شهادات ومذكرات

قثم بن العباس فنن من الشجرة المباركة

يقول عز وجل في حق آل البيت النبوي الأطهار:" إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا " [سورة الأحزاب، الآية: 33]،وقد كان هؤلاء بالفعل في مستوى التكريم والتبجيل الذي خصهم به الله سبحانه وتعالى، إذ كانوا من المؤمنين السابقين الذين آزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحوا بالغالي والنفيس لأجل الدفاع عن حوزة الإسلام وتثبيت قيمه، فكانوا في طليعة كوكبه الشهداء المجاهدين، منهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ابن عم الرسول (ص) وزوج ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وأسد الله حمزة بن عبد المطلب سيّد الشهداء وعم الرسول (ص)، وجعفر "الطيار" بن عبد المطلب ابن عم الرسول (ص) والحسين بن علي بن أبي طالب سبط النبي (ص)... وغيرهم كثير.

لقد كان الرسول (ص) أبرز نموذج للعدل والإنصاف، فلم يثبت قط أنه خص أهل بيته بحظوة أو امتياز، بل عاملهم مثلما يعامل سائر المؤمنين ولذلك ألفيناه يخاطبهم قائلا: "يا آل محمد لا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني بالأنساب، اعملوا فإني لا أغني عنكم من الله شيئا"، وعملا بهذا التوجيه النبوي السني، نهض آل البيت بمسؤولياتهم وواجباتهم اتجاه ربهم ورسوله (ص) كأحسن ما يكون النهوض، فلم يتقاعسوا ولم يستغلوا قرابتهم من الرسول (ص) ولا مكانتهم ليظفروا بالغنائم والامتيازات، بل كانوا في طليعة المجاهدين والزاهدين، وبطلنا قثم بن العباس سار على هديهم وانتهج نهجهم فمن يكون قثم هذا؟

إنه الصحابي الجليل والشهيد المجيد، قثم بن العباس بن عبد المطلب، فنن من أفانين الشجرة الهاشمية المباركة، كان له من اسمه أكثر من نصيب، فقثم في اللغة معناه: الكثير العطاء بين الناس، وهل هناك من عطاء أكثر من أن يضع المجاهد روحه على سنان رمحه وسيفه؟

لقد جمع قثم المجد والفخر من أطرافه، فهو بدءا ابن عم الرسول (ص) وابن العباس بن عبد المطلب أحد بناة الدعوة الإسلامية، وأخوه لم يكن سوى عبد الله ابن عباس "حبر الأمة" و"ترجمان القرآن"، وينضاف إلى كل ذلك ما حباه الله به من شبه قوي بالرسول، وهذا ما يؤكده ابن كثير في "البداية والنهاية" إذ يقول: "كان أشبه الناس برسول الله (ص) "، ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقثم أخ في الرضاعة لريحانة الشهداء وسيد شباب الجنة، الحسين بن علي رضوان الله عليهما.

لا عجب أن يكون قثم بطلا مقداما فهو سليل بيئة ‘فطر أهلها على الفروسية والشجاعة والاستبسال، يدل على ذلك أنه كان من القلة القليلة التي ثبتت أقدامها بمحاذاة رسول الله (ص) في غزوة "حنين" الشائكة، فلم تحدثه نفسه بالفرار، بل لازم رسوله وقائده، ومن شدة حبه لابن عمه ورسوله كان أشد ما يكون حرصا على صحبته والخروج معه في كل غزواته، ولما اختار الله رسوله لينتقل إلى الرفيق الأعلى كان قتم بن العباس واحد ممن تولوا غسل جثمانه الطاهر وتكفينه وإنزاله في قبره، وهي مكرمة تنضاف إلى سجل هذا الصحابي المجاهد، يقول الطبري في تاريخه:" اشترك قثم بن العباس في غسل الرسول، وكان ممن نزلوا قبره وكان آخر الناس عهدا برسوله"، وفضلا عن صحبة الرسول (ص) كان قثم من رواة الحديث، إذ روى عنه أبو إسحاق السبيعي حديثا أخرجه النسائي، وطيلة حياته ظل قثم مثالا للتقي والورع والجهاد في سبيل الله، وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قد كلفه بتدبير شؤون المدينة، ثم ولاّه على مكة والطائف فيما بعد، وهذا أكبر دليل على أنه كان أهلا للثقة وقادرا على تحمل مسؤولية المسلمين، ولم يفت عليّا كرم الله وجهه وهو الخليفة العادل أن يرسم له خريطة الطريق في التعاطي مع شؤون الحكم فكتب إليه حينما ولاه على مكة يقول:

"أما بعد، فأقم للناس الحج وذكرهم بأيام الله، واجلس لهم العصرين، فأنت المستفتي، وعلم الجاهل وذكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك. ولا تحجبن ذا حاجة على لقائك فإنك إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها، وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيبا به مواضع المفاقر والخلات. وأمر أهل مكة ألا يأخذوا من ساكن أجرا فإن الله يقول: "سواء العاكف فيه والباد"، فالعاكف: المقيم به والبادي الذي يحج إليه من غير أهله، وفقنا الله وإياكم لمحابه والسلام" [نهج البلاغة]

فلله در ابن طالب من خليفة تقي مقتدر ! ولله در قثم من مناضل ومجاهد مغترب ! ضرب في أقاصي البلاد مدافعا عن شريعة الإسلام فانتهى به الأمر إلى خراسان من بلاد فارس، وظل في كل أحواله متمسكا بعورة التقوى والورع، إذ يروي "ابن سعد" في "الطبقات" أن سعيد بن عفان وهو والي خرسان آنذاك قال لقثم: "اضرب لك بألف سهم؟" فقال له قثم: "بل أخمس، ثم أعط الناس حقوقهم، ثم أعطني بعد ما شئت".

إنه مثال آخر لتقوى آل البيت، والمستنيرين بهدي معلّم البشرية محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وهو القائل: "من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، وعلى هذا النهج واصل قثم مسيرته الجهادية لينال نعمة الشهادة والاستشهاد في معركة سمرقند، وهناك وري جثمانه الثرى في السنة الخامسة والخمسين للهجرة، رحمه الله وأثابه وكل أل البيت الأطهار.

***

د. علي كرزازي 

في المثقف اليوم