شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: أمل دنقل.. شاعر الرفض والثورة

محمود محمد عليفي الشهرين المقبلين تهل علينا، الذكرى الـ39 على ميلاد شاعر الرفض والثورة أمل دنقل (1940-1983)، إذ رحل في 21 مايو عام 1983، عن عمر ناهز 43 عاما، بعد أن ترك للمكتبة العربية عشرات الدواوين الشعرية ما زالت محفورة في أذهان عشاق شعر التفعيلة الحديث ونفوسهم، وقد ترجمَ غالبيتها إلى عدد من اللغات كالإنجليزية والألمانية والإسبانية، بسبب ما كان يقدم في قصائده من ملامح وقيم إنسانية وسياسية ما زالت تستعاد في مختلف الأحداث.

لم يكن الشاعر المصري الراحل أمل دنقل صاحب الوجه الأسمر والملامح الهادئة والعينين الوديعتين اللتين يملؤهما الدمع دون ضعف، يتعامل مع َ الكلمات بشاعرية منبعثة من ملكة الأمل التي يعيشها، إذ خاض صاحب "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" تجارب كثيرة، واحتك بفئات مختلفة من غير المثقفين (1).

ويعد واحدا من أهم شعراء الستينيات في مصر، فالمكانة التي يحتلها في تاريخ الشعر العربي المعاصر، والتي ترتبط بالإنجاز الذي حققه على المستوى الإبداعي، تجعل منه ً واحدا من أبرز الشعراء العرب المعاصرين. ولا تحتسب المكانة، في هذا السياق، بالكم الشعري الذي كتبه الشاعر، أو الدواوين التي أصدرها (2).

وعلاقة شعر أمل دنقل بالجماهير العريضة هي واحدة من أعمق العلاقات التي كونها الشعراء الهرب بجماهيرهم عبر تاريخنا الأدبي الشعري الحديث، بحيث يمكن أن نضعه إلى جانب بيرم التونسي وأحمد شوقي، في دائرة الشعراء ذوي الجماهيرية الواسعة، وإذا كان بيرم التونسي قد ساعدته في تكوين هذه الجماهيرية العريضة اللغة العامية التي كانت أداته في الإنشاء الشعري، وقاطعة له خطوات عديدة في شوط الاتصال الجماهيري، فضلا عن وسيط الغناء " أم كلثوم وغيرها  " الذي حمل شعره على بساط الريح إلي كل أذن عربية، وإذا كان أحمد شوقي قد ساعدته صلته بالقصر وبالنظام السياسي الاجتماعى والإعلامي والتعليمي (كان الأهرام ينشر قصيدته في الصفحة الأولي صبيحة كتابتها، وكان شعره مقررا في سائر مراحل التعليم)، فضلا عن وسيط الغناء "أم كلثوم وغيرها" الذي حمل شعره على بساط الريح إلى كل أذن عربية .. فإن أمل دنقل قد كون جماهريته العريضة وهو خالي الوفاض من هذه  العوامل المساعدة أو المؤثرات الخارجية التي عاونت بيرم وشوقي بل كان على الضد من بعض  هذه العوامل .. لم يكتب أمل دنقل بالعامية، وإنما كتب بالعربية الفصحي بل والفصحي المتينة المكينة، ولم يكن متوائما مع النظام السياسي والاجتماعي والإعلامي والتعليمي، بل معارضا له ومتمردا عليه، ومحجوبا وممنوعا من الإعلام والتلفزيون والتعليم (3) .

ولهذا نقول مع بعض الباحثين بأن أمل دنقل شاعر استثنائي في حياتنا، فقد أتي شعره تعبيرا رافضا لكل عناصر القهر والتسلط والسلفية الجاهلة، والتي صنعت هذه الهزيمة .. إنه يتحرك في شعره من أجل حرية الإنسان وكرامته وسيادته على وطنه ضد كل قوي التآمر والاحباط والانكسار .. إن إنجاز امل دنقل يتجسد في كونه ينقل الشعر من وظيفته رالوصفية إلى اتخاذ موقف من الحياة، والحرب ضد قوي الشر والتخلف .. وهنا يحمل أمل دنقل سيفا يخط به أنبل القيم وأعظم المعاني (4).

علاوة علي كون شعره يمثل حلقة مهمة في تاريخ الإبداع العربي، جاء من بلاده البعيدة فى الصعيد مع رفيقيه عبد الرحمن الأبنودي ويحيى الطاهر عبد الله، ليقدموا المختلف في عالم الكتابة، وأصبح بعد ذلك علامة بارزة في الكتابة الشعري.. كان أمل دنقل شاعرا يملك عيون زرقاء اليمامة، يبصر أكثر مما يبدو، ويرى حالنا واضحا أمام ناظريه منذ قديم، يتنبأ بما سيصيبنا من هزائم وانكسارات، وهكذا يكون الشاعر الحقيقي المهموم الذى لم يكن أبدًا بوق سلطة ولا مبرراتى للحكومات ولا متربصًا بأحد، لكنه مهموم بما يراه أمامه يقرأ واقع مجتمعه ومستقبله (5).

ولهذا استطاع أمل دنقل بشعره أن يتبوأ مكانة خاصة فى شعر الحداثة العربية في نوع قصيدة التفعيلة العربية التي يتنمى أمل للموجة الثالثة من شعرائها، تلك الموجة التي بزغت في ستينيات القرن العشرين وكان من أبرز وجوهها محمود درويش ومحمد إبراهيم أبو سنة وفاروق شوشة. اقترن شعر دنقل بفترة مهمة من تاريخ مصر والعرب، فترة ما بعد الكولونيالية ونكسة يونيو 67، ثم اتفاقية السلام مع إسرائيل بعد حرب أكتوبر، ما جعل خطابه الشعرى معبرًا عن الجدل السياسي والمجتمعي بأثر تلك التحولات الفاصلة فى تاريخنا المعاصر (6).

وقد تأثر أمل كحال أبناء جيله، بأحلام الشباب والوحدة العربية، وشعر بانكسار كبير بعد نكسة 1967، وهو ما انعكس على شعره من خلال قصائد كثيرة، أبرزها “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، وهي القصيدة التي حملت عنوان ديوانه الشعري الأول، الذي حقق نجاحًا كبيرًا وأوصله إلى الشهرة على صعيد العالم العربي (7) .

علاوة على انتماء أمل دنقل إلى تيار النقد الاجتماعي، فقد عبَّر شعره عن اتجاه الرفض، مشحونًا بنبرات السخط والمقاومة وعدم الخضوع للتيار السائد، كما حفل خطابه الشعرى بتشريح أسباب الهزيمة القاسية والصادمة أمام العدو الصهيوني وعبّر أيضًا عن الغضب العارم إزاء ردة فعل الجبهة الداخلية على الهزيمة، كما فى قصيدة «بكائية ليلية» التى يهديها إلى صديق فلسطيني استشهد فى صحراء النقب: (نتوه فى القاهرة العجوز، ننسى الزمنا/ نفلت من ضجيج سياراتها، وأغنيات المتسولين/ تُظللنا محطة المترو مع المساء.. متعبين/ وكان يبكى وطنًا.. وكنتُ أبكى وطنًا/ نبكى إلى أن تنضب الأشعار/ نسألها: أين خطوط النار؟/ وهل تُرى الرصاصة الأولى هناك.. أم هنا؟) (8).

ولهذا تكشف هذه القصيدة التى تحتوى على نقد صارم للقاهرة بوصفها المركز الدولاتى عن شعور المثقف بشيخوخة المجتمع القاهرى، أى عدم قدرة المركز، القاهرة، على مواكبة الزمن ومتغيرات العصر، وهو ما يدعو المثقف الوطني إلى الانسلاخ عن الزمن الآني لعدم قدرته على التوافق معه والعيش فيه، كما يبدو الفضاء الاجتماعي لهذا المركز طاردًا للمثقفين، لما يحتويه من فوضى وعشوائية اجتماعية، تتمثل في ضجيج السيارات وأغنيات المتسولين بوصفها آليات للتحايل الاجتماعي من أجل الكسب المادي، كما تسفر وضعية السيارات فى مقابل المتسولين عن البون الاجتماعي الفادح والتفاوتات الطبقية الشاسعة فى تلك المدينة المركز. وكأنّ الوعى الناقد لمثقف عضوي مثل أمل دنقل قد دفعه للتفتيش عن الأسباب الاجتماعية للهزيمة العسكرية، مبرزًا أن خطوط النار وساحة القتال لا تقتصر فقط على ميدان العمليات العسكرية، فلا بد من إصلاح المجتمع من الداخل، كما يتبدى أنّ ثمة شعورًا بالغًا بالانكسار من ناحية وعجز الشعر من ناحية أخرى، إذ تنضب الأشعار في التعاطي مع فجيعة الهزيمة، ما يؤكّد تمادى الهزيمة فى ثقلها وكارثيتها (9).

ولد أمل دنقل عام 1940، فى أسرة صعيدية فى 23 يونيو من عام 1940 بقرية القلعة، مركز فقط بمحافظة قنا فى صعيد مصر، وزوجته هى الكاتبة الصحفية عبلة الرويني .. وسرّ تسميته، هو أن والده كان من علماء الأزهر الشريف، وقد حصل في العام الذي ولد فيه "أمل" على إجازة العالمية، فقرر أن يسمي مولوده الجديد بهذا الاسم تيمناً بالنجاح الذي حققه وهو أعلى مؤهل ديني أزهري يتصل بدراسة اللغة العربية والعلوم الشرعية

وقد جاء أمل دنقل إلى القاهرة والتحق بكلية الآداب لكنه لم يمكث بها كثيرا، وعاد مرة أخرى إلى قنا ليعمل في المحكمة برفقة صديقه الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، ولم يستمر أي منهما في الوظيفة، حيث غادرا مرة أخرى إلى القاهرة ليلتحق بالعمل فى مصلحة الجمارك بالسويس والإسكندرية ثم بعد ذلك موظفاً فى منظمة التضامن الأفروآسيوى، لكنه كان دائماً يترك العمل وينصرف إلى كتابة الشعر (10).

ورث أمل دنقل عن والده موهبة الشعر، فقد كان يكتب الشعر العمودى، وأيضًا كان يمتلك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربى مما أثر كثيرًا فى أمل دنقل وساهم فى تكوين اللبنة الأولى لهذا الأديب، وفقد أمل دنقل والده وهو فى العاشرة من عمره مما أثر عليه كثيرًا وأكسبه مسحة من الحزن تجدها في كل أشعاره.

كما خالف معظم المدارس الشعرية فى الخمسينيات واستوحى قصائده من رموز التراث العربي، وقد كان السائد فى هذا الوقت التأثر بالميثولوجيا الغربية عامة واليونانية خاصة، وعاصر أحلام العروبة والثورة المصرية مما ساهم فى تشكيل نفسيته وقد صدم ككل المصريين بانكسار مصر في عام 1967 وعبر عن صدمته فى رائعته "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة" ومجموعته "تعليق على ما حدث ".

وأما أعمال أمل دنقل فقليلة مثل عمره القصير، ولكنها أعمال متميزة بما تنطوي عليه من إنجاز ودلالة، فقد صدرت أعماله خلال مسيرته 6 دواوين شعرية، هى:

1- البكاء بين يدى زرقاء اليمامة والذي صدر عام 1969، استوحى أمل دنقل قصائده من رموز التراث العربي، وقد كان السائد فى هذا الوقت التأثر بالميثولوجيا الغربية عامة واليونانية خاصة، عاصر أمل دنقل عصر أحلام العروبة والثورة المصرية مما ساهم فى تشكيل نفسيته وقد صدم ككل المصريين بانكسار مصر فى عام 1967 وعبر عن صدمته فى رائعته "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة". .

2-تعليق على ما حدث : وقد صدر عام 1971، هو استمرار لاتجاه الديوان الأول المعروف باسم "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة" الذى لفت إليه أنظار الأمة العربية عام 1969، وكان بمثابة احتجاج وإدانة للعالم الذى أدّى إلى هزيمة يونيو 1967. خصوصاً وأنه الديوان الثانى فى رحلة "أمل دنقل" الإبداعيّة .

3-مقتل القمر: والذي صدر عام 1974، ويعتقد أنه أول الدواوين الذى كتبها أمل دنقل فى مطلع الستينيات، يظن الكثيرون أن شعر أمل دنقل كان سياسياً فقط، غير أن شعر أمل الرومانسى يقترن دائما بتوهج لحظات الحب القليلة التى مر بها، والتى جعلته يدرك أهمية المرأة فى حياته، نجد فى شعر أمل الرومانسى معانى جميلة، وتعبيرات مؤثرة، فى قصيدة طفلتها .

4-العهد الآتى: والذي صدر عام 1975، ومن أبرز قصائده "سفر الخروج" أو "أغنية الكعكة الحجريّة"، التى كتبها وسط مظاهرات الحركة الطلابية وصدامهم الشهير مع شرطة النظام سنة 1971م .

5- أقوال جديدة عن حرب بسوس: والذي صدر عام 1983، فى هذا الديوان يستحضر أمل دنقل الشخصيات الرئيسية فى حرب البسوس، ويسقطها على الواقع العربى المعاصر، حيث يستعرض فى كل قصيدة إحدى الشخصيات مثل كليب القتيل واليمامة ابنته والمهلهل أخيه والمنتقم لموته .

6- أوراق الغرفة 8 : والذي صدر عام 1983، يضم هذا الديوان، الذى نشرته زوجته، الكاتبة والصحفية "عبلة الرويني"، بعد أربعين يوماً من وفاته، القصائد الأخيرة التى كتبها أمل دنقل طوال فترة مرضه، وتحديداً فى هذه الغرفة، فقد ظل أمل يكتب الشعر وهو على سرير المرض فيها، على علب الثقاب وهوامش الجرائد، ولم يهمل الشعر لحظة حتى آخر أيامه .

وقد أصيب أمل دنقل بالسرطان وعانى منه لمدة تقرب من ثلاث سنوات وتتضح معاناته مع المرض فى مجموعته "أوراق الغرفة 8" وهو رقم غرفته فى المعهد القومى للأورام والذى قضى فيه ما يقارب الأربع سنوات، وقد عبرت قصيدته السرير عن آخر لحظاته ومعاناته، وهناك أيضًا قصيدته "ضد من" التى تتناول هذا الجانب، والجدير بالذكر أن آخر قصيدة كتبها دنقل هى "الجنوبى". (9).

وفى 21 مايو 1983 رحل الشاعر الكبير أمل دنقل، مرتاحا من الألم الذى كان يسكن جسده ويتعبه، لكنه وبعد 34 عاما على هذا الرحيل لا يزال حيا كونه شاعر الرفض الأشهر والامتداد الأبرز لتاريخ من الشعرية العربية من وجهة نظر الكثيرين.

 

أ.د محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

..................

الهوامش:

1-أنظر دراسة بعنوان: أمل دنقل: شاعر الرفض الأول، مجلة فكر، مركز العبيكان للأبحاث والنشر، 2021، ص 128.

2-المرجع نفسه، ص 129.

3- حلمي سالم : قوس قزح : جماهيرية أمل دنقل، أدب ونقد، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، العدد 213، 2003، ص 112.

4- نسيم مجلي : امل دنقل : امير شعراء الرفض،، أدب ونقد، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، المجلد 5، العدد 41،1988، ص 131.

5- أحمد إبراهيم الشريف: سلام على أمل دنقل.. اليوم السابع.. السبت، 21 مايو 2016 11:00 م.

6- حسن الغرفي ـ أمل دنقل: عن التجربة والموقف ـ مطابع إفريقيا الشرق، الدار البيضاء 1985، ص155.

7- نسيم مجلي – أمل دنقل أمير شعراء الرفض، كتاب المواهب القاهرة 1986، 155.

8- عبلة الرويني ـ الجنوبي: أمل دنقل ـ مكتبة مدبولي ـ القاهرة 1985، ص11.

8- محمد عبد الرحمن : أمل دنقل.. 38 عاما على رحيل شاعر الرفض والثورة.. الجمعة، 21 مايو 2021 03:00 ص

 

 

في المثقف اليوم