شهادات ومذكرات

ياسين خليل.. مؤسس المنطق وفلسفة العلوم في عراقنا الحبيب

يعد ياسين خليل (1933-1986) أحد أساطين العقلانية المنفتحة، الذين لم يتخلوا عن ثقتهم بالعقل، وعن التشديد على ضرورة سيادة الحوار العقلاني في حل الإشكاليات العالقة، على الرغم من الأزمات التي عصفت بالتفكير الفلسفي والعلمي وبالقيم الثقافية والأخلاقية في زمانه، فهو أحد أبرز كبار مفكرينا العراقيين المعاصرين القلائل الذين تتميز بحوثهم بالسمة الموسوعية، فلا نجد ميداناً من ميادين النشاط العقلي لم يسهم فيه هذا المفكر. انشغل واهتم بدراسة الفكر الإسلامي بشقيه الفلسفي واللغوي، واهتم بمعالجة قضاياه بمنظور عقلاني مسترشداً بالمنهج الجدلي التاريخي الاجتماعي.

علاوة علي كونه يمثل واحد من كبار المفكرين العراقيين والمتخصصين في مجال المنطق وفلسفة العلوم، حيث حاول كما يقول الدكتور عبد الستار الراوي :"إبراز قيمة المنطق العلمي في دراساته الفلسفية المعاصرة والابستمولوجية والتراثية،وسعى طوال ثلاثين عاما إلى رفع مستوى الوعي المعرفي والثقافة العلمية في الدرس الأكاديميين ولهذا اعتبرت دراساته في المنطق والمعرفة العلمية منعطفاً ريادياً كان لها أثرها في رفع الوعي الفلسفي الاكاديمي في العراق  إلى مستوى علمي نقدي جديد لمجمل المفاهيم والأفكار التي تخللت في العلم الحديث والفكر المعاصر، وفي سبعينات القرن الفائت اتجه ياسين خليل نحو دراسة الفلسفة المعاصرة والنواحي التجريبية في المعرفة العلمية، إضافة لما بحثه من قبل عن العلوم البرهانية، وقد أسهم في تطوير الكثير من الأبحاث المنطقية في مجال الفلسفة لتكوين مذهبه الخاص الذي يعرف بـ) الاصطلاحية الصورية).

قال عنه حازم سليمان الناصر: " كان أستاذا متفلسفا، مفكرا، باحثا، مؤلفا في فلسفة العلم، إلي جوار إنشاءاته المعرفية الأخرى في التراث العلمي العربي ومساهماته الثقافية والفكرية في القومية والأيديولوجيا العربية حتى أصبح نتاجه العلمي موضع تقدير المؤسسات الاكاديمية الغربية والأمريكية، واعتبر واحد من العلماء المجددين في الفكر والثقافة بعد أن قدم اعتماداته الفلسفية في مجال فلسفة العلم والفلسفة وعلاقة العلم بالفلسفة فضلا عن علاقة المنطق بالمعرفة العلمية.

كما قال عنه ابراهيم خليل العلاف:" مرب فاضل، أكاديمي متميز، وقائد وإداري حازم، ووزير سابق للشباب أكثر من مرة في الستينات من القرن الماضي (1967) ألف كتبا عديدة.. كما كتب بحوثا ودراسات مختلفة منشورة في المجلات الاكاديمية والثقافية وهو من أوائل الاساتذة العراقيين الذين تخصصوا في فلسفة العلوم والمنطق الرياضي.. عرفته منذ الستينات من القرن الماضي عندما كنت ُطالبا في قسم التاريخ بكلية التربية أقرأ له كتبه وبعضا من مقالاته في مجلة "آفاق عربية "، وخاصة في اعدادها الاولى..الف عنه الدكتور مشهد سعدي العلاف كتابا بعنوان :" الدكتور ياسين خليل سيرته وفلسفته واعماله العلمية".. والكتاب بالأصل رسالته للماجستير.الكتاب نشر سنة 1988.

ولد ياسين خليل في بغداد سنة 1933، ودرس في جامعتها وهو قومي - اشتراكي كما انه من الذين اهتموا بإعطاء الفكر العربي بعدا علميا فلسفيا، وقد أنهى دراسته العليا في المانيا وحصل على الدكتوراه في الفلسفة عام 1957 عن اطروحته حول فلسفة كارناب في جامعة مونستير كأول علامة عربي في منطق الرياضيات وفي الفلسفة الوضعية المنطقية الجديدة لا سيما الألمانية.

كما اشتهر في دراساته العميقة في موضوع نظم سيميوطيقا اللغة أو علم -الدلالة. كما كتب دراسات لامعة في التاريخ المعرفي للعلوم عند العرب وعن الإنجازات التي حققها الفلاسفة العرب في مجال النظريات العلمية، وكشف الإضافات الأصيلة التي أسهموا بها. وهو يشدد على ضرورة التمييز بين الثقافة العربية والحضارة العربية. فالثانية لديه أعم وأشمل، بينما تقتصر الأولى على الجانب الفكري والعلمي والإنساني الذي يحدده حصرا بالعلوم الرياضية والطبيعية، والعلوم المعدنية الجيولوجية، والعلوم النباتية والحيوانية، والعلوم الهندسية والمعمارية، والعلوم الطبية.

عمل ياسين خليل استاذا للمنطق الرياضي وفلسفة العلوم في قسم الفلسفة جامعة بغداد منذ عام 1964 وترأس القسم عدة سنوات كما عمل أستاذا للمنطق الرياضي وفلسفة العلوم في كلية آداب الجامعة الليبية. كما عمل رئيسا لمركز إحياء التراث العلمي العربي في بغداد واشرف على العديد من طلبة الدراسات العليا، الماجستير والدكتوراه خلال مسيرته التدريسية. – تقلد منصب وزير في الحكومة العراقية أكثر من مرة ومنها وزارة الشباب في 1967 كما اعتبر فيلسوفا للأيديولوجية القومية العربية وللاتحاد الاشتراكي العربي. كما اعتبر فكره “منعطفاً ريادياً لرفع العقل العربي إلى مستوى علمي نقدي جديد لمجمل المفاهيم والأفكار التي تخللت في العلم الحديث والمعاصر”.

كما عمل ياسين خليل مديرا لمركز احياء التراث العلمي العربي في بغداد المؤسس سنة 1977 وكان اول مدير للمركز، وقد باشر المركز اعماله في 12-2-1977 وبعده تولى ادارة المركز الاستاذ الدكتور صالح احمد العلي ثم الاستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف. وعد الاستاذ الدكتور ياسين خليل فيلسوفا للتوجه الاشتراكي القومي في العراق اشرف على طلبة دراسات عليا كثيرين كما حضر ندوات ومؤتمرات داخل العراق وخارجه وقدم مشاركات علمية فيها وكان من المفكرين العراقيين الرواد في التأكيد على تنمية العقل وايجاد منهج نقدي علمي.وهو من اساتذة الفلسفة الذين تخصصوا بالفلسفة الوضعية المنطقية المعاصر.

من كتب ياسين خليل :"منطق اللغة " 1962 و"منطق المعرفة العلمية " 1971 و"منطق البحث العلمي " 1974 و" الشباب والتيارات الفكرية " 1963 و" نظرية ارسطو المنطقية " 1964 و" القومية والاشتراكية " 1964و"المفاهيم القومية والاشتراكية " 1965 و"الايديولوجية العربية " 1966 و" الذرية المنطقية " 1967؛ كما ان له ايضا :" مصادر التراث العلمي العربي والدراسات الانسانية والعالم الرياضي " و"نظرية جوتلوب فريجه المنطقية " و" مقدمة في الفلسفة المعاصرة " و" الفيلسوف والتفلسف " و" العلوم الطبيعية عند العرب " و"نظرية القياس المنطقية " و"الطب والصيدلة عند العرب " و"نظرية القياس المنطقية " و"التراث العلمي العربي".

كما قدم ياسين خليل دراسات معمقة في موضوع نظم سيميوطيقا اللغة (علم الدلالة). كما كتب دراسات متميزة في التاريخ المعرفي للعلوم عند العرب وركز على منجزات الفلاسفة العرب في مجال النظريات العلمية، وكشف الإضافات الأصيلة التي أسهموا بها وقد ميز بين مصطلحي (الثقافة العربية) و(الحضارة العربية) فالحضارة اشمل من الثقافة لان الثقافة تعني الاهتمام بالجوانب الفكرية والعلمية المتمثلة بالعلوم الرياضية والطبيعية، والجيولوجية، والنباتية والحيوانية، والعلوم الهندسية والمعمارية، والعلوم الطبية بينما الحضارة تشمل البنى الفكرية والبنى المادية للمجتمع.

رحم الله الاستاذ الدكتور ياسين خليل فقد قدم الكثير للعراق العزيز وللفكر العلمي والحضارة العربية المعاصرة.

وعلي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور ياسين خليل بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر مبدع في المنطق فلسفة العلوم، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطوله وعرضه لخدمة ابستمولوجيا وسوسيولوجيا العلم.

فتحيةً مني للدكتور ياسين خليل التي  لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن بكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف ببقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً. بارك الله لنا في أستاذنا ياسين خليل قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه المفكرين".

***

أ. د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.........................

المراجع:

1- ابراهيم خليل العلاف: الدكتور ياسين خليل 1933-1986 استاذ الفلسفية العلمية والمنطق في العراق المعاصر، الحوار المتمدن-العدد: 5772 - 2018 / 1 / 30 - 17:25.

2- عبد الستار الراوي:  خليل "ياسين" رائد الدراسات المنطقية فى العراق، أوراق فلسفية، العدد 50، 2016، ص 65.

3- الناصر، حازم سليمان: مشروع نظرية العلم عند ياسين الخليل، مجلة الآداب، جامعة بغداد - كلية الآداب، ع 5، 2000، 173-182.

في المثقف اليوم