شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: فاروق الباز.. رائد الصحراء وملك القمر

محمود محمد علييعد عالم الفضاء المصري، الدكتور فاروق الباز من أبرز وأشهر العلماء في هذا المجال ومن الذين حققوا العديد من الإنجازات والاكتشافات العلمية الهامة طوال حياته.. تمكن من حفر اسمه بحروف من نور في تاريخ العلم، وصار أحد أبرز غزاة الفضاء في التاريخ، وهو من أبرز علمائنا المصريين الذين وصلوا للعالمية بعدما وصل لمنصب مدير مركز تطبيقات الاستشعار عن بعد بجامعة بوسطن في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان ضمن فريق عمل أول مركبة فضاء سافرت للفضاء بوكالة ناسا، وقد لقَّبَه رائد الفضاء لبعثة "أبولو 15"، ألفريد ووردِن، بـ"ملك القمر"، ورائد الصحراء، وكنز علوم الجيولوجيا والفضاء»".. صاحب الملوك.. وجالس الرؤساء.. وعايش العلماء.. أجرى دراسات ميدانية في كل صحراء رئيسية على الأرض، وبحث عن المياه الأرضية في الأراضي القاحلة باستخدام صور فضائية. ويعود له الفضل في اكتشاف موارد المياه الجوفية في مصر وعُمان والصومال والسودان والإمارات العربية المتحدة.
وهو يستحق أن يحمل لقب "عالم" وينضم إلى كوكبة قليلة من العلماء الذين أثروا البشرية باكتشافاتهم، وقدموا القدوة للأجيال القادمة، ورفعوا رؤوس بلادهم عالية في السماء، ولا ينكر منكر سجله التاريخي الحافل بالإنجازات، فقد اختارته وكالة ناسا عام 1973 باحثاً مسؤولاً عن تجربة عمليات رصد الأرض وتصويرها في مشروع اختبار "أبولو - سويوز"، أولى البعثات الأميركية - السوفياتية المشتركة في يوليو (تموز) عام 1975، وانتُخب زميلاً في الجمعية الأميركية لتقدم العلوم، ورئيساً للجمعية العربية لبحوث الصحراء، وحاز العديد من الجوائز والأوسمة، بما في ذلك جائزة الإنجاز لأبولو التابعة لـ"ناسا"، وميدالية الإنجاز العلمي الاستثنائية، وجائزة كارولين وتشارلز إيرلندا المرموقة لعام 2013 من جامعة ألاباما في برمنغهام. وفي عام 2019 أُطلق اسمه على كويكب بالفضاء تقديراً لدوره مع وكالة الفضاء الأميركية "ناسا".
إنه عالم الفضاء والجيولوجيا المصري، فاروق الباز، الذي ولد في 2 يناير عام 1938م، بقرية السنبلاوين في أسرة مصرية بسيطة الحال، وكان والده أول من حصل على التعليم الأزهري في قريته، ووالدته كانت تتمتع بذكاء فطرى جعلهما يدركان ما يتمتع به ذلك الطفل من نبوغا حادا، فتوقعا له مستقبلا باهرا،وحصل على شهادة البكالوريوس من كلية العلوم جامعة عين شمس عام 1958 م من قسم (كيمياء – جيولوجيا).
ثم نال شهادة الماجستير في الجيولوجيا عام 1961 م من معهد المناجم وعلم الفلزات بميسوري، كما حصل على عضوية جمعية سيجما كاي (Sigma Xi) العلمية، كما نال شهادة الدكتوراه في عام 1964م وتخصص في الجيولوجيا الاقتصادية.. درس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا واستكشف كثيرا من جيولوجيا الأرض وزار أغلب المناجم في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عام 1964، في سن 26 عامًا، نال الباز درجة دكتور في الفلسفة في علم الجيولوجيا من جامعة ميزوري للعلوم والتكنولوجيا بعد إجراء البحوث العلمية من 1962 حتى عام 1963 في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.. وفي عام 1978، اختير الباز كمستشار علمي للرئيس المصري الراحل أنور السادات في مصر. كُلف الباز بانتقاء المناطق ذات الأراضي القابلة للاستصلاح في الصحراء دون تأثيرات ضارة على البيئة. ونظرًا لخدماته المميزة، منحه السادات وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى.
وقام الدكتور الباز، بتأليف وتحرير عدة كتب عن استخدام التصوير الفضائي لتحديد المعالم الجيولوجية، بما في ذلك: «القمر كما شوهد من قبل (1970)، وأبولو على سطح القمر (1978)، وملاحظات رائد الفضاء من مهمة أبولو-سويوز (1978)، وتقرير موجز عن العلوم: الرصد البصري والتصوير الفوتوغرافي 1979».
وترأس الدكتور الباز، عدة جمعيات علمية، منها، اللجنة الوطنية الأمريكية للعلوم الجيولوجية التابعة للأكاديمية الوطنية للعلوم، وجمعية جائزة تشارلز ستارك درابر للأكاديمية الوطنية للهندسة، واللجنة التوجيهية لمبادرة كيك المستقبلية في علوم التصوير من الأكاديميات الوطنية.
وقد أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" اسم "الدكتور فاروق الباز" على كويكب مكتشف حديثا تقديرا لإسهاماته العلمية البارزة، وذلك سبتمبر من العام 2019، لتعد هذه المرة الأولى، التي يجري فيها إطلاق اسم عالم مصري، على كويكب بالسماء.
وأطلق الاتحاد العالمي للفلك والتابع لهيئة الأمم المتحدة اسم الدكتور فاروق الباز على كويكب بالفضاء، نتيجة لدوره مع وكالة الفضاء الأمريكية بداية بمشروع أبوللو لاستكشاف سطح القمر في منتصف ستينيات القرن الماضي، مرورا بتصوير الأرض من المدار على رحلة أبوللو سيوز الأمريكية الروسية المشتركة.
وقد اكتسب " الدكتور فاروق الباز "، وسطيته واعتداله من واقع بيئته التي ترعرع في كنفها، فوالده الذي كان معلمًا في أحد المعاهد الأزهرية بالزقازيق انعكست شخصيته على أولاده "محمد وأسامة وعصام وفاروق"، كما اكتسب خلقًا دفع كل من تعامل معه باحترام وتوقير شديدين، لكن "الباز" الأصغر لم يترعرع في الزقازيق كباقي إخوته، فهو لم يعش فيها سوى سنتين، لاسيما بعد انتقال والده إلى المعهد الديني بمدينة دمياط لظروف عمله، ويقول فاروق الباز، "كان والدي يتحدث باللغة العربية الفصحي وكان يمتلك مكتبة مغلفة بالزجاج، وكان يحرص قبل وبعد قراءته أن يحمل الكتاب بكثير من الاحترام لكي يعلمنا أن الكلمة المكتوبة لها رونقها واحترامها ويتحدث إلينا باللغة العربية الفصحى اعتزازًا بها"، لكنه كان دائم النصح بأن "من يَعلم عليه أن يُعلم الناس وإلا فلا نفع في علمه".
وشارك في تقييم برنامج الوكالة الوطنية للطيران والفضاء "ناسا" للرحلات المدارية للقمر إلى جانب عضويته في المجموعات العلمية لإعداد مهمات رحلات أبوللو على سطح القمر، وشغل منصب سكرتير لجنة اختيار مواقع هبوط سفن برنامج أبوللو على سط القمر.
وكان الدكتور فاروق الباز رئيسا لفريق تدريبات رواد الفضاء في العلوم عامة وتصوير القمر خاصة، وكُلف بالإشراف على أبحاث التجارب الخاصة بالمراقبات الأرضية من الفضاء والتصوير في مشروع الرحلة الفضائية المشتركة في عام 1975م.
وقام الدكتور فاروق الباز خلال فترة عمله ضمن برنامج أبوللو بالاهتمام بتدريب رواد الفضاء على انتقاء عينات مناسبة من أحجار القمر وتربته لإحضارها إلى الأرض لتحليلها ودراستها، وألف 12 كتابا منها "أبوللو فوق القمر"، و"الصحراء والأراضي الجافة"، "حرب الخليج والبيئة"، وحصل على نحو 31 جائزة.
في محطة أسيوط الجديدة، اكتسب الدكتور فاروق الباز ملمحًا جديدًا من ملامح الاحترام لكنه من نوع آخر، في التعامل مع مقدرات الدولة المصرية، يعكس تقدير المصريين وقتها للنيل، ذلك المجرى المائي الذي يمثل شريان الحياة لبلد الفراعنة، فزاد من عشقه لبلده وأهلها، لاسيما بعدما أُسند إليه في أثناء التحضير لدرجة الماجستير، من قبل رئيس القسم وقتها سعد الدين نقادي، البحث عن عينات لطبقات طفلة بها حفريات غريبة الشكل ولم يكن أحدًا كتب عنها في السابق، للبحث عنها وكيفية تكوينها وتاريخها، ما اضطره إلى جمع عينات من هذا النوع من جبل في بلدة الشراونة ويقع الجبل جنوب غرب البلدة الواقعة بعيدًا عن إسنا وكان السبيل للذهاب إليه لاستقلال القطر إلى إسنا بعدها يستقل مركبًا ثم يمتطي "جملًا" للوصول إلى تلك العينات في رحلة سفر شاقة للغاية من الشراونة حتى أسيوط على مدار يومين ثلاثة.
في حديثه عن تلك الفترة يقول الدكتور فاروق الباز: أبهرني ذلك المراكبي الذي كان يقود المركب في أثناء ذهابي وإيابي في طريقي للبحث عن تلك العينات، الذي كان يضطر لإيقاف المركب عند شط النيل، ويربط المركب لكي تنزل كل الناس مرة أو مرتين ليقضي كل منهم حاجته حتى لا تتسخ مياه النيل، ولم يكن بمقدور أحد أن يفعل ذلك، وكانت محط احترام هائلة للغاية، وأدركت حينها معاني كثيرة.
وهو أبرز من أثروا في حياة الدكتور فاروق الباز المهنية والأخلاقية والعلمية، كان أبرزهم "مراد إبراهيم يوسف، وكمال العقاد"، ومن أمريكا بورت راكتر، بحسب عالم الفضاء المصري، الذي يقدر وسام النيل الذي حصل عليه من الرئيس الراحل محمد أنور السادات ويحب شخص الرئيس الذي يعتبره واحدًا من أعظم الرؤساء الذين حكموا مصر لإدراكه الكبير بتفاصيل كثيرة على كافة المستويات ولديه رؤية خاصة وعميقة.
عمل الدكتور فاروق الباز على تبسيط العلوم الجيولوجية وعلوم الفضاء ومصطلحاتها المعقدة والدقيقة بتعبيرات بسيطة يسهل فهمها، بلغت أوراقه البحثية المنشورة 540 بالإضافة إلى 12 مؤلفاً، ونال أكثر من دكتوراه فخرية من عدة جامعات منها دكتوراه فخرية في العلوم من كلية نيوإنجلاند عام 1989م، وفي الفلسفة من جامعة المنصورة عام 2003م، ومن جامعة ميسوري للعلوم والتكنولوجيا في الهندسة عام 2004م، والقانون من الجامعة الأمريكية بالقاهرة في عام 2004م، ودرجة الأستاذية في عام 2002م من جامعة ميسوري.
وقد حصل الدكتور فاروق الباز على 31 جائزة منها جائزة إنجاز أبولو، وجائزة تدريب فريق العمل من ناسا، وجائزة فريق علم القمريات، وجائزة فريق العمل في مشروع أبوللو الأمريكي السوفييتي، ووسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من الرئيس السادات، وجائزة الإنجاز المتميز من المنظمة المصرية الأمريكية في عام 1989م، وجائزة البوابة الذهبية من معهد بوسطن الدولي في عام 1991م، وجائزة الفهم الجماهيري للعلوم والتكنولوجيا من الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم عام 1992م، وجائزة الهلبوتي للاحتياجات البشرية من الجمعية الأمريكية لعلماء الجيولوجيا النفطية عام 1996م، وجائزة ولاية نيفادا لعام 2004م، وجائزة الريادة من مؤسسة الفكر العربي، وسميت مدرسته الابتدائية باسمه، أنشأت الجمعية الجيولوجية بالولايات المتحدة الأمريكية جائزة سنوية باسمه "جائزة فاروق الباز لأبحاث الصحراء"، واختير ضمن مجلس أمنائها، وكذلك المركز المصري للدراسات الاقتصادية، ومجلس العلاقات المصرية الأمريكية.
بالإضافة إلى إنجازاته في الفضاء، كانت للدكتور فاروق الباز إنجازاته على الأرض أيضاً وذلك خلال عمله كمستشار علمي للرئيس المصري الراحل أنور السادات، حيث كُلِّف بمهمة اختيار المساحات الصحراوية يمكن اصلاحها في مصر بعيداً عن وادي النيل. وسافر إلى الأراضي البعيدة لدراسة طبيعتها الجيولوجية والبيئية ومواردها.
وعن طريق تحليل صور الأقمار الصناعية استطاع الباز اكتشاف آبار المياه الجوفية حيث أثبت وجود المياه الحلوة بكميات هائلة لتوريد أكثر من 1000 بئر بعمقٍ أكثر من 100 متر في منطقة شرق العوينات في مصر، كما طبق هذا المنهج في دول أخرى من بينها الكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان وصحاري الصين وراجستان الهندية.
وقد أعدت ناشونال جيوجرافيك في عام 2002 فيلما وثائقيا، أطلق على كويكب 7371 اسم الباز؛ تقديرًا لإسهاماته العلمية البارزة في عام 2019م، و تزوج من الأمريكية من أصل أيرلندي السيدة باتريشيا الباز ورزقا بأربع بنات (منيرة، ثريا، كريمة، فيروز).
إن قصة حياة فاروق الباز ورحلته العلمية وما قام به خلالها من إنجازات وما حققه من نجاحات، جعل محط اهتمام الكثيرين وكان من الطبيعي والمنطقي أن يتم رصدها بصور عِدة وأشكال مختلفة، كنوع من التأريخ لمسيرة واحد من أهم وأبرز علماء العرب، وفي ذات الوقت باعتباره نموذج إيجابي وقدوة يحتذى بها جيل الشباب. وبناءً لآخر رصد فإن مسيرة فاروق الباز بما فيها من تحديات ونجاحات وإنجازات تم تسجيلها مرات عديدة، من خلال لقاءات تلفزيونية أو حلقات إذاعية أو الكتب والموسوعات، وإجمالاً فقد رصدت السيرة الذاتية للباز ووثقت رسمياً حوالي 40 مرة، من أهمها السيّر المسماه بعناوين (الفتى الفلاح فوق القمر، من الأهرام إلى القمر، النجوم المصرية في السماء.. وغيرهم)، بجانب تدشين موقع إلكتروني وصفحة رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي خاصة به.
والأثر الذي تركه الدكتور فاروق الباز بالغ والإنجازات العلمية التي حققها تفوق ما يمكن حصره، ولكن إنجازه الأهم هو إن نشاطه العلمي لم يقتصر على أعمال البحث والاستكشاف، بل كان حريصاً على خدمة المجال العلمي نفسه وتمهيد الطريق أمام من سيخلفونه، ومن أمثلة ذلك مساهمته في إقامة وإدارة مركز أبحاث الكون في المتحف الدولي للفضاء، بجانب ما ألقاه من محاضرات وما قدمه من خدمات للبحث العلمي من خلال المناصب العلمية العديدة والمرموقة التي تقلدها. حياته الخاصة والعائلية: إنجازات فاروق الباز العلمية دائماً ما تطغي على أي أمور أخرى، ولهذا لم يتم التطرق كثيراً إلى حياته الخاصة وربما هو من فضل أن تبقى بعيداً عن الأضواء، والمعروف عن الباز إنه متزوج ولديه أربعة بنات وستة أحفاد، كما إنه شقيق السياسي البارز أسامة الباز الذي شغل منصب المستشار السياسي لرئيس الجمهورية في عصر حسني مبارك.
ويطول بنا المقال غير أني لا أملك في نهاية حديثي عن الدكتور فاروق الباز إلا أن أقول تحية طيبة لهذا الرجل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الجيولوجي الكبير الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به و يسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.
وتحيةً أخرى مني لهذا الرجلٍ العظيم الذي لم تجز به السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
......................
المراجع

1- عادل حسنين ومحمود الملاح: فاروق الباز من أشهر الفضاء في العالم، دار أمادوا للنشر، 2007.

2- صلاح عبد المجيد: فاروق الباز تاج العلماء، دار الحدث للنشر والتوزيع، 2019.

3- عمر بطيشة: فاروق الباز شاهد على العصر، دار الفاروق للاستثمارات الثقافية، 2010.

 

في المثقف اليوم