شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: نجم الدين أربكان.. ما له وما عليه (2)

محمود محمد عليبعد انتهاء المدة عاد إلي العمل السياسي مؤسسا لـ (حزب الرفاه) وضم إليه نخبة كبيرة من الشباب الذين تخرجوا من مدارس الأئمة والخطباء وكليات الإلهيات، والذين كانوا يمارسون العمل السياسي في اتحاد الطلاب ورشح عدد كبير منهم لانتخابات البلدية وفازوا في المدن الكبيرة مثل أنقرة واسطنبول وأزمير، ودخل الحزب الانتخابات البرلمانية وفاز بالأغلبية والتي مكنته من أن يقوم بتشكيل الوزارة ويكون رئيسا للوزراء.

ثم تابع مشروعه القومي في الصناعة ولكنه كان يجاهر دائما بعدائه للجيش والعلمانيين والشيوعيين والاشتراكيين، فانقلب الجيش ضده كما يزعم بعض الباحثين المؤيدين لفكر جماعة الإخوان المسلمين، ومنعه من ممارسة العمل السياسي مرة أخري هو وقادة الأحزاب الأخرى مثل سليمان ديميريل وغيره، وأدي هذا الصدام إلي أن يختلف معه شباب الحزب والذين كانوا يمثلون الصف الثاني وكان علي رأسهم رجب طيب أردوغان وعبد الله جول وأحمد داوود أوغلو وانفصلوا عنه في صدامه مع الجيش والمحكمة الدستورية، ولا يمكن أن ننسي دور المخابرات الإسرائيلية والأمريكية واللوبي اليوناني والأرمن في أمريكا فكل هؤلاء جميعا يعملون ضد التيار الذي يقوده نجم الدين أربكان، وشكل الشباب الجدد حزبا مستقلا تحت مسمي ( حزب العدالة والتنمية) وكسبوا بها الانتخابات ( عام2002).

وخلال أقل من عام قضاه رئيساً للحكومة التركية، سعى أربكان إلى الانفتاح بقوة على العالم الإسلامي، حتى بدا وكأنه يريد استعادة دور تركيا الإسلامي القيادي، فبدأ ولايته بزيارة إلى كل من ليبيا وإيران، وأعلن عن تشكيل مجموعة الثماني الإسلامية التي تضم إلى جانب تركيا أكبر سبع دول إسلامية: إيران وباكستان وإندونيسيا ومصر ونيجيريا وبنغلاديش وماليزيا .

لم يكتف أربكان بذلك، بل نشط عبر العالم الإسلامي، وحدد موعداً لمؤتمر عالمي يضم قيادات العمل الإسلامي، وباتت تركيا تتدخل بثقلها لحل مشكلات داخلية في دول إسلامية كما حدث حينما أرسل وفوداً لحل خلافات المجاهدين في أفغانستان . لكن أربكان حرص رغم ذلك على عدم استفزاز الجيش، وحاول تكريس انطباع بأنه لا يريد المساس بالنظام العلماني، وقع على الاتفاقيات المتعلقة بإسرائيل بعد تأخير لمدة 10 أيام واضطر للتوقيع عليها بعد ضغوط عسكرية شديدة وصلت للتهديد بالانقلاب العسكري وهو ما كان معتاد في تركيا. ورغم ذلك لم يعهد عليه أنه زار أو طلب زيارة إسرائيل.

لم يكن التقارب مع إسرائيل كافياً لارتياح الجيش من أربكان، فقدموا إلى أربكان مجموعة طلبات لغرض تنفيذها على الفور تتضمن ما وصفوه بمكافحة الرجعية وتستهدف وقف كل مظاهر النشاط الإسلامي في البلاد سياسياً كان أم تعليمياً أم متعلقا بالعبادات، فكان أن اضطر أربكان إلى الاستقالة من منصبه .

ثم قررت المحكمة الدستورية التركية في يونيو 2001م حل حزب الفضيلة الإسلامي، والذي كان يعتبر القوة السياسية الثالثة في البلاد، حيث وجه له الادعاء التركي تهمة تهديد النظام العلماني في البلاد، وبأنه استمرار لحزب الرفاه الإسلامي.

وجاء حل حزب الفضيلة ليؤكد اقتناع جيل الشباب الذين يطلق عليهم في تركيا "المجددون المعاصرون" بحاجة الحركة الإسلامية أن تعيد ترتيب أوراقها بما يناسب الحالة التركية، ومن هنا كان تأسيس هذا الجيل الجديد لحزب جديد واختاروا له اسمًا موحيًّا، وهو "العدالة والتنمية"، بينما سار "شيوخ" الحركة في اتجاه تأسيس حزب جديد باسم "السعادة" على نفس النهج الأربكاني في الأحزاب الأربعة التي سبقته.

وفي الانتخابات البرلمانية التركية التي جرت في نوفمبر 2002م استطاع حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان رئيس بلدية إسطنبول السابق تحقيق نصر ساحق باحتلاله لـ363 مقعدًا من البرلمان التركي، فيما أخفق حزب "السعادة" بزعامة رجائي قوطان في الدخول إلى البرلمان حيث لم يتمكن من الحصول على نسبة 10% من أصوات الناخبين!!

وقد ترأس أربكان حزب السعادة في عام 2003م، وفي مايو 2007م بدأ أربكان تطبيق عقوبة الحبس المنزلي -عقوبة تطبق في تركيا على كبار السن والشيوخ المحكوم عليهم بالحبس لمدة تقل عن 3 سنوات- لمدة سنتين وأربعة أشهر الصادرة ضده من المحكمة العليا بأنقرة في ادعاء وتهمة تبديد مبلغ يساوي مليون دولار من المخصصات الرسمية التي تمنحها الدولة للأحزاب البرلمانية، وذلك وقت أن كان رئيسًا لحزب الرفاه، وكان الحكم الصادر ضد الزعيم الإسلامي أجل تنفيذه 4 مرات؛ بسبب حالة أربكان الصحية.

وفي أغسطس 2008م صدَّق تلميذ أربكان الرئيس التركي عبد الله جول على عفو رئاسي يرفع عقوبة الحبس الصادرة ضد أربكان، ليعود الزعيم مجددًا إلى ساحة العمل السياسي ويتم انتخابه في أكتوبر 2010م رئيسًا لحزب السعادة، المنصب الذي ظل يشغله حتى وافته المنية، وقد شيع مئات الآلاف من الأتراك نجم الدين أربكان مؤسس التيار الإسلامي السياسي التركي في مدينة إسطنبول، وتقدم المشيعين الرئيس التركي عبد الله جول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وكبار ضباط الجيش وممثلون لأكثر من ستين دولة، وأقيمت صلاة الجنازة يوم الثلاثاء 1 مارس 2011م بمسجد الفاتح الذي شيد في القرن الخامس عشر الميلادي،

وثمة نقطة مهمة نود الإشارة إليها هنا ونحن نبرز دور أربكان وذلك للكشف فيما له وما عليه، حيث ذكر الأستاذ حلمي النمنم أنه جاء في مذكرات السيد عمرو موسي التي نشرتها "دار الشروق" قبل أقل من أسبوعين واقعة تستحق أن نتوقف عندها تتعلق بالرئيس الأسبق حسني مبارك كان مبارك في زيارة إلي تركيا ومعه وزير الخارجية عمرو موسي وكان مبارك وقتها موضع تقدير بالغ لدي الرئاسة والمسئولين الأتراك وكان نجم الدين أربكان ظهر في الساحة وتولي رئاسة الحكومة وطلب أن يلتقي مبارك. لم يكن الرئيس المصري متحمساً ولا كان اللقاء مدرجاً في برنامج الزيارة. ومع ذلك ارتأى أعضاء الوفد المصري أن يمنح الرئيس مبارك. أربكان فرصة. كرئيس وزراء جديد. يريد أن يقدم نفسه. وبالفعل جري تحديد موعد له. وما أن جلس مع الرئيس المصري. حتي بادره: سيادة الرئيس لي طلب عندك. واستمع مبارك باهتمام وبأريحية. يبدو أنه توقع أن لدي أربكان مطلباً شخصياً يتمني تلبيته. لذا استمع إليه باهتمام وربما باستعداد للتلبية. وكان مطلب أربكان الذي قاله: سيادة الرئيس أرجوك أن تفرج عن قيادات الإخوان. فوجئ مبارك ورد عليه بحدة وانفعال. وكانت أول كلمة قالها: وأنتم مالكم.. واعتبر ذلك تدخلاً في الشأن الداخلي المصري. وهو أمر مرفوض تماماً. وقال كلمات أخري قاسية لأربكان. ويكمل موسي: أنه أعطاه ظهره وانتهت المقابلة.

ويستطرد النمنم بأنه لم يكن أربكان من دعاة الديمقراطية والحريات. لكنه كان واضحاً في تبنيه الدفاع عن تيار وفصيل. احترف العنف والإرهاب في مصر. ولم يكن هو شخصياً. بعيداً بالفكرة والأيديولوجيا عن هذا التيار. والواضح أن مبارك التقط ذلك من اللحظة الأولي. ولعل هذا ما جعله في البداية غير مرحب باستقباله والجلوس معه. ولما سمع منه. لم يشأ الدخول في نقاش أو جدل معه. وإنما "نهره". طبقاً لما رواه عمرو موسي. والمهم أن رسالة كل طرف وصلت إلي الآخر بلا مواربة.. لم تنجح تجربة أربكان. وفشل سريعاً. وأطيح به. أطاحه تلاميذه ومن بينهم الرئيس أردوغان نفسه. وإن كان هو شخصياً خرج من المشهد السياسي. لكن مطلبه من مبارك لم يكن بعيداً عن ذهن من خلفوه حزبياً وسياسياً.

مطلب أربكان كان يعني كما يري النمنم لدي الدولة المصرية أن عين فريق من السياسيين الأتراك علي الإخوان وأن قلوبهم معهم ونفوذهم. إن أمكن. وأتصور أن الدولة وأجهزتها لم تغفل عن ذلك. وإلا لما وجدنا الرصد الدقيق. عبر سنوات. للعلاقات والتعاملات بين عدد من قيادات الإخوان وأطراف تركية وأطراف دولية عبر تركيا. وقد وصلت هذه العلاقات إلي حد التدبير والتخطيط للدفع بالإخوان إلي تصدر المشهد السياسي في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011. والمساندة الكبيرة التي تقدم من تركيا لفلولهم بعد ثورة 30 يونيه وحتي الآن.

ولهذا السبب فقد رأينا أن جماعة الإخوان المسلمين كانوا يلقبون أربكان بأنه "أبو الإسلام السياسي" في تركيا وأول رئيس حكومة إسلامي في تاريخها الحديث الذي ظل لسنوات أبرز رجل سياسي إسلامي في العالم، وكان سر تميّز أربكان في نظرهم هو كونه أكثر الساسة الإسلاميين جرأةً، وأكثرهم مباشَرةً في تعاطيه مع إسلاميّته.

وهنا يوضح الباحث عمرو عمار في كتابه " الاحتلال المدنى: أسرار 25 يناير والمارينز الأمريكي"، أن نجم الدين أربكان، يعد بمثابة الأب الروحى للإسلام السياسى في منطقة الأناضول، وهو الأستاذ الأول لأردوغان الذى ظل يصفه بالتلميذ البار المطيع ذي الأخلاق الحميدة، حتى انقلب عليه وصار يهاجمه عندما بدأ يروج لمنظومة الدرع الصاروخية، ونشرها على الأراضي التركية، حيث قال: "إن الصهيونية تحتكر غالبية وسائل الإعلام في تركيا لخدمة رجب طيب أردوغان، وأن هناك 30 صحيفة و30 فضائية تعمل لصالحه ليل نهار، لا لكى يظل في السلطة فحسب، بل من أجل الحفاظ على قيام إسرائيل العظمى في المنطقة، والتي تضرب بعرض الحائط كل قرارات مجلس الأمن" وأضاف: "أن الجميع وفى مقدمتهم الصهيونية يعملون لأن تكون تركيا تابعة لإسرائيل".

 

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.........................

المراجع

1- محمد عبد الرحمن: نجم الدين أربكان.. أستاذ أردوغان الذى فضح سياسته الصهيونية.. اليوم السابع .. الخميس، 27 فبراير 2020 10:00 م

2- نجم الدين أربكان: من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.

3- أشرف سيد: تقرير سياسي تجربة أربكان ومرسي بين النهضة والفشل‏!‏.. الأهرام.. لجمعة 10 من رمضان 1434 هــ 19 يوليو 2013 السنة 137 العدد 46246.

4- حلمى النمنم: أربكان ومبارك والإخوان.. الخميس2017/09/21.

5-عمرو عمار : الاحتلال المدنى: أسرار 25 يناير والمارينز الأمريكي".. مكتبة سما، 2013.

6- مصطفى الأنصاري: نجم الدين أربكان.. المجاهد الإسلامي التركي.. 05:00-2011/03/03

 

في المثقف اليوم