شهادات ومذكرات

نجيب طلال: الحي اللاتيني.. تلك باريس

نجيب طلالمبدئيا المسألة هاهنا ليست دعاية أو وصلة إشهارية؛ بقدرما هي تعبير وبوح عما لامسناه عبر عدة زيارات؛ علما أنني ألاحظ أن العديد من مثقفينا يسافرون لأماكن مختلفة؛ ولا يدونون ما عايشوه أو لامسوه من مظاهر سواء إيجابيية أو سلبية؛ ليس مباهاة بل إسوة بأجدادنا الذين دونوا ما رأوه وتعايشوا معه في أوروبا أو الشرق العربي؛ إذ تلك الكتابة في جد ذاتها تاريخ موثق بالمعايشة والمشاهدة؛ وبالتالي فلا تحلو الإقامة في باريس بدون زيارة [الحي اللاتيني/  quartier latin] الذي يعتبرمن أهم وأعرق الأحياء الباريسية، وكذلك القلب  النابض للمعرفة  الثقافية والفكرية والجمالية؛ علما أنه الفضاء الرئيس للقاء كبار عباقرة وجهابذة المعرفة  بفرنسا وغيرها؛ هذا إن كان المرء  يعْـتبر نفسـه  مبدعا ومُفكرا وأديبا استثنائيا؛ بحيث سيعيش عالما آخر وحياة باريسية بنكهة شبه عربية مزيج  بأجواء أخرى غريبة إلى بعد الحدود . لايشعرفيها الوافد عبر أزقتها وممراتها وشوارعها... بأنه جوانية حضارة غاشمة تبتلع الإنسان العربي المهاجر؛ بل تشعره بدفء البساطة عبر المقاهي المترامية والمطاعم الصغيرة والدكاكين التي هي أصغرمنها، ناهينا عن الصخب والترحاب.. فضاء منظم في طابع بوهيمي، وذو ماضي عريق والحامل لحنين أفكار ومواقف راجت في ذهن كل وافد في هذا الفضاء، من  أسماء ثقافية وفنية مرت من هنا؛ وأنتجت ما أنتجته من قصص وروايات وأشعار هي من وحي هذا المكان؛ مكان كان مركز الـنضال والانتفاضة الطلابية في (مايو 1968) ولا زال حيا جامعيا رئيسيا، رغم بناء جامعات وكليات في ضواحي باريس. وإن كان فمازال المكان يعرفه البعض بجامعة [السوربون] لكن في واقع الأمر معروف بمئات المكتبات العامرة، عامرة بأمهات الكتب والذخائر النفيسة؛ وعلى رأسهم مكتبة من (ست (6) طوابق) ل [جوزيف جبير/ joseph Jabir] فرغم المنافسة الشرسة لعوالم الإنترنت والكتاب الإلكتروني؛ فلازال الحي اللاتيني؛ تعبق نسائمه بروائح الورق الممزوج بهبات ورداد نهر السين؛ فكلما زرت هذا الحي؛ إلا ونفس الروائح الورقية تنبعث إلى إحساسك كله؛ رغم الهيام بالنهر الذي يعـيدك لعوالم رومانسية؛ مرغما وكأنه ليس نهرا بل بحرا يضم سحره الرومانسي مرغما على أنفك؛ لتطوف بك الذاكرة للعهد اللاتيني وجبروته؛ ولعوالم بلزاك وأميلا زولا وجوستاف فلوبير وسارتر وهوجو ودي بوفوار....وعيانك ترمق سفن التجوال؛ ومراكب التنزه ...على طوله من اليمين وبعض من اليسار؛ كله مكتبات صغيرة كأنها صناديق عجيبة التركيب؛ وذات لون أخضر موحد، ولكنها مملوءة بأغنى الكتب النادرة؛ كتب مستعملة؛ تغري بالبحث وبالاقتناء، إذ في يوم (ما) الأيام؛ من تاريخ (ما) بعدما قضينا وقتا حميميا في المعهد العربي مع بعض المغاربة العاملين هناك؛ وبعض المثقفين المهاجرين. صادفت موقفا غريبا من سيدة؛ بعدما التقيت بأحد الأدباء البوهميين (طونيك سوندري/tonic Sound ri) للمرة الرابعة؛ يبيع الكتب المستعملة؛ والعادة نقاش حبي عن عوالم الثقافة ومظاهر الحياة في الحي اللاتيني؛ وإذا بتلك السيدة الطاعنة في السن وذات ملابس يبدو عليها الإهمال، والتي سأعرف اسمها فيما بعد؛ نهرتني بشدة : اشتري كتابا أحسن من الكلام . فلم أجد لسانا للرد عليها سوى – حاضر- فبدأ (طونيك) يضحك؛ ويهدئ من انفعالي؛ مبرزا أن السيدة [ماري موبَّسان/ MARIA MAUPASSANT)  جذورها من هذا الحي؛ وأصولها - نورماندية - كانت أستاذة الفلسفة؛ وعاشقة للكتب أكثر من نفسها؛ ومن حفظة الفكر الأرسطي. فعلا اندهشت لهاته المعطيات؛ التي ربما لا يصدقها أحد؛ ولكن  ما هو معروف في طباع الباحثين والمفكرين الأوربيين؛ أنهم يعيشون البساطة في كل شيء، إنه التأثير الذي خلفه ويخلفه فضاء الحي اللاتيني؛ لأنه في الأصل [ هـو]  باريس القديمة ؛الذي تبدو الحياة سهلة فيه حين نتكلم عنه..لكنها صعبة ومؤلمة حين نكابدها .وحينما نتعامل مع عوالمه. ولكن يبقى الحي اللاتيني وجه باريسي رائع؛ حينما نقتنع به، وله نكهته الخاصة، وخاصة حينما تقف تتأمل زخرف وإبداعية (نافورة سان ميشيل /saint Michel la fontaine de) وكثيرا ما يتخذ البهلوانيون والرياضيون والراقصون ساحتها العجيبة، من أجل تقديم عروضهم الفنية . ولكن سنشعر بدفء وساحرية المكان، حينما نعرف كيف نعيش فيه مع المطاعم والمطابخ اليونانية والتركية واللبنانية والسورية ومسارح الجيب التي لاتفتر بالجماهير العاشقة للفن الرابع؛ نحو إبداع ليس مبتذلا بل يحمل قضايا فكرية وسياسية . أما مسرح)أوروبا أديون  (Europe Odéonالذي يتبرع في أعلى فضاء الحي، بشموخ أعمدته اليونانية الرهيبة والذي تهب عليه روائح أشجار وورود وياسمين حديقة)لوكسمبورغ / Luxembourg (التي تحاذي المنطقة - 6 - ولكن الحقيقة الأساس والتي تتجلى في فضاء الحي اللاتيني؛ ذلك المعمار المثير الذي يحمل (مقبرة العظماء/ Panthéon) والذي تحيطه ساحات كبيرة جدا ومعالم تثيرالإنتباه بعظمتها وجمالية بنائها وزخرفتها والتي تعود للقرن الخامس عشر(15) ككنيسة سان تيتيان دو مونت /saint Etienne de mont –  وثانوية هنري الرابع ملك فرنسا ومكتبة)سانت باربت / (sainte barbe ومكتبة)سانت جينفييف/ sainte genevieve ) و(جامعة السوربون للحقوق) و(بلدية المقاطعة الخامسة / mairie de 5e arrondissent la) التي يوجد فيها الحي اللاتيني . فهاته المعالم وغيرها تبقي شاهدة على أزمنة ورجال كانوا؛ ولكن حينما تحاول أن ترتاح قليلا في إحدى الكراسي الصخرية المنتصبة بشكل هندسي مروع جدا، تهيم  جوارحك في أفق الميتافيزيقيا، حينما ترى أمامك ذاك الضريح الصرح الأعظم والذي يشير لنهاية كل كائن وإن كان إمبراطورا أو.... لأن البقاء للواحد الديَّـان.

 

نجيب طلال

  

في المثقف اليوم