شهادات ومذكرات

عبد الرضا عليّ: شهادتي عن الكـوَّاز صاحبِ اللغة المشفَّرة طارق ياسين الذي صاغ (لا خبر..)

عبد الرضا عليكان أوّل لقاءٍ جمعنا سنة 1963م، وتحديداً في نهاية الشهر التاسع (أيلول) حينما جلسنا على باب معهد إعداد المعلمين بالأعظميّة ننتظرُ دورنا في أداءِ امتحانِ المقابلة، وحينها أخبرني مبتسماً أنه كتب في حقلِ الهوايات التي يجيدُها (كوّاز...أصنعُ فخّاريات الماء المختلفة.)

وبعد أن انتهينا من إجراء المقابلة أخبرني بفرحٍ غامر أنَّ أمر قبولهِ قد تمَّ، فقد سأله مدير المعهد: هل تستطيعُ تشغيل فرن للفخّاريات إذا كان معطلاً؟؟؟... فأجبتُه: نعم أستاذ أستطيع، فأنا كوّاز، وسبق لي أن قمتُ بذلك حين كان يتعطلّ فرن والدي، فعقّب المدير: عندنا فرن للفخاريّات معطّل منذُ زمن ستتولّى أنتَ تشغيله إن شاء الله....

وحين انتهى من سردِهِ لحوارهِ الجميل مع لجنة المقابلة، والمدير أخبرته: أعتقدُ أنني مقبول أيضاً، لكوني أعلمتهم أنّني كاتب تمثيليّات إذاعيّة عديدة قدَّمتْها فرقةُ الفنون الشعبيّة التي يرأسها المخرج مهنَّد الأنصاري (1939-2000م)، وقد ناقشني في ذلك مدرّس مادة التمثيل الأستاذ وجيه عبد الغني، والسيّد معاون المدير، وتسلّما منّي النسخ الثواني من تلك التمثيليّات المكتوبة على ورق الكربون.

وبعد أيّام انتظمنا معاً في القسمين الدراسي والداخلي، وكان معنا: يعقوب الخميسي، وموسى فنجان الساعدي، وعبد المنعم رياح الناصري، [أطال الله في أعمارهم]، والراحلون: سامي محمّد (1941-2000م)، و محسن أطيمش (1945-1994)، وفتاح عبد اللطيف العاني، وحربي عزيز الخزرجي، وغيرهم.

***

وحين أسّسَ الفنان وجيه عبد الغني (1933-1998م) فرقة التمثيل الخاصّة بالمعهد، انضمَّ طارق إليها معنا، مع أنَّه كان قد تسلّمَ مسؤوليّة غرفة الموسيقى التي كان يشرف على نشاطها مدرّس الموسيقى والأناشيد المشهور (آنذاك) الراحل المرحوم أكرم رؤوف (1908-1971م) الذي علّمه العزفَ على آلة الكمان، فأتقن العزف عليها، بينما أخفقنا أنا، وسامي محمّد في تعلّم العزف على أيةِ آلة موسيقيّة، لكنَّ زميلنا يعقوب الخميسي تعلّم العزف على أكثر من آلة، لاسيّما الطبلة، والـ (ادرامز)، وهي مجموعة الطبول، وآلة الصنج، وما يتبعها من الدوّاستين.

وقد قدّمتْ هذه الفرقة الموسيقيّة العديد من الأناشيد الوطنيّة التي لحّنها أكرم رؤوف، والأغاني الرومانسيّة التي أدَّاها بعض هواة الغناء من الطلاب الذين يمتلكون أصواتاً جميلة كـ عبد الحسين حبيب الذي اشتهر بأغنية (أيُّها الليلُ لمن أشكو همومي؟).

3387 طارق ياسين

كان طارق ياسين شاعراً شعبيّاً موهوباً، وقد أرسلَ بعض قصائده إلى برنامج (من الشعر الشعبي) الذي كان يعدُّه، ويقدمه الشاعر (أبو ضاري) من دار الإذاعة العراقيّة أُسبوعيّاً، فكان هذا البرنامج حافزاً لنا لتذوّقِ الشعر الشعبي، وقرزمته، وكثيراً ما اشتركتُ مع طارق في كتابة بعض القصائد (الحلَمنتيشيّة) الهزليّة التي تنتقد بعضَ الظواهر التي شاعتْ آنذاك، كالعدميّة، والسأميّة، وادِّعاءِ الوجوديّة.

وكثيراً ما كنتُ أُرافقهُ في الذهاب إلى مقهىً شعبيٍّ يقع على مقربةٍ من صالة سينما الخيّام في الباب الشرقي، فتعرَّفتُ من خلاله على بعضِ الشعراءِ الشعبيين الكبار (آنذاك) كـ: جودة التميمي، وشوكت الربيعي، وحامد العبيدي الذي أوغلَ في كتابةِ قصائد (السأم) وبالغ في إيراد مفردة (العدم) في أكثر من قصيدة، فتشاركنا معاً (طارق وأنا) بكتابةِ قصيدة (حلمنتيشيّة) تسخر من تلك الظاهرة دون أن نُشير إلى العبيدي أو إلى من سواه من الشعراء، لا تصريحاً، ولا تلميحا، متَّخذينَ من الهزلِ أُسلوباً لاستهجان تلك الظاهرة، وإن ادَّعى بعضُ شعرائها أنهم يصدرون عن تأثُّرٍ بفلسفة (جان بول سارتر) الوجوديَّة.

وممَّا بقي في الذاكرة منها الأبيات الآتية:

واثنعشْ گونيَّه ام قـَلَمْ

كُلها ألـمْ

راحتْ على اظهورِ الطرِشْ

تاكُل عَلَفْ من چبـديْ

وگمل الهوى ياكل بآخر جلديْ*

أوصار العِشِگ ما يعديْ

أو كلّه ألـمْ

واشجاب روحي اعله السأمْ؟

والأسپرين احسنْ دوه

لهلِ الـعَـدَمْ

ليش الهجر يمجدِّي؟

**

غِرگتْ سفينتنه ابَّحرْ أفكاركْ

مشحون بالقوَّةْ عبالك سيرف**

تلهبْ نارَكْ

يا زين خل يفشخني دوم احجاركْ

***

ومع أنّه كان يهتم بدراسةِ الألحان، ويقوم بكتابةِ رموزها الموسيقيّة (الصولفج) فإنه كان أيضاً يُعنى بتعلُّمِ الخطوط العربية، وكان يستهويه منها: خط الرقعة، وكثيراً ما خطَّ (قراءات) الصف الأوّل لبعضِ زملائه من طلبة المعهد الذين يقدمونها بدائل مقترحة عن (الخلدونيّة) لمدرّس مادة القراءة محمّد مصطفى (رحمه الله)، وكنتُ واحداً منهم.

***

حين اكتملتْ لدى طارق مجموعة شعريّة سنة 1964م، أراني إياها، وطلب منّي أن أُرافقه في اليوم التالي لزيارة الباحث الموسوعي عليّ الخاقاني (1910-1980م) صاحب مكتبة (البيان) التي كانت تقع أول شارع المتنبّي من جهة شارع الرشيد، وأنْ أتولّى نيابةً عنه التعريف به، وتقديمَ مخطوطة مجموعته الشعريّة إليه، ومناشدته في طبعها، وتوزيعها. فهيّأتُ نفسي لذلك اللقاء.

وحين زرناه في ضحى اليوم التالي، وعرضتُ عليه المخطوطة، وحدثته عن شاعرها، وناشدتُه طبعها، طلب الرجل إمهاله ثلاثة أيّام، بعد أن رحّبَ بنا خير ترحيب، فودَّعناه وخرجنا من مكتبتِه آملين أنه سيرضى عنها، لكونها تستحقُّ ذلك.

وبعد انقضاء الأيّام الثلاثة زرناه ثانيةً، فرحّبَ بنا، وأثنى على توجه طارق ياسين الحداثي، لكنه اعتذر عن طبعها قائلاً: هذا شعرٌ شعبيّ للمثقَّفين الذين انتهجوا طريق الحداثة، واتخذوا من أُسلوبِ مظفر النواب نهجاً لهم، ومثل هذا الشعر، (وإن كان جيّداً) فإنَّ قرّاءته محصورة بفئةٍ محدودة من المثقفين ليس غير، لذلك لستُ قادراً على المجازفة، أللهُمَّ إلاّ إذا كان المؤلفُ يتحمل كلفة الطبع. فقلتُ له: لو كان صديقي يملك كلفة الطبع، لأخبرناك بذلك، وما تركنا المخطوطة عندكَ لتطّلع عليها، فأعاد لنا المخطوطة معتذراً مرّةً أخرى، وخرجنا من المكتبة ساخطين على الفاقة، شاتمينَ الحاجةَ والفّقر.

***

ومن مفارقات معهد المعلمين سنة 1964م، بعد أنْ استتبَّ الأمرُ للرئيس عبد السلام عارف (1921-1966م) في تثبيت انقلابه على البعثيين الذي سُمّي بـ ثورة الردّة أنْ تأسَّسَ ما سُميّ بـ (الاتحاد الاشتراكي في العراق) وأُنيطتْ مسؤوليّة قيادة طلبة المعهد إلى الطالب الغبيّ (علي نايف) ليكون ممثلاً عنه، وما أن رأى طارق ياسين معي حتى ناداه، فذهب طارق إليه، وبقيتُ في انتظاره، وحين عاد كان واجماً، ثمَّ قال وهو غاضبٌ: طلبَ هذا الحقير منّي أنْ أكتبَ قصيدةً تشيد بالاتحاد الاشتراكي، لأُشاركَ بها معهم في الاحتفال الذي سيقام ابتهاجاً بتسنّم فؤاد الركابي (1931-1971م) رئاسته بعد يومين.فكان هذا الطلب مدعاةً لجلبِ الأحزانِ، والانزعاج، وكيل الشتائم لزميلنا الغبيّ.

وفي صباح اليوم التالي، وفي أثناءِ تناولنا للإفطار الصباحي الجماعي في القسم الداخلي همس طارق بأذني أنه كتبَ القصيدةَ المطلوبة، وأنه سيسمعني إيّاها في الطريق ونحنُ نتوجه للقسم الدراسي سيراً، وما أنْ بدأنا أولى الخطوات إلى القسم الدراسي حتى طلبتُ منه قراءتها، فقرأ:

كاكي كاكي يا دجاجةْ كاكي كاكي

تلاثةْ مو بسْ وحدةْ عدنا

صحفْ، وانقابات حُرَّةْ

واتحادِ الآشتراكي

**

بَيضي فَدْ بيضةْ چبيره

تكفي وحَّدها عشيره

الجوع ثابرنه ثبيره

لو حِصلْ ناكلْ خراكي

فقطعتُ (للأسف) عليه استرساله، وقلتُ لهُ ضاحكاً باللهجة العاميّة: (حضَّرتْ اليطغْ مالك؟.... فقال: إي حضرته، بس محتاج حبل حتى أشد البطانيّة، فأجبته: شدها باحزامك حبيبي أبو زياد)، وعلت عندها ضحكاتنا على نحوٍ هستيريٍّ.

***

شاعريّة طارق ياسين مرهفة بالحسِّ الإنساني الرافضِ للظلمِ، والجورِ، والدكتاتوريّة، وهو حسٌّ يدعو إلى إشاعةِ الحريَّةِ في القولِ، والإبداعِ، والعمل، فضلاً عن أنه يرفضُ العاداتِ السيئة، والتقاليدَ الفجَّةَ حتى وإن كانت غسلاً للعار.

لكنه حين يعالجها شعريّاً، لا يتناولها على نحوٍ سطحيٍّ مكشوفٍ، إنَّما يقدمها من خلالِ خيالهِ الوثَّاب، وصورهِ المدهشة التي تتقبلها عاطفةُ المتلقّي، وتستسيغُ حزنَها المُمِضَّ، كما في قصيدتِه (قطار الألم) التي استخدم فيها أُسلوب السرد القصصي، وهي تحكي قصّة راعية غنم اغتصبها من وعدها بالزواج، ثمَّ هرب، فاضطرَّت (خوفاً من انكشاف فضيحتِها) أن تغادرَ مدينتها هاربةً إلى بغداد، فلم تجد لها مكاناً إلاَّ في ماخورٍ للرذيلةِ، والريبة.

تبدأ القصيدة حين تعودُ الذاكرةُ ببطلتها إلى مدينتِها البصرة، وقطارها الذي ركبته فزِعةً، وإلى أبيها، وخناجرهِ التي تتوعدها، وإلى أُمّها، وقريتها، وأصواتِ ثغاء غنمها.

وقد عمد طارق في هذه القصيدة إلى استخدام تقنية المونولوج الدرامي (المناجاة النفسيّة) وجعل تلك المناجاة تدور على لسانِ بطلتِها الحزينة، وهذه بعض أشطرها من غيرِ توالٍ:

أمس ذبني القطار الشال كل حزني

أمسْ شالن فراگينه

كحل عيني وسحر جفني

**

يبوي وماي وجهي وگع بدروبهْ

ييمَّه ذبَّل انهودي الزِّنه، والليل واذنوبهْ

ييمَّه وابغداد الشوم عالدينار مصلوبه

وعلى هذه المناجاة الحزينة الموجعة تستمرُّ القصيدة حتى تصلَ إلى تمنّي بطلتِها في أن تعودَ إلى ديرتِها، وأهلها، وناسها بالقطار نفسه الذي هربت به:

لَوَنْ يا ديرةْ ياخذني

قطار البصرةْ ويردني

لديار النخلْ، والشمس، والأحبابْ

وترد نعجتي أشرف لبن زاچي تغذيني

واخيتي اتلملم اعظامي التكتْ اجروحْ

وتشدهن وتحييني

أمّا إيقاع القصيدة، فقد أُقيمَ على وحدة الهزج (مفاعيلن)، لكنَّ الشاعر انتقل منه في نهاية القصيدة إلى استخدام وحدة الرجز عندما تغيّرت التقنية من (المناجاة) إلى تقنية (الحوار)، كما في الأمثلة التطبيقيّة الآتية:

أمس ذبني القطار الشال كل حزني

مفاعيلُنْ مفاعيلُنْ مفاعيلُنْ

أمسْ شالن فراگينه كحل عيني وسحر جفني

مفاعيلُنْ مفاعيلُنْ مفاعيلُنْ مفاعيلُنْ

أمّا انتقالته إلى وحدة الرجز (مُستَفْعِلُنْ) فقد كان في قوله:

يا بويه.. يا چاسي بدموعكْ محمَلي

مسْتَفْعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ

لاصبغلك ابعاشور بيرغ أسود يشيل العنَه

مسْتَفْعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ

واغسل اشليلي من الزنه، وابن الزنه

مسْتَفْعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ

وانخه أبو الحمله علي

مسْتَفْعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ

بلچن يردني الديرتي ديرة هَليْ

مسْتَفْعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ

وكثيراً ما كنتُ أطلب منه قراءتها، وحين يستجيبُ تبدأ مآقي العيون تنزفُّ الندى.

***

أمَّا قصيدته (لا خبر...) التي لحَّنها حسين السعدي، وغنّاها الفنّان فاضل عوّاد، فقد استخدم فيها تقنية الحوار الخارجي الذي يوجهه بطل القصيدة (المصدوم) إلى حبيبته التي اقترنت بغيره، وقد جعلها تدور على الوحدة الإيقاعيّة للرجز (مُستَفْعِلُنْ)، وإليكم بعض أبياتِها مقطَّعة للتوضيح:

لا خبر لاچِفيَّه لا حامض حلو لاشربتْ

مستفعلن مستفعلن مستفعلن مفعولن

*

كَالوا اصوانيكم شـــموع انترسـت

مســـتفعلن مســتفعلن مـفعولن

*

والتمت الحلوات من كل بيت حلوه التمّت

مسـتفعلن مسـتفعلن مسـتفعلن مفعولن

*

واترف أصابع ليلة الحنّهْ بعذابي اتحنّت

مسـتفعلن مسـتفعلن مسـتفعلن مفعولن

*

فد نوب مامـشْ طيـب لهنا وصلـت؟

مســتفعلن مســتفعلن مـفعولن

***

وبعد أنْ مضتْ سنتانِ على تخرّجنا من معهد إعداد المعلمين اتَّفقنا على أنْ نقدّم أوراقنا إلى الجامعة المستنصريّة دون إخبار أحد، وإذا ما تمَّ قبولنا، فعلينا الاحتراس من أن يصل الخبر إلى التربية، فجهَّزتُ أوراقي وقدمتها إلى قسم اللغة العربيّة، لكنَّ طارقاً رأى أنَّ قسم اللغة العربيّة لن يضيف له شيئاً، لذلك رأى أنَّ التقديم إلى قسم اللغة الإنكليزيّة أفضل، وأكثر فائدة، وهكذا كان رأي سامي محمّد، وعبد المنعم رياح الناصري فقدّما أوراقهما إلى قسم اللغة الإنكليزيّة، بينما كانت رغبة يعقوب الخميسي في قسم التربية وعلم النفس، لكنَّ رغبة صديقي محسن أطيمش طابقت رغبتي، وهكذا كان.

رحمَ الله صديقي الراحل طارق ياسين (1938-1975م)، وأسكنه الفردوس الأعلى، فقد كان واحداً من المناضلين النابهين القلّةِ الذين أدركتهم حرفة الأدب، فجعلوها في خدمة المجتمع، وحريَّةِ الإنسان.

 

ا. د. عبد الرضا عليّ

......................

إحـــــالات:

* گمل = قُمَّل.

** سيرف = صابون لغسل الملابس.

 

في المثقف اليوم