛ فلم يكن يستقبل أحدًا في منزله.

في 17 أبريل عام 1993، أحضر بواب العمارة التي يسكنها جمال حمدان في الدقي عدة كرأسات بيضاء، وعلبة سجائر محلية، وبضع زجاجات مياه غازية. وبعد ساعات قليلة دوي صوت انفجار في شقته، واقتحمها البواب ليجده مُلقى فوق أرض المطبخ وقد تفحم نصفه الأسفل تمامًا إثر انفجار أنبوبة البوتاجاز؛ وكان المنزل يحتوي على المطبخ الذي يضم مائدة خشبية متهالكة مغطاه بصحيفة وفوقها طبقان من البلاستيك، وغرفة النوم من دولاب متهالك وسرير وطاولة مختفية تحت ركام الكتب، وعدة حقائب جلدية كبيرة قديمة؛ وعُثر على صورة فتاة شقراء كان على علاقة بها أثناء بعثته في انجلترا وراديو ترانزستور، ولم يكن هناك تليفون أو تليفزيون؛ كما اختفت مسودات بعض الكتب التي كان بصدد الانتهاء من تأليفها، منها كتاب عن اليهودية والصهيونية كان يقع في ألف صفحة وكان من المفروض أن يأخذه ناشره يوم الأحد التالي للوفاة، وكتاب عن علم الجغرافيا، ولم تكن النار التي اندلعت في الشقة لتصل إلى الكتب والأوراق؛ وقد ذكر رئيس المخابرات الأسبق أمين هويدي أن لديه ما يثبت أن الموساد الإسرائيلي هو الذي قتل حمدان.

وفى 2011 أهدى اللواء عبدالعظيم، شقيق الدكتور جمال حمدان، أوراق المفكر الكبير لمكتبة الإسكندرية، وما زالت الأوراق قيد الفحص، وكانت الاستفادة الأولى من هذه الأوراق بإصدار كتاب «جمال حمدان وعبقرية المكان" من تأليف الباحثين محمد غنيمة، وأيمن منصور، والكتاب من إصدار مكتبة الإسكندرية، وهو دراسة وثائقية قائمة على المنهج العلمى الذى يعتمد على التدقيق والمعلومة الموثقة، وبشكل أساسى على أوراق جمال حمدان الموجودة فى حوزة المكتبة.

بدأ جمال حمدان رحلته عازفا سيمفونية رائعة فى حب الوطن عام 1948 عندما قرر وقتها رسم خرائط مختلفة لجغرافيا مصر تقدس كل حبة رمل على أراضيه، وطوع الجغرافيا والحدود لخدمة تاريخ وطن حضارته تمتد لأكثر من سبعة آلاف سنة، ولم يعد علم الجغرافيا عند جمال حمدان هو ذلك العلم الذى يتعامل مع الإحصائيات والأرقام والمعلومات بشكل جامد ؛ بل أصبح روحا تتنفس وأوضاعا سياسية واجتماعية واقتصادية تتحرك على الأرض أمامنا بفعل هذه التضاريس أو ذلك الموقع أو مرور ذلك النهر.

الكثيرون يعرفون جمال حمدان، عبقرى الجغرافيا، لكن هذا المؤرخ الكبير كانت له مملكة خاصة لم يقتحمها سوى القليلين، فى هذه المملكة كان يمارس هوايته فى الغناء والرسم وممارسة الرياضة، هذه المملكة تحولت إلى مقر شركة، ولم يعد فيها ما يخلد ذكرى صاحبها سوى لافتة صغيرة موجودة على ناصية الشارع الذى كان يسكن فى أحد عقاراته "الدكتور جمال حمدان مر من هنا".

من الجغرافيا انطلق جمال حمدان إلى التاريخ ومنهما حدد مواقفه الثابتة، بأن بيت الداء هو الكيان الذى زُرع بين العرب لتقسيمهم وتشتيتهم، وأثبت أنهم ليسوا كما يدعون أصحاب الأرض بل إن امتدادهم إلى أصول غير فلسطين. ليرحل بعدها فى ظروف غامضة عقب انفجار أنبوبة البوتاجاز فى شقته بحى الدقى يوم 17 إبريل 1993 بعد حياة حافلة ونقطة مضيئة فى الحياة العلمية المصرية والعربية.. غاب جمال حمدان عن عالمنا فى 4 فبراير سنة 1993 فى ظل ظروف وملابسات تزيد من الدراما التى صبغت حياته، لكن اسمه عاد للحياة بقوة ما تنفذه الدولة المصرية من مشروعات تستهدف استعادة الريادة المصرية التى أفنى حياته لأجلها.

ولعل باكورة إنتاج جمال حمدان هي كتابه الشهير "Studies in Egyptian Urbanism"، عام 1955 باللغة الإنجليزية، أثناء عمله عام 1958، كأستاذ مساعد بجامعة القاهرة، ألَّف ثلاثة كتب؛ وهي "جغرافية المدن"، و"دراسات في العالم العربي"، و"أنماط من البيئات"، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية عام 1959، وفي عام 1963، أصدر كتابه "المدينة العربية"، وأصدر كتاب "بترول العرب" في عام 1964،

كذلك ترك جمال حمدان حوالي 29 كتاباً و79 بحثاً ومقالة، منها "جغرافيا المدن" و"أنماط من البيئات" (1958)، و"الاستعمار والتحرير في العالم العربي" و"بترول العرب" و"أفريقيا الجديدة" و"المدينة العربية" (1964)، و"اليهود أنثروبولوجيا" (1967)، و"استراتيجية الاستعمار والتحرير"(1968)...وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

............................

هوامش المقال

-  محمد محمود السيد: عبقرية جمال حمدان: كيف نسجت الجغرافيا «شخصية مصر»؟، الوطن المصرية ، نشرت بتاريخ 25/01/2020.

- خالد بيومي: جمال حمدان عاشق مصر، الوطن المصرية ، نشرت بتاريخ  الإثنين 23 أبريل 2018.

- هانم الشربينى: أسرار المملكة الخاصة لـ«جمال حمدان»، مقال منشور بمجلة الإذاعة والتفزيون، ٢٠٢١/٠٢/٠٨

- جمال حمدان وآخرون : جمال حمدان في "عبقرية المكان" عن القناة: "نبض مصر"، البوابة نيوز ، نشر بتاريخ الجمعة 07/أغسطس/2015 - 04:58 ص.

 

في المثقف اليوم