شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: علي الكيلاني.. شاعر الأوطان والثورة

محمود محمد عليهناك شعراء ليبيين وهبهم الله قدرة علي نحت الكلمات التي تقرع أجراسها الآذان، والعواطف، وتهز إبرتها المشاعر، وهذه الكلمات قد تنزف حزنا، وتفيض غضبا، حينما تتحول إلى صورة تعرض لك المأساة العربية بكل تفاصيلها وتعنت المجرمين في إذلال وإهانة الأمة والوطن العربي، وهي تطعن بكل قوتها شرفه وأشرافه وتستعرض عضلاتها في عاصمة الخلافة وسيدة الدنيا دار السلام.

وحين تجتمع الكلمة والصورة والموسيقى في ذهن الشاعر تندلع معركة الأحاسيس والمشاعر، تنتفض البراكين النائمة منذ آلاف السنين، يتوافذ الشهداء والضحايا وترتفع سحب الغبار والأدخنة من الأنقاض والبنايات المهدمة، تجتمع أشلاء الضحايا من أطفال ونساء وتخرج إلى السطح مغبرة مرمدة وممزقة وطرية بالدم، الحصار، القصف على غزة، سقوط بغداد، وختامها قذفة الغضب، حذاء الزيدي الذي انتقم وصفع وجه بوش.

قصدت أن أكتب هذه المقدمة لأتحدث هنا في هذا المقال عن الشاعر والملحن والمؤلف الليبي الدكتور " علي محمد الكيلاني القذافي، والذي يعد قامة شعرية، وهامة فكرية، وعلامة عربية في توظيف الكلمات، وتركيب المعاني بجزالة الألفاظ وسهولة الأسلوب، وهذا ما يميّزه في إبداعه الذي لا زال يسكن في نفوس الناس حتي اليوم، فهو أحد أهم الشعراء الليبيين المعاصرين الذين أثروا ساحة  الشعر المعاصر؛ فهو من الشعراء الذين شكلوا ظاهرة فكرية على الصعيد الثقافي، كما عُرف كمؤسس لشعر الثورة الليبية والمقاومة الفلسطينية، حيث يمثل أحد رموز هذا الشعر لدى الجماهير التي حفظت شعره وتغنت به، كما مارس المقاومة قولا وعملا، حيث كان من نشطاء ثورة الفاتح، ومن ناشطي الحركة القومية  في الداخل  الليبي، وهو ابن عم الزعيم الليبي معمر القذافي، ومادحه باستمرار، كتب قصائد تمس وجدان الشعوب العربية، ومن أوائل تلك القصائد، قصيدته التي امتدح نفسه فيها فقال : :إلا وجعتني وإلا حرقتني هو أن معمر يهودي مش قذافي... عربي وماني افغاني .. ولد نجع مانيش مولا.. ومسلم وماني اخواني .. لا طايفي ولا الشله .. ليبي بزبوني ومكاني ...جنوب سرت وسطي المحله.. قذيف يسكنوا في المثاني .. ملوا تلال تله بتله.. عموري مجبر حصاني ... موش نازلين بمضله.. بيت المجدوب ضناني .. حامدي وقحفي انقله.. واسمي علي الكيلاني .. خويطات عيت جار الله .. شعري مناسب ألحاني.. نجع ورفاقه وخله.. الخ.

بيد أن أشهر قصائد الدكتور علي الكيلاني كانت قصيدة وين الملايين  حيث كلماته الصارخة وهو يخاطب الوجدان العربي فيقول: "ويـــن الملاييــــن؟ الشعب العربي ويـــــن؟...الغضب العربي ويــــن؟ الدم العربي ويـــن؟...الشرف العربي ويــــن؟ ويـن الملاييــــن؟...اللـه معنا أقــوى وأكبـر مــن بـني صهيـون... يشنــق، يقــتــل، يدفــن، يقـبــر أرضي ما بتهــون...الـدم الأحـر راوي الأخـضـر فيه طعــم اللـيمـون...نار الثورة تــقوى تسعر نحـن المنتصـريــن".. الخ؛ وهذا النشيد الحماسي قد واكب الانتفاضة الأولى 1987م حيث أُطلق بصوت ثلاث مطربات اللبنانية جوليا بطرس والسورية أمل عرفة والتونسية سوسن حمامي، واستعيد مراراً خلال مآس فلسطينية مثل مجزرة الحرم الإبراهيمي 1994، وهبة النفق أيلول 1996، وأحداث مايو 1998 في ذكرى النكبة، وهبة الأسرى أبريل 2000، وانتفاضة الأقصى أيلول 2000.

ومن الملاحظ أن الشعر هنا بحسب وجهة نظر علي الكيلاني يمثل أحد الروافد التعبيرية، لاهتماماته الفنية، فهو يعطينا صورة حية، مرئية تعتمد التشبيه الذي يحمل قرائن خفية تعمق المعني، وتعمق أبعاد الصورة أيضاً، جاعلاً من الرمز عنصراً أساسياً في ذلك التعمق، إضافة إلي ما يحدثه من هزة نفسية وروحية، فالشعر هو في ما يخلق من صور، والشاعر من يكون له قراره الخاص في خلق الصور، فما يهمه من أهمية تأكيده علي الصورة في الشعر أن تكون مجسدة، و" دينامية تظل حية في خيال القارئ وتظل متحركة في نفسة" كل ذلك يجعله يقف سلبياً تجاه كل شعر يجد فيه ضعفاً في خيال الشاعر.

والدكتور علي الكيلاني،  كما تعرفه الويكيبيديا بأنه "شاعر ثورة الفاتح" أو "شاعر الثورة الليبية" نظرا لأسلوب شعره الثوري، لقد استطاع بكلماته البسيطة وموسيقاه العذبة أن يدق على الوريد العربي، فجعله يفور دما وغضبا، وينزف حقدا وكراهية للأعداء ولمن يداهنونهم ويجارونهم ويحنون لهم الرؤوس ويتبادلون معهم رنات الكؤوس خوفا منهم وخوفا على ما اكتسبوه وجمعوه.

ومن الملاحظ أن الدكتور "علي الكيلاني" من مواليد مدينة سرت الليبية عام 1955، وقد بدأ عمله في الإذاعة المرئية والمسموعة الليبية وترأسها لعدة سنوات، كما حصل على عدد من الجوائز بينها الجائزة الأولى في مهرجان القاهرة للإذاعة والتليفزيون؛ إضافة إلى ذلك فهو مالك دار أجاويد للإنتاج الفني والثقافي.

له العديد من القصائد والتي هي أشهر من نار على علم والتي ربما تفوق في شهرتها اسمه فقصائده المغناة عن فلسطين لا زالت الأجيال ترددها مثل أغنية " وين الملايين " بصوت الفنانة جوليا بطرس وأغنية " فلسطين عربية " بصوت الفنانة أصالة.

وإلى جانب ذلك له كلمات مغناة في التراث والحب، وأشهر من تعاون معهم،هي المطربة التونسية "ذكرى محمد" في أكثر من سبعين عملا ما بين كلمات وتلحين وتربطه بها علاقات متينة منذ عام 1992،حينما غنت له كلمات " من يجرا يقول " حيث أنه في ذلك الوقت منعت السعودية نتيجة الحظر المفروض على ليبيا بعد حادثة لوكيربي طائرتين ليبيتين تقل حجاجا من الهبوط ليكتب هذه القصيدة والتي يقول فيها من يجرا يقول إخوتنا عن حج البيت منعتنا والتي سرت إشاعات بعد وفاة ذكرى أنها سببا في قتلها ونفى ذلك الشاعر الليبي .

كما غنى من كلماته وألحانه عدد من المطربات والمطربين الليبيين والعرب منهم نوال غشام أنغام ولطيفة العرفاوي. نبيهة كراولي ولطيفة رأفت وأسماء لمنور وعمر عبداللات وسعدون جابر وعبدالله الرويشد وسميرة سعيد وأصالة وشيرين وجدي وأحلام وأمل عرفة وسوسن الحمامي وباسكال مشعلاني وراغب علامة وحسين الجسمي ورويدا عطية وآمال ماهر ولطفي بوشناق وسماح البرهومي والعديد من المطربين العرب، أما الليبيين تغنى من كلماته : أيمن الأعتر - إبراهيم عبدالعظيم - سيف النصر - الراحل أشرف محفوظ وحسن مناع ومريم السعفي وغيرهم وتناولت أغانيه التراثية الحياة البدوية الليبية فيما اشتملت أغنياته الوطنية مواضيع حول فلسطين والعراق.

والدكتور علي الكيلاني في قصائده تمثل كلماته الوريد الذي قطعته الخناجر ومزقته الحراب فانفجر دما عربيا يقلق الصمت ويفضح كل الوجوه التي فقدت ملامحها العربية ''وين الملايين.. وين العرب وين''، كانت الكلمات مقاومة بحق، بل فتحت مركزا لتجنيد الأحاسيس والمشاعر لضرب بعنف ذلك الصمت المغلق، بل ذلك الخضوع التي يتم تلوينه وتنميقه بالكبرياء الزائفة وبالوطنية التي لم تعد سوى جملة تحمل اسم وطن وشارة صفراء ليس لها أي رنين أو وقع بين الناس.

وقد حمل الدكتور علي الكيلاني الأوطان والثورة في محبرته وسار يبحث عن قصيدة، يبحث عن كلمة في حجم المأساة وفي قامة الشهداء، شاعر جاء لعكاظية الشعر العربي بالجزائر ليستعرض المأساة، لكن المأساة حجبته وغيمتها كانت أكبر من سحابة بركان إسلندا الرمادية التي شلت شرايين السماء وأوقفت طيور الفلاذ عن التحليق.

ولهذا  تميّز علي الكيلاني بأشعاره القوية التي تلاقي رواجاً بين الجمهور الليبي والعربي، حيث أن الجمهور ينتظر سلسلة النجع (رفاقة عمر) كل شهر رمضان بفارغ الصبر والذي تغنّى فيه المطربين العرب والليبيين لتنوّع مواضيعه وطابعه التراثي الليبي ..غير أكثر ما تخصص فيه الكيلاني ضمن ما وضعه من أعمال تلك الأناشيد الهجائية التي تتصل بتاريخ شعر الهجاء العربي حيث وضع 7 أغنيات – لعل أشهرها: يا شعبنا اليعربي- تهجو مصر والمملكة بطلب من نظام صدام حسين وسجلها سعدون جابر تحت تهديد الرصاص ثم سيعتذر عنها لاحقاً أثناء الحالة التعبوية زمن حرب الخليج الثانية 1990-1991 كذلك ذات الفترة وضع أغنية "الله أكبر" وسجله لطفي بوشناق ثم وضع الكيلاني أغنية "مين يجرا يقول" سجلتها ذكرى قبل أن تشتهر في شريطها المصري الأول "وحياتي عندك 1994" إثر صدور قرار مجلس الأمن الدولي عام 1992 فرض عقوبات على ليبيا شملت حظر الطيران منها وإليها، ومنع تصدير الأسلحة، وتقليص العلاقات التجارية والدبلوماسية معها بسبب سقوط طائرة ركاب أمريكية في لوكربي بأسكتلندا عام 1988 التي اشتبه بمواطنين ليبيين وراء تهريب حقيبة متفجرات إذ كانا يعملان في شركة الخطوط الجوية الليبية وقيل إنهما شحناها في مطار لوقا بمالطا.

ومن كلمات الأغنية التي تندد بحرمان الحجاج من السفر لأداء فريضة الحج ضمن ما ترتب عليه حظر الطيران..."مين يجرا يقول هذا مش معقول...بنزور ونبكي ع الكعبة وقبر الرسول... قالولي الدّمعة بتهدد أمن الأسطول"..الخ.

وتم توظيف هذه الأغنية في مواقع النت لجعلها سبباً دعا لمقتل ذكرى عام 2003 رغم أنه كان بيد زوجها أيمن السويدي الذي كان مهووس غيرة بزوجاته الشهيرات منهن الممثلة حنان ترك والراقصة ناديا.

كما حاول الدكتور علي الكيلاني أن يقدم علي نفس المسمي " مين يجري يقول " قصية في فلسطين بدأها :" مين يجــــرا يقـــول.. هـــذا موش معقـــــول..كل عام بنقول بنغزى غزوة حطين نلقى اللى يجينا يذكرنا بسبعة وستين.. مين يقدر يعرف وايش بينا..وإيش اللى ناصب بإيدينا..بردنا صبرا وشتيلا بثلج النرويج.. صخرنا البايت والجامد بنفط الخليج..نرجىَ فى النصر إيجى عكسه.. ملينا من نكسه لـ نكسه.. نرجىَ فى النصر إيجى عكسه.. ملينا من نكسه لـ نكسه.. وإنجيب جهينة إتقول عندى الخبر اليقين... الخ

كذلك حاول علي الكيلاني أن يقدم أغنية استرضاء بعنوان "يا زائر مكة" إلا أنها لم تلق صدى. وبعد حل قضية لوكربي عام 2003 ورفع العقوبات ثم الإفراج 2009 عن المتهم الليبي عبدالباسط المقرحي الذي استقبل بطلاً في ليبيا غير أن الأحداث الليبية الحالية دفعت وزير العدل المستقيل مصطفى عبدالجليل إلى تصريح لصحيفة إكسبريسين ديلي السويدية بأنه يملك أدلة تثبت أن معمر القذافي وراء أمر التفجير.

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الدكتور علي الكيلاني حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب "شاعر المقاومة" لا يعرفون قدر هذا الشاعر العملاق، فتحية طيبة للدكتور علي الكيلاني الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للشاعر الثوري الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم