شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: جلال الدين الرومي.. فيلسوف الحب وامبراطور العشاق في زمن العولمة (1)

محمود محمد عليإني أتساءل من بين آلاف الأنا .. أي واحد منهم أنا .. إنك تبحث في العالم عن الكنز لكن الكنز الحقيقي هو أنت ..إن أغواك الخبز فلن تجد إلا الخبز.. إن كنت عاشقا، نرقد من حولك ومصعوقين كأننا الموتى"... هذه الكلمات الساحرة وأكثر جميها خرجت من صاحب دراستنا اليوم " جلال الدين الرومي" (604 هـ - 672 هـ - 1207 - 1273 م) المعروف بمولانا أو سيد العاشقين، دعي في حياته إلى الحب، والتسامح الروحاني، وحسن الأخلاق، والتطهير النفس من كل ما يعلق بها من شوائب الحياة الدنيا حتى انعكس ذلك على أشعاره ليسمعه العالم أجمع، ولهذا قال عنه أحد الباحثين بأنه:"ممن اعتصروا المعارف الإنسانية إلى كشف المجهول، هذا لأن النص القرآني هو محور حياته أفعالا وأقوالا وسبلا، فمن القرآن الكريم استمد الشاعر والفقيه والفيلسوف والصوفي طرائقه الفكرية وتوجهاته الإنسانية ومبتغاياته الروحية" (1).

جلال الدين الرومي: شاعر صوفي انتزع بحُسن ديباجته الشعرية مقاليد الاعتراف من المستشرقين الذين أقروا بأنه الشاعر الصوفي الأعظم في كل الأزمان؛ ولا عجب في ذلك فهو أعظم شعراء الحب الإلهي. وهو المُنَظِّر القانوني، والفقيه الديني الذي لُقب "بخداوند كار" التي تعني (شيخنا)، والأديب الماهر الذكي الذي ستظل عبقريته حديث الإبداع في كل الأزمان، وشخصيته من الشخصيات القليلة عبر التاريخ التي تمكنت من اجتياز حواجز اللغة والدين والثقافة، حتى غدت أعماله متداولة ومنتشرة على مستوى العالم أجمع. ويبقى أساس هذا الانتشار والتجاوز كامناً في عمق فلسفته وحكمته، التي امتلكت القدرة على اجتذاب المريدين من مختلف الانتماءات والمشارب.

وجلال الدين الرومي ليس هذا اسمه الحقيقي فهو  محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي (بالفارسي: جلال الدين محمد بلخي) عرف أيضا باسم مولانا جَلال الدِّين الرُّومي.. شاعرٌ، اختار حياة التصوّف سبيلاً للوصول إلى الله، والاتّحاد معه. فكان تصوّفه مزيجاً من الحِكمة والروحانيَّة، والغوص في أعماق الإنسان. وبشعره الذي فاض حُبّاً وحِكمة، بلغ أسمى درجات العبقريَّة الشعريَّة.. هرب بالإنسان إلى أقاصي الروح، وحلّق به إلى أعالي القمم، وجعل منه غباراً أمام الطبيعة، التي لا تغنّي إلاّ لله. فغنّى معها، ورحل في رحلة عشق لخالق الكون. وهذا العشق ليس هو إلاّ علاقة الإنسان بربّه. وهو يعني المحبّة الخالصة والعرفان الكامل والوجد الصوفيّ. إنّ العشق الإلهيّ هو أساس التصوّف، وبه يبلغ المتصوّف إلى درجات الكمال (2).

قال عنه المفكر الكبير "عباس العقاد": "يتنافس علي نسبة جلال الدين أربعة أوطان.. بلاد الأفغان وبلاد فارس، وبلاد العرب، وبلاد الترك التي اشتهرت ببلاد الروم، ونظم أشعاره بالفارسية والتركية والعربية، فلا جرم أن تنفتح الأبواب للتنافس عليه.. كل منافس يحرص علي هذه الدرة النفيسة وإنها للحق ذخيرة للحضارة الإسلامية وللإنسانية.. يأخذ منها من يشاء بنصيب موفور" (3).

ولد محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي عام ١٢٠٧م في منطقة بلخ بخراسان (أفغانستان حاليًّا) في فترة كانت تموج بالعديد من الصراعات بين رجال الدين والإمبراطورية، والصراعات بين الشرق والغرب، والصراع الذي يبدو أزليًّا بين إيران وطوران، وقد تلقى الشاعر تعليمه الديني على يدي والده الذي كان أستاذًا صوفيًّا، وعالمًا دينيًّا، وواعظًا بليغًا، التف حوله العديد من المريدين ولقبوه بسلطان العارفين، كما تتلمذ على يد الشيخ «برهان الدين محقق» ونهل من بحر علمه الصوفي والديني الزاخر. وقد لقب بالرومي لأنه قضى جُلَّ حياته في حضرة سلاجقة الروم في تركيا الحالية، (4).

وقد هاجرت عائلته هربًا إلى نيسابور؛ فكانت هذه الهجرة بداية السبيل إلى مَلْقَى الروحانية؛ فقد أتاحت له هذه الهجرة لقاء الشاعر الصوفي "فريد الدين العطار" الذي أهداه ديوانه الشهير "أسرار نامه" مما أعطى الشاب دفعة قوية للغوص في أعماق الشعر والروحانيات الصوفية، وحينما وصل إلى مدينة "قونية" حالفته أيادي التوفيق؛ حيث التقى بالشاعر "شمس الدين التبريزي" الذي وجد فيه ضالته المنشودة. وقد آمن جلال الدين الرومي بأهمية الترقي الروحي الذي تحدثه الموسيقى في نفس الصوفي؛ وذلك باعتبارها رحلة روحية تأخذ النفس في رحلة تصاعدية سعيًا للوصول إلى الكمال (5).

وجاءت نقطة التحول الأبرز في حياة جلال الدين الرومي عندما التقى بشمس الدين التبريزي، أحد أشهر أعلام الصوفية في ذلك العصر، فلزمه وأخذ ينهل من حكمته ومعارفه. وعندما اختفى شمس الدين التبريزي من قونيا، انطلق في رحلة بحث عنه، وانتهت رحلة البحث بكتابة كتابه الأشهر "المثنوي" والذي وضع فيه خلاصة ما انتهى إليه من حكمة في أكثر من 25 ألف بيت شعر.

ولذلك ركزت فلسفة جلال الدين الرومي على تهذيب النفس وتجاوز العالم المادي والارتقاء عن الشهوات، وكان يقول: "لست حزيناً ولا مسروراً، إنني مع الله"، ويعني الوصول إلى حال "المعيّة" فمع الله عنده: التخلص من الحقد والكراهية والغضب والحسد. وقد بثّ فلسفته عبر الآلاف من أبيات الشعر.

وقد اتسم شعر "جلال الدين الرومي" بالنزعة الصوفية الخالصة؛ فقد كان شعره أدبًا صوفيًّا كاملا، له كل المقومات الأدبية، وليس مجرد تدفق شعوري قوي، أو فوران عاطفي جياش يعبر به عن نفسه في بضعة أبيات كغيره من الشعراء، وإنما كان شعره يتميز بتنوع الأخيلة وأصالتها، ويتجلى فيه عمق الشعور ورصانة الأفكار، مع سعة العلم وجلال التصوير وروعة البيان (6).

ولهذا يُعد " جلال الدين الرومي " شاعرًا من الطبقة الأولى؛ فهو قوي البيان، فياض الخيال، بارع التصوير، يوضح المعنى الواحد في صور مختلفة، له قدرة على توليد المعاني واسترسال الأفكار، ويتسم بالبراعة في انتقاء الألفاظ واختيار بحور الشعر، وتسخير اللغة والتحكم في الألفاظ.

وتصل قمة الشاعرية عند "جلال الدين الرومي" في رائعته الخالدة "المثنوي"، وقد نظمها لتكون بيانًا وشرحًا لمعاني القرآن الكريم، ومقاصد الشريعة المطهرة؛ ليكون ذلك هدفًا إلى تربية الشخصية الإسلامية وبنائها، وزادًا له في صراعه مع قوى الشر والجبروت، وعونًا له على مقاومة شهوات النفس والتحكم في أهوائها، وتكشف "المثنوي" عن ثقافة "جلال الدين الرومي" الواسعة، والتعبير عن أفكاره بروح إنسانية سامية، تتضاءل إلى جوارها بعض الأعمال التي توصف بأنها من روائع الأعمال الأدبية. (7).

وقد استخدم " جلال الدين الرومي " في "المثنوي" فن الحكاية بإتقان بارع، وهي في حركتها وتطورها وحوارات أشخاصها لا تقل روعة عن بعض القصص المعاصر، وتتميز الشخوص بأنها ثرية متنوعة في تساميها وعجزها ونفاقها وريائها، وحيرتها بين الأرض وما يربطها بها، وبين السماء وما يشدها إليها، كل ذلك في تدفق وانسياب غامر، وعرض شائق، وأسلوب جذاب أخَّاذ ولغة متميزة (8).

ولهذا أثرى جلال الدين الرومي المكتبة الإنسانية بالعديد من المؤلفات الشعرية ومنها: ديوان شمس الدين التبريزي، ومثنوية المعاني، والرباعيات. ولم يحرم النثر من بديع بيانه القلمي؛ فقد قدَّم لفن النثر العديد من المؤلفات منها: "الرسائل"، و"المجالس السبعة". وقد أعلنت شمس الروحانية الصوفية مغيبها عن الأفق عندما انتقل إلى الرفيق الأعلى عام ١٢٧٣م.. وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.......................

الهوامش

1- ابراهيم مناد: جلال الدين الرومي وتجربته الصوفية، مجلة الفكر المتوسطي العدد 325 عدد خاص العدد 7 سبتمبر 2014، ص 325.

2- الأب جوزيف شابو: المتصوف جلال الدين الروميّ ونتاجه الفكري، نشر الخميس، ١٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٣.

3- عبير فؤاد: "جلال الرومي".. فيلسوف الحب، الأهرام، السبت 13 من صفر 1441 هــ 12 أكتوبر 2019 السنة 144 العدد 48522

4- إيڤا دي ڤيتراي ميروڤيتش، جلال الدين الرومي والتصوف، بترجمة عيسى علي العاكوب، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران، 2000؛ 232 صفحة من القطع المتوسط.

5-المرجع نفسه.

6- سمير حلبي:جلال الدين الرومي.. بين الشعر والتصوف. إسلام أون لاين.. الثلاثاء ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧

7- المرجع نفسه.

8- المرجع نفسه.

 

في المثقف اليوم