شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: ابن عمار.. الشاعر الأندلسي الذي قتلته شهوة السلطة

محمود محمد عليانتهت الدولة الأموية بالأندلس بعد الأحداث الخطيرة التي حدثت في أوائل القرن الخامس الهجري، والحادي عشر الميلادي، جراء الحرب الضاربة التي نشبت بين حكامها، فنشأت دول الطوائف في الأندلس بعد انهيار الدولة وانقسامها، وبعد أن دبت الروح في هذه الدويلات بدأت تتنافس في المكارم والأخلاق وفي دعوة العلماء والأدباء، رغم الاضطرابات التي كانت سائدة، وكانت دولة بني عباد في إشبيلية أقواها وأعلاها شأنا، وقد توالي على حكمها ثلاثة ملوك، فمؤسسها القاضي أبو القاسم بن عباد، وابنه المعتضد، ثم حفيده المعتمد، وكاموا أكثر ملوم الطوائف حظا في وفود الأدباء والعلماء والشعراء، وكان بلاط بني عباد في إشبيلية مركز اشعاع علمي وأدبي، شهد سطوع أكبر علماء الأندلس، وكان من هؤلاء أبو بكر محمد بن عمار الذي كانت ملوم الأندلس تهابه لبذاءة لسانه ولبراعة شعره كما قيل (1).
وأبو بكر بن عمار هذه الشخصية الفريدة في تاريخ الأندلس وتاريخ الشعر العربي ارتبط نجمها في صعوده وهبوطه بشخصية أخري أكثر فرادة وتميزا، وقد أكثر المؤرخون في وصف المعتمد في كل أحواله كما أكثروا في وصف صديقه وتوأم روحه في فترة من فترات أبي بكر ابن عمار، حيث قال عنه معظم مؤرخي الأندلس:" ذو الوزارتين أبو بكر محمد بن عمار، المهري الأندلسي الشلبي الشاعر المشهور؛ هو وابن زيدون القرطبي المذكور في حرف الهمزة فرسا رهان، ورضيعا لبان، في التصرف في فنون البيان، وهما كانا شاعري ذلك الزمان. وكانت ملوك الأندلس تخاف من ابن عمار المذكور لبذاءة لسانه وبراعة إحسانه، لاسيما حين اشتمل عليه المعتمد على الله ابن عباد صاحب غرب الأندلس - الآتي ذكره في هذا الحرف إن شاء الله تعالى - وأنهضه جليسا وسميرا وقدمه وزيرا ومشيرا ثم خلع عليه خاتم الملك ووجهه أميرا، وكان قد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، فتبعته المواكب والمضارب والنجائب والجنائب والكتائب والجنود، وضربت خلفه الطبول ونشرت على رأسه الرايات والبنود، فملك مدينة تدمير، وأصبح راقي منبر وسرير، مع ما كان فيه من عدم السياسة وسوء التدبير، ثم وثب على مالك رقه ومستوجب شكره ومستحقه، فبادر إلى عقوقه وبخس حقه، فتحيل المعتمد عليه وسدد سهام المكايد إليه، حتى حصل في قبضته قنيصا، وأصبح لا يجد محيصا، إلى أن قتله المعتمد في قصره ليلا بيده، وأمر من أنزله في ملحده، وذلك في سنة سبع وسبعين وأربعمائة بمدينة إشبيلية (2).
وقد أسهب المؤرخون في الحديث عن حياة محمد بن عمار، وعلاقته بالمعتمد بن عباد، واشادوا بشعره حتى إن بعضهم قدمه على كبار الشعراء الأندلسيين، فقا المراكشي في العجب إنه :" كان أحد المحيدين على طريقة أبي القاسم بن هاني الأندلسي، وربما كان أحلي منتزعا منه في كثير من شعره، وربما تعلي بعضهم فشبه بأبي الطيب ". ولكن قليل الدراسات التي خُص بها شعره، قديما وحديثا قياسا لما ناله أقرانه من شعراء عصره أمثال : ابن زيدون، وابن هانئ، والمعتمد بن عباد، وابن خفاجة .
وأما فيما يخص سيرته فهو أبو بكر محمد بن عمّار بن حسين بن عمّار المشهور بـابن عمّار (422-479 هـ/1031-1086 م)، فقد ولد في قرية " شنبوس" من أعمال مدينة "شلب" جنوب غرب الأندلس سنة 422 هـ لأسرة متواضعة تدّعي الانتساب إلى اليمن، وقدم على صاحب إشبيلية المعتضد بن عباد سنة 445 هـ فعينه المعتضد شاعراً في بلاطه، فصاحب ابن عمار ابنه المعتمد الذي جعله أخلص ندمائه. ولما تولى المعتمد الحكم في إشبيلية عين ابن عمار وزيراً له، وقد ساعده ابن عمار في الاستيلاء على قرطبة ومرسية ويقال إنه صدّ ملك قشتالة وليون ألفونسو السادس عن إشبيلية بأن غلبه في الشطرنج، ولقّبه ألفونسو برجل الجزيرة، كما لقّبه أهل زمانه بذي الوزارتين، وزارة الدولة وزارة الشعر (3).
لما عيّنه المعتمد والياً على مرسية استقل ابن عمار بأمره هناك، وهجا المعتمد وزوجته الرميكية بأبيات لاذعة، إلا أنه أزيح عن حكم مرسية بعد ذلك ووقع أسيراً لدى المعتمد في إحدى المعارك. وفي سجنه لدى المعتمد نظم ابن عمار بعض أشهر أشعاره يستعطف صديقه القديم ويستجديه ليطلق سراحه، أشهرها التي مطلعها : (4)
سجاياك إن عافيتَ أندى وأسجحُ وعذرك إن عاقبتَ أجلى وأوضحُ
وإن كان بين الخطتين مزيّةٌ فأنت إلى الأدنى من الله أجنحُ
ويقال إن المعتمد قد همّ بالعفو عنه بعد هذه القصيدة لولا أن ابن عمّار بدأ بمراسلة أعدائه من سجنه يتوعّدهم بعفو المعتمد عنه، فما أن علم المعتمد بذلك حتى جاءه في سجنه وهوا عليه بفأسٍ فأرداه قتيلاً، وذلك سنة 479 هـ.
وقد كان ابن عمار شاعراً يشار له بالبنان بين أقرانه، حيث تشير المصادر الأدبية الأندلسية أن لابن عمار ديوانا شعريا، وأنه كان كثير الانتشار في الأندلس، وقد جمع له ديوانان وديوان مختصر، كلها قد ضاعت، بينما بقيت بعض قصائده محفوظة متناثرة في الكتب.
كان ابن عمار من شعراء الأندلس المجيدين المكثرين، إذ عرف شعره إقبالا واهتمام ودارسي الأدب في الأندلس وخارجها؛ ومن مشاهير قصائد ابن عمار المذكور قوله: (6).
أدر الزجاجة فالنسيم قـد انـبـرى.. والنجم قد صرف العنان عن السرى
والصبح قد أهدى لـنـا كـافـوره.. لما استرد الليل منـا الـعـنـبـرا
ومن مديحها، وهي في المعتضد بن عباد:
ملك إذا ازدحم الملوك بـمـورد.. ونحاه لا يردون حتى يصـدرا
أندى على الأكباد من قطر الندى.. وألذ في الأجفان من سنة الكرى
قداح زند المجد لاينـفـك مـن.. نار الوغى إلا إلى نار القـرى
وهي طويلة وفائقة.
ومن جيد شعره أيضا القصيدة الميمية، وهي أيضا في المعتضد بن عباد، وأولها:
علي، وإلا ما بكاء الغمـائم.. وفي، وإلا فيم نوح الحمائم
ومنها أيضا في وصف وطنه: (7).
كساها الحيا برد الشباب، فإنهـا.. بلاد بها عق الشباب تمـائمـي
ذكرت بها عهد الصبا فكأنـمـا.. قدحت بنار الشوق بين الحـيازم
ليالي لاألوي عـلـى رشـد لائم.. عناني، ولا أتثنيه عن غي هائم
أنال سهادي من عيون نواعـس.. وأجني عذابي من غصون نواعم
وليل لنا بالسد بـين مـعـاطـف.. من النهر ينساب انسياب الأرقـم
تمر علينا ثـم عـنـا كـأنـهـا.. حواسد تمشي بيننا بـالـنـمـائم
بحيث اتخذنا الروض جارا تزورنا.. هداياه في أيدي الرياح النواسـم
وبتنا ولا واش يحـس كـأنـمـا.. حللنا مكان السر من صدر كاتـم
ومن مديحها: (8).
ملوك مناخ العز في عرصاتـهـم.. ومثوى المعالي بين تلك المعـالـم
هم البيت ماغير الظبـا لـبـنـائه.. بأس ولا غير الـقـنـا بـدعـائم
إذا قصر الروع الخطا نهضت بهم.. طوال العوالي في طوال المعاصم
وأيد أبت من ان تؤوب ولم تـفـز.. بجز النواصي او بحز الغلاصـم
ندامى الوغى يجرون بالموت كأسها.. إذا رجعت أسيافهم بالجـمـاجـم
هناك القنا مجرورة من حـفـائظ.. وثم الظبا مهـزوزة مـن عـزائم
ومنها: (9).
إذا ركبوا فانظره أول طاعـن.. وإن نزلوا فارصده آخر طاعم
وهي أيضا طويلة وطنانة.
من شعره في تهنئة المعتمد بن عباد وقد ولد له ولدان: (10).
اِهْنَأْ بنَجْلَيْكَ مِنْ أُنْثَى وَمِنْ ذَكَر.. لا تَعْدَمِ الضَوْءَ بَينَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ
وله من الغزل أيضاً:
وهَوِيْتُهُ يَسْقي المُدامَ كَأَنَّهُ.. قَمَرٌ يَدُوْرُ بِكَوْكَبٍ في مَـجلِسِ
جَهْمٌ وإِنْ حَسَرَ الّلثامَ فَإنما.. رَفَعَ الظّلامَ عنِ النّهارِ المُشمِسِ
وفي استجداء المعتمد حين ليطلق سراحه (11):
سجاياك إن عافيتَ أندى وأسجحُ .. وعذرك إن عاقبتَ أجلى وأوضحُ
وإن كان بين الخطتين مزيّةٌ.. فأنت إلى الأدنى من الله أجنحُ
ومما قال في ذم المعتمد بن عباد وأبيه (12) :
مما يزهدني في أرض أندلـس.. أسـمـاء معتضـد فيها ومعتـمـد
ألقاب مملكة في غير موضعها.. كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
ومما قال في ذم زوجة المعتمد (اعتماد الرميكية) (13) :
تخيرتها من بناتِ الهجينِ.. رميكيةً ما تساوي عقالاً
فجاءت بكلِّ قصيرِ العذار.. لئيم النجادين عمَّاً وخالاً
قصارُ القـدودِ ولكنَّهم.. أقاموا عليها قروناً طوالاً
ومن جملة ذنوبه عند المعتمد بن عباد ما بلغه عنه من هجائه وهجاء أبيه المعتمد في بيتين، هما كانا من أكبر أسباب قتله، وهما (14) :
مما يقبح عندي ذكـر أنـدلـس.. سماع معتضد فيها ومعـتـمـد
أسماء مملكة في غير موضعهـا.. كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
وذكر عماد الدين الأصفهاني الكاتب في كتاب الخريدة في ترجمة ابن عمار المذكور: وقتله المعتمد، وكلن أقوى الأسباب لقيله أنه هجاه بشعر ذكر فيه أم بنيه المعروفة بالرمكية، وهي أبيات منها: (15).
تخيرتها من بنات الهجان.. رمكية لا تساوي عقـالا
فجاءت بكل قصير الذراع.. لئيم النجارين عما وخالا
قلت: وهذه الرمكية كانت سرية المعتمد، اشتراها من رميك بن حجاج، فنسبت إليه، وكان قد اشتراها في أيام أبيه المعتضد فأفرط في الميل إليها وغلبت عليه، واسمها اعتماد، فاختار لنفسه لقبا يناسب اسمها، هو المعتمد، وتوفيت بأغمات قبل المعتمد بأيام، ولم ترقأ له عبرة ولا فارقته حسرة حتى قضى نحبه أسفا وحزنا، وهي التي أغرت المعتمد على قتل ابن عمار، لكونه هجاها؛ وقيل إن هذا الشعر ليس لابن عمار، وإنما نسبته إليه لكي توغر صدر المعتمد عليه (16).
وقد مُثلت شخصيته في عدد من الأعمال الفنية، وقام بدورها عدة نجوم منهم: عبدالله غيث: في مسلسل ابن عمار، ومحمد مفتاح: في مسلسل ملوك الطوائف، وعمار شلق: في مسلسل المرابطون والأندلس.

د. محمود محمد علي
.....................
الهوامش:
1- محمد بن عبد الله سيدي محمد : شعر محمد بن عمار الأندلسي : دراسة تحليلية أسلوبية، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم درمان الإسلامية، 2012، ص 5.
2- أنظر ترجمته في بغية الملتمس (رقم: 277) والمغرب 1: 382 والذخيرة 2 الورقة: 74 والقلائد: 83 والحلة السيراء 2: 131 والمطرب: 169 والمعجب: 169 ورايات المبرزين: 25 وأعمال الأعلام: 160 والنفح 1: 652 (نقلاً عن القلائد) والوافي 4: 229 وعبر الذهبي 3: 288 والشذرات 3: 356 .
3- المقري : نفح الطيب، 1/ ص 278 ؛ ابن خلكان : وفيات الأعيان، 2/ص 369.
4- أنظر في ذلك في كتاب مختارات من الشعر المغربي الأندلسي لم يسبق نشرها، تحقيق الأستاذ إبراهيم بن مراد، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1986، ص 62.
5-نفس المصدر، ص 63.
6- نفس المصدر، ص 64.
7- نفس المصدر، ص 65.
8- نفس المصدر، ص 67.
9- نفس المصدر، ص 78.
10- نفس المصدر، ص 80.
11- نفس المصدر، ص 91.
12- نفس المصدر، ص 93.
13- نفس المصدر، ص 111.
14- نفس المصدر، ص 123.
15- نفس المصدر، ص 134.
16- نفس المصدر، ص 145.

في المثقف اليوم