شهادات ومذكرات

علاء اللامي: مؤامرات القصر وانتقال الحكم الأموي من الفرع السفياني إلى المرواني

علاء اللاميإنها صفحة مهملة رغم أهميتها تاريخيا من صفحات تاريخ الدولة الأموية، هي تلك الخاصة بانتقال الحكم الأموي من الأسرة السفيانية إلى الأسرة المروانية. سنحاول في هذا النص الإضاءة على هذه الصفحة والتعريف بأهم أحداثها وشخصياتها، آخذين بنظر الاعتبار أن تقاليد التآمر والاغتيال والدسائس في القصور الملكية والإمبراطورية ليست أمرا جديدا، ولا هي محصورة بالقصر الأموي، فقد كانت سائدة شرقا وغربا، قديما وحديثا، ولم يكد يخلو منها تاريخ دولة وراثية، وقد بلغت هذه التقاليد التآمرية البلاطية التي تلعب فيها الجواري والخدم والقادة العسكريون ورجال الدين دورا كبيرا، بلغت ذروتها خلال العهد العثماني وتحديدا في عهد السلطان سليماني القانوني.

* مع سيطرة الأسرة الأموية السفيانية على الحكم بالقسر والسلاح وولادة ما سماه العرب "القتل صبرا" أي الإعدام وهو تقليد في القتل لم يكن العرب يعرفونه وكانوا يأنفون من قتل الغيلة والغدر، وكان المعدوم بأمر من معاوية بن أبي سفيان هو الصحابي حجر بن عدي الكندي وكان من الموالين للخليفة الرابع الإمام علي بن أبي طالب (وبقي قبره في مدينة "عدرا" السورية ظاهرا حتى نبشته الجماعات التكفيرية المسلحة سنة 2013 وأخرجت رفاته ونقلتها الى مكان مجهول)، وعندها انتقل حكم المسلمين من الشورى في عهد الخلفاء الراشدين إلى النظام الملكي الوراثي الأسري وظل هكذا حتى سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية الملكية الوراثية هي الأخرى.

* ومعلوم أن معاوية بن أبي سفيان خلف أخاه وأميره في الجيش يزيد بن أبي سفيان على ولاية دمشق. وقد استخلفه عمر بن الخطاب وجعله واليا على جند الأردن أولا، ثم ولاه جند دمشق بعد موت أميرها يزيد (أخيه) بطاعون عاموس، وكان يزيد أحد قادة فتح بلاد الشام ومن المشاركين في قيادة معركة "اليرموك" الشهيرة، ثم ولى الخليفةُ عثمانُ بن عفان معاويةَ إمارة بلاد الشام كلها، وجعل ولاة أمصارها تابعين له. واكتمل لبني أمية من الفرع السفياني حكم بلاد الإسلام كلها بعد اغتيال الخليفة الراشدي الرابع الإمام علي بن أبي طالب، فتحولت الإمارة الأموية في الشام مما نسميها بلغة اليوم "حركة انفصالية ضد المركز" الراشدي في زمن الخليفة الرابع إلى دولة شملت جميع أقاليم بلاد الإسلام، ودامت 88 عاما (من41 - 132 هـ إلى 662 - 750 م)، وقامت على انقاضها دولة بني العباس وهي ملكية وراثية أيضا ودامت أكثر من خمسة قرون (من 750 م إلى 1258 م) وعاصمتها بغداد، ويضيف لها بعض المؤرخين أكثر من قرنين ونصف هي فترة الحكم المملوكي الذي يعترف بالخلافة العباسية في مصر بعد سقوط بغداد بسيوف المغول وقد استمرت هذه الدولة العباسية المملوكية في مصر حتى سنة 1517م حين دخل العثمانيون مصر وسافر الخليفة العباسي المتوكل على الله محمد آخر الخلفاء العباسيين إلى دار السلطنة العثمانية والتقى بالسلطان العثماني سليم الأول وتنازل له عن الخلافة. وتقول مصادر تاريخية أخرى أن المتوكل على الله "الثالث"أسر من قبل العثمانيين بعد معركة الريدانية وأجبر على التنازل عن الخلافة للعثمانيين.

وحين مات يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، انتهى حكم الأسرة السفيانية الأموية، وانتقل العرش إلى الأسرة المروانية الأموية، ليس لأن يزيد  لم يكن له خلفاً من صُلبه كما يعتقد البعض بل لأسباب أخرى تتعلق بما حدث داخل القصر الأموي: فحين مات يزيد خلَّف أكثر من ابن وبنت. يذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" أسماء خمسة عشر ذكرا منهم، إضافة إلى خمس بنات. ويضيف ابن كثير "وقد انقرضوا كافة فلم يبق ليزيد عقب" دون مزيد من التوضيح.

أهم أبناء يزيد من حيث الدور والأحداث هو معاوية بن يزيد، والذي خلف أباه في الحكم ولقب بمعاوية الثاني، "وبقي في حكم ثلاثة أشهر بقولٍ، وأربعين يوماً بقولٍ آخر، وبعدها صعد المنبر وأعلن تركه للحكم"، ثم مرض بعدها ومات، "فمنهم من رأى أنه سُقي شربة"سما" ومنهم من رأى أنه مات حَتْفَ أنفه، ومنهم من رأى أنه طُعن، وقبض وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، ودُفن بدمشق ومات صغيرا وخالد، وعبد العزيز/ البداية والنهاية". وغالبا لا يُعَدُ معاوية الثاني ضمن سلسلة خلفاء بني أمية.

وينقل لنا ابن كثير ، وبصيغ قريبة ابن الأثير، خطبته في الناس بعد أن قرر التنازل عن الخلافة، قال "أيها الناس، إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي، كما تركها الصِّدِّيقُ لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من هو صالح لذلك، وقد تركتُ أمرَكم فولُّوا عليكم من يصلح لكم. ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج منه حتى مات". وقد  طلب منه بنو أمية أن يعهد  بالخلافة لأحد منهم قبل وفاته فرفض وقال لهم  "واللّه ما ذُقْتُ حلاوة خلافتكم فكيف أتقلّد وزرَها. وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها، اللهم إني بريء منها متخلٍ عنها، اللهم إني لا أجد نفراً كأهل الشورى فأجعلها إليهم ينصبون لها من يرونه أهلاً لها". فغضبت منه أمه وقالت له وهو يُحْتضر "ليت إني خرقة حيض ولم أسمع منك هذا الكلام، فقال لها: وليتني يا أماه خرقة حيض ولم أتقلد هذا الأمر، أتفوز بنو أمية بحلاوتها وأبوءُ بوزرها وَمَنْعِها أهْلَها؟ كلا! إني لبريء منها".  وتوفي شابا وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، ودُفن بدمشق، وصَلّى عليه الوليدُ بن عُتْبَة بن أبي سفيان، أملا في أن يختاره بنو أمية خليفة لهم، فلما كبَّر التكبيرة الثانية، طُعِنَ فسقط ميتاً قبل تمام الصلاة، فقدم عثمان بن عتبة بن أبي سفيان، فقالوا: نبايعك؟ قال: على أن لا أحارب ولا أباشر قتالاً. فرفض بنو أمية شروطه فغادر الشام إلى مكة وبايع ابن الزبير.

أما خالد بن يزيد بن معاوية فبعد أن تنازل أخوه معاوية بن يزيد عن الخلافة ومات، كان النزاع عليها قد بدأ بين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم، فذهبت إلى مروان بن الحكم واتجه هو إلى طلب العلم، وخصوصاً علم الكيمياء فأصبح من أشهر العلماء العرب. واشتهر اسمه من بين الخيميائيين اللاحقين، فتمت ترجمة عدد من الكتب المنسوبة إليه إلى اللغة اللاتينية في العصور الوسطى العليا. وكانت إحدى هذه الأعمال المترجمة "رسالة مريانس الراهب الحكيم للأمير خالد بن يزيد"، أول ما تُرجم من الكتب الخيميائية العربية إلى اللغة اللاتينية، فقد ترجمها المستعرب الإنجليزي روبرت أوف تشستر في يوم 11 فبراير من سنة 1144، تحت اسم "كتاب تكوين الخيمياء".

ولم يكن انتقال المُلك من الأسرة السفيانية إلى المروانية في خلافة مروان بن الحكم سهلا ولا سلسلا بل جاء عبر حروب أهليه دامية بين بني أمية وأعدائهم حتى تمكنوا من بسط سيادتهم على الشام أولا بعد معركة "مرج راهط" ثم على مصر بعد معركة قصيرة انتهت بالصلح مع واليها ودخول مروان مصر صلحا، فالعراق والحجاز بعد حروب ومعارك دامية:

فحين تَطَلَّع مروان للخلافة، واجهته عدة صعوبات، حيث كان القيسيون بالشام قد بايعوا عبد الله ابن الزبير في الحجاز، واليمانية أنصار بني أمية كانوا منقسمين لفريقين: فريق يميل لبيعة خالد بن يزيد بن معاوية، وفريق آخر يميل لبيعة مروان . وبعد مناقشات تغلب الفريق الذي يؤيد مروان. وكانت حُجتهم أن خالد بن يزيد لازال صغيراً، وليس ندا لعبد الله بن الزبير الأكبر سناً وتجربة، وقالوا لمعارضيهم: "لاوالله لا تأتينا العرب بشيخ - يقصدون ابن الزبير- ونأتيهم بصبي"، فاتفقوا أن تكون البيعة لمروان، ثم من بعده خالد بن يزيد، واتفقوا على عقد مؤتمر "الجابية" لإنهاء الخلاف بيهم.

لكن الضحاك بن قيس زعيم الفريق الذي بايع ابن الزبير مال إلى بني أمية من جديد، حيث كان سابقا من أقرب رجال معاوية وابنه يزيد، وكان هو الحاكم الفعلي لدمشق منذ وفاة يزيد، فأرسل إليهم يعتذر عن خروجه عن طاعتهم وأعلن أنه سيحضر مؤتمر الجابية، لكنه لم يستطع المضي في خطته، حيث مُورست عليه ضغوطات للبقاء على بيعة ابن الزبير من رجاله فلم يذهب إلى الجابية بل ذهب إلى "مرج راهط"، لكن لم يؤثِّر موقف الضحاك بن قيس على بني أمية، فقد عقدوا مؤتمرهم في الجابية، وبايعوا مروان بالخلافة في الثالث من ذي القعدة سنة 64 هـ.

وبمجرد رسو المُلْكِ على مروان بن الحكم شنَّ حربا ضارية ضد القبائل التي أيدت خصومه الزبيريين، وحقق أنصار مروان أول نجاح لهم بالاستيلاء على دمشق. ثم عبأ مروان أنصاره من قبائل اليمانية في الشام، واتجه إلى "مرج راهط" قرب دمشق، فدارت المعركة التي حسمت الموقف في الشام لمروان.

*بعد أن استقر الأمر لمروان في الشام، توجه نحو مصر لاستردادها من عامل ابن الزبير، ودخل مروان مصر صلحاً بعد معركة قصيرة مع أنصار الزبير في سنة 65 هـ وبايعه الناس، وأقام بها نحو شهرين ثم غادرها بعد أن أعادها للحكم الأموي، ثم ولَّى عليها ابنه عبد العزيز، ورجع للشام.

* ثم بعث مروان بن الحكم، عبيد الله بن زياد على رأس جيش ليقاتل زفر بن الحارث الذي فر إلى قرقيسيا، وهي بلدة صغيرة تقع أطلالها اليوم قرب دير الزور، ووعده بأنه إذا فرغ من زفر أن يتوجه إلى العراق لينتزعها من ولاة ابن الزبيرويكون هو واليه، ولكن في طريق ابن زياد إلى قرقيسيا علم بموت مروان وتولية ابنه عبد الملك الخلافة. 

أما العراق والحجاز فاستمرت محاولات الأمويين للسيطرة عليهما بعد موت معاوية بن يزيد حتى نجحوا في ذلك وقضوا على تمرد ابن الزبير وأنصاره. وحين مات مروان ابن الحكم خلفه في الحكم ابنه عبد الملك واستمرت الأسرة المروانية في حكم الدولة الأموية حتى سقوطها بسيوف العباسيين الذين هاجموها من جهة الشرق العراقي قبل أن تكمل القرن الأول من عمرها.

 

علاء اللامي

 

في المثقف اليوم