شهادات ومذكرات

عبد الجبار العبيدي: بغداد.. التاريخ

عبد الجبار العبيديبغداد ام الدنيا وسيدة البلاد- سماها المؤرحون القدماء، أصل كلمة بغداد اعجمية، والعرب تختلف في لفظها، اذ لم يكن اصلها من كلامهم.  ولا اشتقاقها من لغاتهم، فهي تعني بستان بالفارسية.  وجاءت التسمية من باغ اسم البستان وداد اسم صاحب البستان. ولها اسماء كثيرة حسب لهجات العرب مثل بغداد وبغذان وغيرها كثير.

بنيت في عهد الخليفة المنصور العباسي سنة (145 هجرية)، وسماها المنصور مدينة السلام، أما الزوراء فهي مدينة المنصور الخاصة داخل مدينة بغداد المدورة.  وعندما سئل الخليفة المنصور عن سبب تسميتها بهذا الاسم، قال:لان الله هو السلام والمدن كلها له. وهي مدينة مدورة جميلة فيها اسواق عامرة يقصدها القاصي والداني، شمسها ساطعة وهوائها عليل، ظلت عاصمة العباسيين لمائة عام تقريبا.  مدينة محصنة يحيط بها نهر دجلة ومجموعة الجداول التي حفرت حولها تأتيهاالميرة من كل جهة، من الشام والجزيرة والهند والصين عن طريق ثغرها الباسم البصرة الفيحاء

وصل اليها العرب على عهد الخليفة عمر بن الخطاب(رض). فتحها القائد العربي المثنى بن حارثة الشيباني سنة 13 للهجرة. وكان اول من مصرها هو الخليفة العباسي المنصور، وجعلها مصرا عربيا، حين بدأ ببنائها سنة 145 وأكمل بنائها سنة 149للهجرة، وأنفق في بنائها عشرون مليون دينار ذهبي. وبنى قصره فيها وفي وسطها بنيت القبة الخضراء تعلو قصرها ولها اربعة ابواب هي:

باب خراسان من الشرق مخصصة لمن يدخلها من جهة خراسان.  باب البصرة مخصصة لمن يدخلها من الجنوب الغربي.

باب الكوفة لمن يدخلها من الجنوب الشرقي من منطقتي الاحواز والبحرين.

باب المغرب مخصصة لمن يدخلها من الشام والجزيرة.

بقيت المدينة عامرة وقبتها الخضراء شامخة حتى سقطت سنة 329 للهجرة على ايدي البويهيين الفرس، ثم انتقلت الى ايدي السلاجقة الاتراك سنة 434 للهجرة لكنها ظلت لخلافة العباسيين حتى السقوط الاخير عام656 للهجرة على ايد المغول حين قتل الخليفة العباسي المستعصم فيها وبنهايته انتهت خلافة العباسيين. وقيل في توصيفها انه لايموت فيها خليفة حتف انفه ابدا، حتى قيل فيها شعراجميلا نقتطف منه ما يلي :

بغداد تطول بها الاعمار، ان غذاءها مريءُ  وبعض الارض أمرأ من بعضِ

قضى ربها ان لايموت خليفة     بها أن شاء في خلقه يقضي

ومن العجيب ان كل خلفاء بني العباس ماتوا بعيدين عنها، فالمنصور مات في الحجاز، والمهدي بماسبذان، والهادي بعيسباد، والرشيد بطوس، والامين في شرقها، والمأمون في بالمصيصة احدى نواحي الشام، والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر بسامراء وغيرهم كثير خارجها.

تغنى بها الشعراء، فهي جنة الارض ومدينة السلام، ومجمع الرافدين، وغرة البلاد، وعبن العراق ودار الخلافة، ومجمع المحاسن والطيبات، ومعدن الظرائف واللطائف، وفيها ارباب الغايات من كل فن، قال فيها الشعراء شعرا كثيرا:

بغداد يا دار الملوك ويا مجتنى الغنى  صنوف المنى يا مستقر المنابر

ويا جنة الدنيا ويا مجتنى الغنى   ومنبسط الامال عند المتاجر

سلام على بغداد من كل منزل   وحق لها مني السلام المضاعف

والله ما فارقتها رغبة مني لها   وأني بشطي جانبيها لعارف

ولكنها ضاقت علي برحبها      ولم تكن الارزاق فيها تساعف

ان اول مرة ذكرت فيها مدينة السلام على الدينار العباسي كانت في خلافة المأمون العباسي سنة 198 للهجرة. واستمر النقد يعمل فيها حتى سقوطها على يد المغول سنة (656 ه-1258م).

بنى فيها المنصور ثلاثة جسور هي جسر بغداد الذي يحاذي سوق الثلاثاء، وجسر باب الطاق وجسر دار العزية.  ازدهرت فيها مهنة الطب، ومن اشهر اطبائها بختشيوع اليوناني، بجانب مهنة الطب العربي المعروف انذاك. ثم ظهرت مهنة الصيدلة في عهد المامون بعد انشاء دار الترجمة المسمى بدار الحكمة وهو المنجز الحضاري الذي خلد اسم الخليفة المأمون تاريخيا ساد فيها الامن وحفظت من الاعتداءات والسرقات وقد شيدت فيها المحاكم القانونية لمحاكمة المخالفين.

وبسقوطها على يد المغول تحول تاريخها اليهم، الذي لم يدم طويلا حتى تنازعتها الاطماع والصراعات الفارسية العثمانية التي انتهت بدحر الفرس عنها ومجيء العثمانيين اليها واستقرارهم فيها، حين اصبحت جزء من الدولة العثمانية حتى سقطت على ايدي البريطانيين سنة 1918 وبقوا فيها حتى تحررت منهم عام 1921

وفي العهد العثماني تدهورت الحالة الاجتماعية والاقتصادية فيها، لكنها انتعشت لفترة قصيرة على عهد الوالي العثماني مدحت باشا فبنيت فيها بعض المدارس، كمدرسة الصنائع ومدرسة الاعداد العسكري والمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية وظلت تدرس اللغة العربية بجانب اللغة العثمانية فيها. والملاحظ ان منذ ذلك الوقت كا ن التدريس فيها مختلطا للبنين والبنات معا ولم تعرف الطائفية والعنصرية ابدا. وكان البغداديون متحابون متجانسون ومتصاهرون ولم يعرفوا فرقة اجتماعيةأو طائفية اوعنصرية أو مذهبية فيها الا في عصرها الحديث، عصر حكم الاغراب الحاقدين عليها وعلى أهلها الشرفاء الذين ما أنفكوا يدافعون عنها وسيبقون حتى ينتزعونها منهم، فهي مدينة ما أستهانت لغير أهلها، ولا مدت يدا لحاكم غاصب ابداً، انها مدينة الحرية والكرامة وقيم العروبة الاصيلة.

وبحلول عصر الاستقلال الوطني عام 1925 تغيرت الاحوال وعاد الانتعاش الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي اليها مرة اخرى، وخاصة بعد ان تم تتويج جلالة الملك المعظم فيصل الاول رحمه الله ملكا عليها، فساد الامان والاطمئنان والكفاية والعدل، واخذت الحياة تتصاعد في مدارج الرقي والتقدم فيها. وهي عاصمة العراق الابدية، فيها مجلسان هما، مجلس النواب المنتخب مباشرة من الشعب ومجلس الاعيان المعين من ذوي الخبرة والكفاءة والقيم المجتمعية الاصيلة، وعاش فيها العرب والاكراد والتركمان وكل الاقليات الاخرى دون تميز.

أستمرت الملكية فيها من عام 1921 حتى عام 1958 بأنقلاب عسكري قادته حركة الضبابط العراقيين بقيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم علم 1958 "ويالها ما فعلت"ثم ما لبثت الحركة الانقلابية ان تنازعتها الاهواء بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف حتى جاء انقلاب حزب البعث عام، 1963، بعدها جرت محاولة اخرى لحزب البعث عام 1968 ونجحت واستمر الحزب في سلطة الدولة حتى سقوطه عامهذا2003

هذا التغيير الذي حولها الى عزبة للمغييرين.. حين استقرت قياداتهم في المنطقة الخضراء واحاطة نفسها بسياج لا يعرف عنها الشعب ال السمعة الرديئة واستغلال السلطة الأنفرادية، تحكم بالمحاصصة السياسية الكريهة التي اخرجتها عن سمعتها وحقوق الناس فيها ومهما قيل فيه من سلبيات قانونية بعد التغيير الاخير، الا اني اشعر ان العراق قد يتغير نحو الاحسن على المدى البعيد بعد ان يتخلص من حكم جائر ما كان له ان يتقدم بظله ابدا. نحن بحاجة ماسة الان الى التكاتف والتعاضد والاعتماد على النفس العراقية دون تمييز، وانهاء المحاصصة وسيادة القانون.. فالثبات على الموقف الوطني والايمان بالمبادىء والحق ضرورة ماسة اليوم، لابد وستنتصر في النهاية رغم جسامة التضحيات.. وستبقى بغداد عصية على الغرباء.. قوية صامدة في عيون العراقيين ونفوسهم ابداً.

 

د. عبد الجبار العبيدي

 

في المثقف اليوم