شهادات ومذكرات

عبد الرضـا عليّ: شهادتي في عزيز عليّ.. العبقريِّ الذي لا ثانيَ لهُ

عبد الرضا عليبعد انقلابِ البعثيينَ الدمويِّ الأسودِ في الثامن من شباط سنة 1963م، تمَّ اعتقالي (مع الآلاف) بوصفنا قاسميينَ يساريين، وتنقَّلتُ بين معتقلاتٍ عديدةٍ انتهتْ في سجنِ القلعة الخامسة من السجن المركزي بباب المعظم، وحينَ أُفرِجَ عنِّي في 22/9/1963م، زارني صديقي العتيق سامي محمَّد (1941- 2000)⁽¹⁾، وأعلمني أنَّ معهد إعداد المعلّمينَ بالأعظميَّة قد مدّدَ القبول حصريّاً لطلابِ المحافظات من المتخرِّجين في الثانويّة العامّة بفرعيها العلمي والأدبي، وعليَّ بالإسراع في تقديم أوراقي، وهكذا كان، فقدمتُ أوراقي بصفتي من سكنة محافظة كربلاء، وأنَّني كاتبُ تمثيليَّات إذاعيّة قصيرة، وحملتُ معي بعضها (المستنسخَ على ورقِ الكربون) التي سبق أنْ قدَّمتها [فرقة الفنون الشعبيّة] إذاعيَّاً، وكان يرأسها المخرج مهنّد الأنصاري من إذاعة بغداد، فتمَّ قبولي بعد المقابلة التي أجراها لنا مدير المعهد، وبعضُ أعضاء لجنة المقابلة.

 وهكذا انتظمنا نحنُ القاسميينَ طلاباً فيه، كان منهم: المترجم سامي محمّد، والشاعر الشعبي طارق ياسين (1930-1975)، ومحسن أطيمش (1946-1994م) الدكتور الناقد فيما بعد، ويعقوب الخميسي: (الدكتور التربوي فيما بعد) أطال الله في عمره، وغيرهم من الأصدقاء الذين تواروا عن أنظار البعثيين في القسم الداخلي .

***

 شكَّل الأستاذ الفنان وجيه عبد الغني (1933-1998م) فرقة المعهد المسرحيّة بعد بضعة أيام من انتظامنا في القسم الدراسي على ضوءِ ما ذكرناه من هوايات، ورغبة في التمثيل، وكنّا نحن الأربعة: يعقوب الخميسي، وسامي محمّد، وفتاح عبد اللطيف العاني (1945- 2018م) وكاتب هذه السطور نواتها، فكتبتُ للفرقة مسرحيّة شعبيّة أسميتُها بـ (ردهة 8) وقدّمتها فرقتنا من على شاشة تلفزيون بغداد في نهاية تلك السنة، وأخرجها أستاذنا وجيه عبد الغني، وبعدَ أن توثَّقت علاقتنا الروحيَّة بالأستاذ وجيه، وتعرّف على قدراتنا التعليميّة، طلب منّي تدريس نجله (قيس وجيه) الذي كان طالباً في الخامس الابتدائي، (أوالسادس) دروسَ تقويةٍ في مادة العربي، وطلب من زميلي يعقوب الخميسي أن يدرّسه مادة الإنجليزي لكونه كان ضعيفاً فيهما، فامتثلنا لطلبه، وقمنا بما ينبغي، وما أن اكتشفَ قدرتي في تعليم اللغة العربيّة حتى رشَّحني لتدريس عمر نجل الفنّان المونولوجست عزيز عليّ (1911-1995م) مادّة اللغة العربيّة التي كان يشكو من ضعفٍ فيها لقاء أجر مقداره ربع دينار للساعة الواحدة، فاستجبتُ للفكرة فرحاً، لكوني سألتقي أعظم فنّان عراقيّ مشهور، على ألاّ تقل محاضراتي الأسبوعيّة عن أربع، أو خمسِ ساعات، وأن توزَّع على يومين أسبوعيّاً بعد الظهر، فوافق الفنان عزيز عليّ، فاخترنا الأيام، والساعات، وباشرتُ بتدريس نجله عمر قبل الامتحانات النهائية للصف السادس الابتدائي، وحين اجتازها بتفوّق سألني الأستاذ عزيز علي في بداية السنة الثانية إن كنتُ قادراً على تدريس مادة الفيزياء للصف الثالث المتوسط التي كانت ابنته المصون (إيفون) تشكو ضعفاً فيها، فأجبتُه: نعم أستاذ أنا قادر إن شاء الله، لكوني أحمل الثانويّة العامّةَ من الفرع العلمي، فضلاً عن كوني أحبُّ هذه المادّة، وأحبُّ مادّة الرياضيّات كذلك، ولكن يجب أنْ أُزوَّد بنسخةٍ من كتاب الفيزياء سلفاً، لأتمكَّنَ من تحضيرِ الدرسِ قبل إلقائه، وأنْ يُصارَ إلى تحديدِ الفصل، والموضوع قبل كلِّ درس.

 وهكذا كان، فقد كنتُ أُحضِّر أكثرَ من درسٍ قبل الذهاب إلى منزلهم الكائن في السعدون قرب مديريّة الأمن العامّة (سيئة الصيت التي سبق لي أن أمضيتُ فيها أشهراً من الاعتقال بعد الانقلاب الدموي في شباط سنة 1963) وأقوم بتدريس كريمته المصون (إيفون) حفظها الله، ورعاها.

***

3330 عزيز علي كان الراحل يعاملني معاملة الوالد لابنه، ويجلسني مع العائلة عند تناول الطعام، وكانت عائلته مكوَّنة منه، ومن زوجه أمِّ عمر، وأخته الحجيّة، وابنه عمر، وبناته: إيفون (في الثالث متوسط)، وسوزان (في الخامس ابتدائي)، والطفلة مي (التي كانت في الروضة) حفظهنَّ الله، وأحاطهنَّ بالأمان.

 كانت تلك العائلة كريمةً معي، وتعاملني كأنني واحدٌ منها، وكثيراً ما كان الراحل يصطحبني مع نجله عمر لمشاهدة بعض العروض المسرحيّة، أو الموسيقيّة التي كانت تُقام على مسرح قاعة الخلد، ويتركنا في القاعة حتى ينتهي العرض، فقد كان يعمل في وزارة الثقافة والإرشاد مشرفاً على الاستعراضات الفنية قبل أن يُصبِحَ مشرفاً على مدرسة الموسيقى والباليه فيما بعد.

***

 الفنّان عزيز عليّ عبقريٌّ لا يُقارعه في عُمقِهِ الفنيِّ أحدٌ، ففضلاً عن كونهِ الفنّان الوحيد الذي يجيد خمس لغات غير العربيّة كتابةً وقراءة هي: (الانجليزيّة، والألمانيّة، والروسيّة، والكرديّة، والفارسيّة) فإنه درسَ موسيقى الشعر العربيِّ، وكان من ضمن الرعيل الذي يرهن نجاح القصيدة على العلاقة التي تربط الموضوع بالوزن، وهذا ما أكده الأستاذ حسن العلويّ حين قال: (لقد درس عزيز علي أوزان الشعر العربي القديم دراسة موسيقيّة استطاع معها أنْ يختارَ البحر المناسب منها لكلِّ تجربة، وأن ينتقي اللحن المناسبَ لكلِّ وزن، فهناك علاقة عضويّة بين بحر الشعر، وبين التجربة واللحن)⁽²⁾، وهذا عينُه الذي انتهت إليه نازك الملائكة (1923-2007م) في قولها: (إنَّ علاقة الوزن بموضوعِ القصيدة علاقة عضويّة، فإنْ أحسن الشاعر اختيار الوزن، أحسنَ في تحريك الموضوع وتقديمه، وإنْ أخفقَ في الاختيار أخفق في المعالجة)⁽³⁾، لهذا كانت جميع مولوجاته⁽⁴⁾ التي صاغتها ذائقته الشعريّةُ، ولحَّنتها موهبته الموسيقيّة، وغنَّتها حنجرتهُ الذهبيّة قد راعت هذه العلاقة.

***

 مونولوجات هذا العبقري كانت بلسماً لجراح العراقيين جميعاً، وعلى اختلاف توجّهاتِهم الفكريّة، فقد كانت العوائل العراقيّة تحرصُ على الاجتماع في منازلِها قبل حلولِ أماسي الأربعاءات من كلِّ أسبوع للاستماع لتلك المونولوجات في وقتِها المحدَّد، وكانوا يتمنّونَ أنْ يظلَّ صوتُ تلك الحنجرة الذهبيّة مستمرَّاً طوال تلك الأماسي.

 تناولت تلك المونولوجات الغنائيّة مشكلات المجتمع العراقيّ بخاصَّة، والعربيّ بعامَّة على نحوٍ من الواقعيَّة الانتقاديَّة، وكان الأستاذ عزيز عليّ حاذقاً في اختيارِ المفرداتِ الواخزة، أو الرامزةِ، وإذا شعرَ أنَّ التمتمةَ المقصودةَ تؤدِّي غرضَها التأويليَّ، فإنهُ يلجأُ إليها، أو يلجأُ إلى حذفِ الاسم المقصودِ بالذمِّ على نحوٍ يشيرُ إلى المسكوتِ عنه بذكرِ [ أل ] التعريفِ، وإكمال الإيقاعِ اللحنيِّ بصوتٍ تهكُّميٍّ يُماشي الإيقاعَ من غيرِ إفصاحٍ كما في مونولوج (الفن) في قولهِ:

وذاكَ الكمنجاتـي تره ..... ميـدك عَلأ صولْ

وهذا أبو الدف ابن الـ (..) .... ديصولْ ويجولْ

يا ناسْ يعني طرطـره ..... والسـالفه اطّـولْ

ياهو اللي صخّمْ وجـه .... كلّك آنـي حـدّادْ

ياهو اللي شـال العودْ .... سـمَّه نفسَـه عوَّادْ

 ويستطيعُ القارئ معرفة المحذوف بسهولةٍ من خللِ التقفيّةِ وحرفِ الرويِّ (الراء) .

كذلك في قولِهِ:

ياناس دا أنظمْ شعرْ...... واحجيلها لروحي

دا كلها ما ظلِّج قدرْ .... يرويحتي روحـي

ضاعتْ موازين الدهرْ... واوزانْ هالنـاسْ

الكرعه شـو وامّ الشعرْ...صارنْ فد اقياسْ

والعالِمْ وذاكْ الـ(......) . لبسَوا فَد الباسْ

وواضحٌ أنَّ المسكوت عنه في (...) هو البعرْ .

كذلك في مونولوج (منّه .. منَّه):

يا عربْ ماهي غلطتنا.... جنَّا ماشين ابنيَّتنا

لكـن(.....) خانتنا ... هيَّ شلَّتْ كلْ حركتْنا

أو همْ أملنا بجامعتنا

جامعتـنا هِيْ قبلتْنا

فالمسكوت عنه (......) هنا هو (جامعتنا).

 وكانت تلك المونولوجات الانتقاديَّة تحفيزيَّةً لرفضِ مفاهيمَ خاطئة من أجلِ إشاعةِ قيمٍ حضاريّةٍ، أو مدنيَّة مهمَّة، فضلاً عمَّا فيها من نقدٍ سياسيٍّ لاذعٍ عبرَ أداءٍ أخَّاذٍ اشتركَ في تكوينهِ صوتٌ مؤثِّرٌ عذبٌ، ولحنٌ مناسبٌ، وكلمةٌ فاعلةٌ، وأداءٌ تهكُّميٌّ في بعضِ الجمل.

 ويبدو أنَّ هذا العبقريَّ الذي قاسى مرارةَ السجنِ، والحرمان، وشظفَ العيشِ في مراحِلَ سابقة من حياتِهِ قد جعلتْهُ لا يخشى في الحقِّ لومةَ لائمٍ، ولعلَّهُ كانَ أوَّلَ من تنبأ بزوالِ الحكمِ الملكيِّ حين غنّى مونولوج (كل حال يزول) قبل أيَّامٍ من ثورةِ الرابعَ عشرَ من تموزَ سنة 1958م، التي قادها الجيش العراقي بقيادةِ الزعيمِ المغدور المرحوم عبد الكريم قاسم (1914- 1963م) إذ قال فيه مستخدماً إيقاعَ المتداركِ المخبون المضمر (فعْـلُنْ) ِ، وممدوده (فعْلانْ)، أو أجزاء من وحدتِه الإيقاعيَّةِ (فالْ = فَعْـلْ) كما في قولهِ:

كُلْ حال إيزولْ ..... كُلْ حال إيزولْ

فعْـلُنْ فَعْلانْ ....... فعْـلُنْ فَعْلانْ

متظل الدنيا بفدْ حالْ.... تتحوَّلْ من حال لحالْ

فعْلُُنْ فعْلُنْ فِعْلُنْ فالْ ... فعْـلُنْ فعْلُنْ فِعْلُنْ فالْ

هذا دوام الحال محالْ

فعْلُنْ فعْلُنْ فِعْلُنْ فالْ

وفيه مقاطع تؤكّد على أنَّ الأحوالَ لابدَّ أنْ تزولَ، كما في المقطعِ الآتي:

إحنا بهـل عالـم خطَّـار ...كصرت لو طالتْ لعمارْ

وعلى هالمسرح ليل انهار... دنشوفْ بعض الأشرارْ

ديـمثلـون ادوار ادوار... يـرحون ينـزل لستارْ

يلحكهـم عـارْ

فعْـلُن فَعْـلانْ

 وحينَ قامتِ الثورةُ (في 14 تموز سنة1958م) غنَّى شاتماً الاستعمار في مونولوجه الشهير (نو نو نو لهنانه وبسْ) متخذاً أيضاً وحدة الخبب الإيقاعيّة وأجزائها إيقاعاً له، فقال فيه:

بالغشْ والفتنه وبالدسْ...هوايه سمعتوا جلمة يسْ

ثخَّنـتوها يـزي عاد ... نو نو نو لهـنانه وبسْ

فعْلُنْ فعْلُنْ فِعْلُنْ فالْ ... فعْلُنْ فعْلُنْ فِعْلُنْ فعْ

***

 لم ينصفْ أحدٌ عزيز عليّ سوى المفكّرِ الأستاذ حسن العلويّ، فقد كان شهماً، وصاحبَ مروءةٍ، ونجيبا، فأعطاهُ حقَّه حين وضعَ عنه كتاباً فريداً وسمهُ بـ (عزيز علي اللحنُ الساخرُ) جرى طبعه في مطبعةِ العاني ببغدادَ سنة 1967م، وهو كتابٌ مهمٌّ كشفَ الكثيرَ ممَّا مرَّ بهِ هذا العبقريّ من أسرارٍ، وتابعَ مراحِلَ تطوّرهِ في أداءِ مونولوجاتهِ، وتحليلِها كاشفاً أسرارَ ما دارَ بين العبقري، ورئيس الوزراء آنذاك نوري السعيد (1888-1958م) فضلاً عن أنه وثَّقَ ما قدَّمه هذا العبقريّ في برنامجهِ التلفزيونيّ الموسوم بـ (في رحاب الفنِّ) الذي لم يستطعْ من تقديمِ سوى أربعِ حلقاتٍ منه كما ذكر الأستاذ حسن العلويّ بسبب: (رفض المقاميين رفضاً باتاً آراءَ عزيز علي كلاً وتفصيلاً، ولم يتوقَّفوا عند رفضها فحسب، بل نزلوا إلى الميدانِ وجبة واحدةً، وهم في حالةٍ نفسيّةٍ متوتِّرةٍ)⁽⁵⁾، ثمَّ يستشهد الأستاذ حسن العلوي بالهامشِ المؤلم الآتي: (وصفهم الأديب الباحث عبد الحميد العلوجي قائلاً: لقد نزلوا إلى الساحةِ وجبةً واحدةً ... يُمسِكُ كلٌّ منهم الخنجرَ باليمنى، وباليسرى قنينة من خمر هبهب.)

3331 عزيز علي

 لقطـــاتٌ:

حين كنتُ أنتهي من تدريس أنجالهِ: (عمر)، أو(إيفون) كانت تُتاحُ لي فرصٌ ذهبيَّةٌ لمحاورتِهِ، والإفادةِ ممَّا يذكرهُ من تجاربِهِ الغنيَّـةِ في الفنِّ والحياةِ، فحفرت بعضُها في ذاكرتي مكاناً لها لن تبارحْها إلاّ حين أُبارحُ الحياة، كان منها ما يأتي:

1ـ قال لي مرَّةً: إنَّهُ لم يكنْ في حياتهِ الفنيَّةِ والاجتماعيَّة متزلِّفاً، أو مداهناً مطلقاً، وعلى سبيلِ المثالِ ذكرَ لي: انّهُ حين وصلَ باريس (مدينة النور) بدعوةٍ من دار الإذاعة الفرنسيّةِ اصطحبه في اليوم الثاني من الزيارةِ أحد المسؤولين فيها، فأراه تلك الصروحَ الفارهة، ومكّنه من مشاهدة البث الحيّ، وما تعلّق بالإذاعة من نشاطات، ثمَّ قال لي: وحين انتهت الجولة سألني المضيِّف قائلاً: (لِمَاذا لمْ تعلِّقْ بالإيجابِ على ماشاهدتَه من جمال تلك الصروح المكتملة، والاستوديوهات الفنيّة العديدة .؟ ... فأجبتُهُ قائلاً: أنا لستُ مدَّاحاً، إنَّما أنا ناقدٌ أُنبِّهُ الناسَ إلى ما قد أراهُ نقصاً، أو عيباً كي يتمَّ تلافيه، وهذا ديدني في حياتي الفنيّة، فأجابني مبتسماً: حسناً .. هل رأيتَ عيباً في تلكَ الغرفِ والأقسامِ، فقلتُ له: نعم رأيتُ عيباً في الغرفةِ ما قبل الأخيرة، فقال: لنعد إليها، وحينما عدنا إلى تلك الغرفةِ أشرتُ إلى سقفها، وقلتُ له: (انظر.. هناكَ ثلمةٌ صغيرة مجاورة (للبروجكتر) منعكم الضوءُ الساطعُ من رؤيتِها، لذلك ينبغي عليكم معالجتِها، فاندهش، وقال: نعم ..نعم أنتَ على حقٍّ إنَّها ثلمة لم ننتبه لها بفعلِ الضوء الساطع، ثمّ أخرجَ دفتر الصكوك من حقيبتهِ الصغيرةِ، وكتبَ لي مكافأةً مقدارُها ألف فرنك فرنسي، وهو شاكرٌ معتذرٌ، فقلتُ له: ليس غرضي من ذلك أن أنال المكافآت، إنَّما هو منهجي في الفنِّ، لكنه أصرَّ على أنْ أقبلَ تلك المكافأة.

2ـ حينَ علِمَ الأستاذ عزيز أنَّني كتبتُ مسرحيّة (ردهة 8) وقدَّمتها فرقة معهد المعلمين من شاشة تلفزيون بغداد، وأخرجها صديقه الأستاذ وجيه عبد الغني (1933-1998م) أعارني مسرحيّة من فصلٍ واحد من تأليفه أسماها بـ(الرسّام) أو (الفنّان) لم أَعد أتذكَّر اسمها بالضبط مكتوبةً على آلةِ الطابعةِ، وطلبَ منّي أن أُحافظَ عليها، وقال لي: أقرأها، واعطني رأيكَ فيها عند زيارتِكَ القادمة.

وتتلخَّصُ تلك المسرحيَّة في أنَّ رسّاماً (تشكيليّاً) ينشرُ إعلاناً في صحيفةٍ محليَّةٍ يُعلِنُ فيها عن جائزةٍ بألفِ دينارٍ، أو ألفِ دولار(لم اعد أتذكّر) لمن يكتشف الخطأ الذي وضعه الفنانُ في اللوحةِ، وحينَ يجيءُ الفنّانونَ التشكيليّون ليشاركوا في المسابقة يقومُ مدير مكتبِه بتنظيمِ دخولهم واحداً إثرَ الآخر، وحين يدخلُ كلُّ تشكيليٍّ يريدُ كشفَ الخطأِ الذي في اللوحة، ويمعن النظر فيها، يسألُهُ الرسّامُ عن اسمهِ، والمدرسةِ الفنيّةِ التي ينتمي إليها، ويدورُ بينهما الحوار الآتي:

الرسام ـ ما اسمك رجاءً ؟.

فيجيبه ـ فلان الفلاني، فيسأله: هل أنتَ سوريالي، أم دادائي، أم انطباعي، أم واقعي، أم من المدرسةِ الرمزيّة ؟ ... إلخ، فيرد عليه ذاكراً اسم مدرسته الفنيّة، (وهنا جوهر القضيّة التي أرادَ الأستاذ عزيز عليّ أن يطرحها) يسألهُ: أينَ الخطأ رجاءً؟ وحينَ يجيبُه مثلاً في الموضع كذا من اللوحة، أو في زاويةِ الضوءِ تلك، أو في مسقطِ الضوءِ الكائن في كذا من اللوحة.... إلخ، يُجيبُهُ الرسامُ: لا يا سيّدي، ليسَ الخطأُ هناك شكراً لكَ، وحينَ يخفِـقُ الجميعُ في إجاباتِهم، ويُغادرونَ المرسم تباعاً يسألُ الرسّامُ مديرَ مكتبِهِ: هل بقيَ هناكَ أحدٌ ؟، يجيبُهُ مديرُ المكتبِ: نعم سيّدي، بقيَ شابٌ واحدٌ متَّسخُ الهيأةِ أجلتُ إدخاله، فهل أُدخله ؟؟؟، أم أصرفه ؟، فيجيبُه الرسام: لعلَّهُ تشكيلي موهوبٌ اتَّسخت ملابسُهُ من كثرةِ العملِ في ورشتِه، ولم يتسنَّ له تغيير ملابسهِ، ادخله سريعاً، وهنا تبدأ المفارقةُ التي قصدَ إليها العبقري عزيز علي قصداً في الحوار الذي دار بينهما:

الرسام ـ ما اسمكَ يا بنيّ ؟.

الشاب المتَّسخُ ـ فلان الفلاني .

الرسّام ـ حسناً، دقّقْ في اللوحة، واخبرني عن الخطأ الذي فيها رجاءً .

الشاب ـ الخطأُ في رباطِ حِذاءِ الرجلِ(القيطان) تحديداً يا سيّدي .

 وهنا يُسارعُ الرسامُ، فيعقّبُ سعيداً: نعم... نعم صحيح في قيطان الحذاءِ تماماً، أرجوكَ قلْ لي: هل أنتَ دادائي، أم سوريالي ؟ أم انطباعي؟، أم واقعي، أم من أصحابِ المدرسةِ الرمزيَّة ؟..

الشاب: لا يا سيّدي... لستُ دادائيّاً، ولا سورياليّاً، ولا من ذوي المدرسة الرمزيَّة وغيرها، إنَّما انا صبّاغ قنادر (أحذية) أمضيتُ في صبغِها ما يقربُ من عشر سنواتٍ، وأعرفُ أنَّ القيطان المتينَ لا يمكنُ أنْ يكونَ مرفوعَ الرأسِ هكذا، إنَّما يجب أنْ يكونَ منبطحاً بسببِ ثقله... وهنا تنتهي تلك المسرحيّة القصيرة.

وحينَ انتهيتُ من قراءة تلك المسرحيَّة أدركتُ ما كان يرمي إليه الأستاذ عزيز عليّ، فعدتُ بها إليهِ في زيارتي التالية وأظهرتُ له إعجابي واندهاشي بها، لكنَّني رجوتُهُ ألاَّ يقوم بعرضها مسرحيّاً، ولا ينشرها، فربَّما يُثيرُ عليهِ هذه المرَّة مواجعَ التشكيليين من الدادائيين، والسورياليينَ، الذينَ أرادَ توجيه نقده إليهم، ولعلّه تذكّرَ بعد ذلكَ ما قام بهِ المقاميّون من تظاهرات اقترنت بتهديدهِ علناً وهم يحملونَ الخناجر وقناني عرك الهبهب في اياديهم كما ذكر ذلك الأستاذ حسن العلوي في كتابه(عزيز عليّ اللحن الساخر)، فعدِلَ عن تفعيلها دراميَّا .

 رحم الله تعالى الفنانَ العبقريّ (عزيز عليّ) الذي لايُشبهُهُ أو يقارعهُ أحدٌ في عمقِهِ الفنيّ، وحبّذا لو تقومُ وزارةُ الثقافة بإعادةِ طباعةِ كتاب حسن العلوي عنه، فهو سفرٌ منصف.

 

د. عبد الرضـا عليّ

...................

إحــــــــالات:

(1) له العديد من الكتب والمقالات المترجمة، كان من أبرزها: (السيناريو) للأميركي(سيد فيلد)، وكان له عمود أُسبوعي (على حافة النقد)، وكتب لجريدة الجمهوريّة، ولمجلّة ألف باء، كما قدَّم من على الشاشة الفضيّة برنامجه السينمائي (السينما والناس) من تلفزيون الشباب الذي كان يشرف عليه عدي صدام حسين.

(²) عزيز علي اللحن الساخر، 25، ط1، مط: العاني، بغداد/ 1967.

(³) كتابنا (نازك الملائكة الناقدة) 154، ط1، مط: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت /1995.

(⁴) عرّف المفكّر حسن العلوي المونولوج أنه (مصطلح يوناني لاتيني مركب من كلمتين هما (مونو) ومعناها فرد، أو فردي، و (لوج) ومعناها الكلمة، أو الخطاب، فمعنى (مونولوج) اللغوي هو الكلام الفردي، أو الخطاب الفردي...لكنّها ابتعدت عن مضمونها اللغوي، فصارت تطلق في البلاد العربية على لون من الغناء الشعبي يتداوله المهرجون الضحاكون، أمّا في العراق فقد أطلقت هذه التسمية على الآثار الغنائيّة التي أنشدها عزيز علي باعتبارها شكلاً ومضموناً يختلف عن شكلها ومضمونها المعروفين في البلاد العربية الأخرى ينظر: عزيز علي اللحن الساخر ص: 24.

(⁵) حسن العلوي: عزيز علي اللحن الساخر، ص: 182، كذلك هامش الصفحة ذاتها

 

في المثقف اليوم