شهادات ومذكرات

مكسيم غوركي.. سهروردي الأدب الروسي

عزيزي القارئ هل تتذكر العالم الصوفي الكبير "يحي بن حبش بن أميرك السهروردي- صاحب حكمة الإشراق الذي قتله السلطان صلاح الدين وكان صديقا حميا لابنه العادل، وهنا في هذا المقال أتكلم عن شبيهه في الأديب الروسي أليكسي مكسيموفيتش بيشكوف -والذي يشتهر باسم مكسيم غوركي (28 مارس 1868 - 18 يونيو 1936)  والذي يعدُّ واحدًا من أهم الأدباء في القرن العشرين، فهو الأديب والناشط السياسي الماركسي، ومؤسس مدرسة الواقعية الاشتراكية التي تجسد النظرة الماركسية للأدب، وهى النظرة التي ترى أن الأدب مبنى على النشاط الاقتصادي في نشأته ونموه وتطوره، وأنه يؤثر في المجتمع بقوته الخاصة، ولذلك ينبغي توظيفه في خدمة المجتمع.

خرج قبل أن يشتد عوده، وهام على وجهه في الموانئ والطرقات التي كونت جامعاته الأولي.. نفاه القيصر.. لكنه فرض نفسه على السلطة بالأدب.. جايل في بداية مشواره الكبار من أمثال تولستوي وغيره.. لكنه اختار الرطيق العصامي الذي يُعمل القلب والنية.. وسرعان ما يثور على الأفكار الجاهزة.. نال مكسيم غوركي شهرة عالمية في اوائل القرن العشرين، وهو لما يزل شابا في حوالي الثلاثين من عمره وأصبح واحداٌ من الكتّاب الأكثر مقروئية في روسيا والعالم، وفي العهد السوفيتي اطلق اسمه على المدن والشوارع والمصانع والجامعات والمكتبات والمسارح والمتنزهات وحتى بعض السفن والطائرات، ربما يتبادر الى الذهن اسماء بوشكين وجوجل وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف.

حقا كان هؤلاء الأدباء هم الأكثر شهرةً وأسماهم مكانةً في الادب الروسي، ولكن لم تطلق أسماؤهم على المدن، ولم يتم اقامة تماثيل لهم، ولم تدرّس أعمالهم في المدارس والجامعات، عندما كانوا على قيد الحياة.

وقد لد في نجني نوفجراد عام 1868، وأصبح يتيم الأب والأم وهو في التاسعة من عمره، فتولّت جدته تربيته، وكان لهذه الجدة أسلوب قصصي ممتاز، مما صقل مواهبه القصصية. وبعد وفاة جدته تأثر لذلك تأثرأ كبيراً مما جعله يحاول الانتحار. جاس بعد ذلك على قدميه في أنحاء الإمبراطورية الروسية، لمدة خمس سنوات غير خلالها عمله عدة مرات، وجمع العديد من الانطباعات التي أثرت بعد ذلك في أدبه.

وتعني كلمة جوركي باللغة الروسية "المر" وقد اختارها الكاتب لقبا مستعارا له من واقع المرارة التي كان يعاني منها الشعب الروسي تحت الحكم القيصري والتي شاهدها بعينه خلال المسيرة الطويلة التي قطعها بحثا عن القوت، وقد انعكس هذا الواقع المرير يشكل واضح على كتاباته وبشكل خاص في رائعته "الأم".

كان صديقاً لـ لينين الذي التقاه عام 1905 م توفي ابنه مكسيم بشكوف عام 1935 م، ثم توفي هو في 18 يناير 1936م في موسكو, وسط شكوك بأنهما ماتا مسمومين. سميت مدينة نجني نوفجراد التي ولد فيها باسمه "غوركي" منذ عام 1932م حتى عام 1990م.

لقد كان مكسيم غوركي ناشطًا سياسيًا ماركسيًا، وقد صنع البلاشفة منه أيقونةً تاريخية خالدة، وأرادوا منه أن يكون جثمان لينين يتبرك به الناس في الساحة الحمراء وسط موسكو، وخصوصًا بعد أن أعلنوا أن الإلحاد هو دين الدولة الرسمي، فالكاتب العظيم البروليتاري كان قد أسس المدرسة الواقعية الاشتراكية التي أصبحت المذهب الرسمي للاتحاد السوفيتي في الفن والأدب، وقد أسبغوا عليه كثيرًا من التعظيم بعد أن أصبح أحد أصدقاء فلاديمير لينين وجوزيف ستالين، وبذلك غدا مقربًا من كبار القادة في الدولة والحزب الشيوعي، وبما أنه كان إلى جانب الحزب قبل الثورة وساهمَ بكتاباته في دعم خطاهم السياسية، وقد وصل به الأمر أن هاجمَ مسرح موسكو لأنه قدَّم مسرحية الممسوسون لفيودور دوستويفسكي لأنها تدين الوحشية في النضال السياسي.

وقد حاول ستالين بكافة الوسائل أن يربط غوركي به ليستفيد منه في الأغراض الدعائية، واستدرجه من أجل العودة إلى الاتحاد السوفيتي بعد رحيله في عام 1921م بعد أن أصرَّ لينين على ذلك لأنه ضاق ذرعًا من مطالبه التي كان يدافع فيها عن المثقفين البرجوازيين من أمثال ألكسندر بلوك.

وبعد رحيله إلى ألمانيا أصيب بخيبة أمل كبيرة بالنظام الجديد والعنف الثوري الممارس فيه، ولذلك بدأت الشكوك تراود غوركي فيما يخصُّ سلامة النهج الثوري الاشتراكي، على الرغم من أنَّه كان من مؤيديها سابقًا، فعاش غوركي في ألمانيا حتى عام 1923م ثمَّ رحل إلى إيطاليا، وبعد دعوة من ستالين عاد زائرًا إلى روسيا متفقدًا أحوالها في عام 1928م، وشاهد منجزات الدولة الناشئة، فكتب عن ذلك عدة مقالات بعنوان في أرجاء الاتحاد السوفيتي أثارت عليه انتقادات كثيرة، في عام 1932م عاد مكسيم إلى روسيا للاستقرار فيها، وقد قدَّمت له الحكومة الكثير من المغريات حتى تمنعه من العودة إلى أوربا، فأخذ قصر المليونير ريابوشينسكي في العاصمة موسكو وقصر تيسيللي في القرم من أجل الاستشفاء، وجعل عليه فريقًا من الأطباء والحرس ورجال الأمن، فكانت إقامته أشبه بإقامة جبرية ومراقبًا في حركاته وسكناته، وذلك من أجل استغلاله في سيطرة الحزب على قطاع الثقافة، حيثُ صدر برعايته عدد من المجلات والصحف وتمَّ تأسيس اتحاد الكتاب وأصدر موسوعة الأدب العالمي، فكانت مسايرته للسلطة الشمولية أمرًا غريبًا على جميع من عرفوه آنذاك، وبقي إلى أن توفي في عام 1936م.

ولم تكن شهرة غوركي مصطنعة أبداً، ولا نتيجة للدعاية السوفيتية، وانما جاءت على نحو طبيعي وسريع بعد خطواته الأولى في المجال الأدبي في العهد القيصري. فقد نشر النقاد والباحثون خلال العقد الاول فقط من نشاطه الادبي (1892- 1902) ما يقرب من 2000 مقال وبحث عن أعماله. لم يكتب مثل هذا العدد من البحوث عن أي كاتب روسي آخر خلال تلك الفترة. وكان محل إعجاب وتقدير كبار الأدباء وبضمنهم تشيخوف وكورولينكو وليونيد اندرييف وبلوك وتسفيتايفا، والنخب المثقفة والقراء العاديين على حد سواء.

وبين عامي 1917 –1918 نشر في صحيفة "نوفايا جيزن التي كان يصدرها سلسلة مقالات تحت عنوان "أفكار في غير أوانها" ينتقد فيها البلاشفة نقداً لاذعاً. وأطلق على البلاشفة أسماء من قبيل "المتعصبون العميان" و"المغامرون"، وأدان بشدة العنف الفوضوي والقتل المجاني، والاعتقالات التي لا معنى لها. ودعا المثقفين الى توعية الشعب، كطريق وحيد للخلاص من العنف اللامبرر، وقد جمع غوركي هذه المقالات في كتاب صدر عام 1918. ولم تظهر طبعة جديدة منه، إلا في عام 1990.

ورغم الوضع الاقتصادي المتردي واصل غوركي عمله التنويري في تأسيس دور نشر تتولى ترجمة ونشر "الأدب العالمي". النفوذ المعنوي الهائل للكاتب أنقذ عشرات الأدباء والعلماء المبدعين من الإعدام ومئات غيرهم من الاعتقال أو النفي. ولكن محاولاته كانت تصطدم أحياناً بعناد السلطة، فقد أخفق في انقاذ الشاعر "غوميلوف" زوج الشاعرة "آنّا أخماتوفا" من الإعدام، ولم ينجح في إقناع السلطة بالسماح للشاعر العظيم الكساندر بلوك بالسفر الى ألمانيا للعلاج. وكانت نهاية بلوك المفجعة - الموت مرضا وجوعا - مؤلمة للكاتب الإنساني.

الموقف الذي اتخذه الكاتب في السنوات التي تلت ثورة اكتوبر، وخاصة دفاعه المستميت عن الأدباء والعلماء المضطهدين، أثار استياء البلاشفة، وفي مقدمتهم لينين الذي نصح غوركي عام 1921 بالسفر الى الخارج للمعالجة الطبية. وأضاف مازحاً: \"وبعكسه سنرحلك\". وادرك غوركي معنى \"نصيحة \" لينين وغادر البلاد على اثرها.

وفي يونيو/حزيران 1933 عاد بشكل نهائي وقام بالإشراف على اصدار سلسلة من الكتب بعنوان "مكتبة الشاعر"، ومجلتين "إنجازاتنا و"الدراسات الأدبية\". ساهم غوركي في الأعمال التحضيرية للمؤتمر التأسيسي لأتحاد الكتّاب السوفييت الذي انعقد في عام 1934. وضعت السلطة السوفيتية على الكاتب العالمي آمالاً كبيرة بوصفه شخصية قادرة على لمّ شتات التيارات الأدبية العديدة وتوحيدها في منظمة واحدة. في حين أن الكاتب نفسه كان بعيداً عن التفكير في السيطرة الشاملة على النشاط الأدبي.

وقد كانت علاقة غوركي مع ستالين معقدة، ولم يثر الزعيم الجديد إعجابه الذي شعر به إزاء لينين. وفي الوقت نفسه، من الواضح أن غوركي بدوره لم يحقق آمال ستالين، وقد خصصت الحكومة السوفيتية قصرا لغوركي في موسكو كان يعود الى أحد النبلاء الذين استولت البلاشفة على ممتلكاتهم، كما خُصص له منزل صيفي للاستجمام على ساحل شبه جزيرة القرم. استغرب العديد من الناس من الفخامة والرفاهية التي أحيط به الكاتب البروليتاري ولكن المنازل الفاخرة كانت في الحقيقة \"قفصاً ذهبياً\".

كان غوركي في العهد القيصري تحت مراقبة الشرطة، ولكن كان بإمكانه التواصل مع الجميع. والاحتجاج عبر الصحافة ونشر كتبه ومجلاته. اما في العهد السوفيتي، فأن أقرب أصدقائه لم يكن بوسعهم زيارته دون الحصول على موافقة أمنية مسبقة وقد أحيط قصره بحراسة مشددة ومنع الناس من الاقتراب منه كمنطقة محرمة.

في عام 1934، توفي ابنه الحبيب مكسيم، بشكل غير متوقع - كان السبب الرسمي المعلن للوفاة هو الالتهاب الرئوي المزمن - ولكن العديد من افراد عائلته، بما فيهم غوركي نفسه، لم يصدقوا ذلك، وأيقنوا أن موته كان مدبرا. وان هذا تحذير للكاتب الذي لم ينفذ طلب ستالين كتابة رواية سيرة ذاتية أو مسرحية عن \"أبو الشعوب\". ومنذ بداية عام 1935، كان غوركي قيد الإقامة الجبرية عمليا بذريعة \"ضمان سلامة الكاتب البروليتاري العظيم\". وكان هذا العزل تمهيدا لقتله. وفي عام 1935 طلب غوركي السماح له بالسفر الى المانيا أو ايطاليا للعلاج ولكن ستالين رفض ذلك.

وعلى الرغم من توجهات لينين الاشتراكية المتماشية مع سياسة الاتحاد السوفيتي، وصدقته للزعيم لينين، إلا أن هذا لم يشفع أمام النهاية المأساوية التى رحل فيها "جوركى".

ورحل مكسيم جوركى في 18 يونيو 1936، بعد أيام من إعلان الحكومة السوفيتية تردى حالته الصحية، لكن التقارير التي خرجت على مدار نحو أسبوعين بعد وفاته، اتهمت بأنها متناقضة وحافلة بالثغرات، مما جعل الكثيرون يرفضون فرضية الوفاة الطبيعة له،

تم تشريح جثة جوركي على عجل فور مفارقته الحياة، وعلى طاولة الطعام في بيته الريفي. تم استخراج الأحشاء وخياطة الجثة بخشونة، وتمّ رمي دماغ المتوفي في دلو و نقله الى معهد الدماغ في موسكو، وتقرير التشريح أشار  إلى أن الوفاة نجمت عن التهاب حاد في الفص السفلي من الرئة اليسرى، وقد تم حرق ما تبقى من الجثة وحفظ رمادها. كان ستالين في مقدمة من شارك في مراسم جنازة الكاتب وحمل نعشه، وقد تم دفن الرماد في جدار الكرملين على خلاف وصية غوركي بدفنه بجوار ضريح إبنه في مقبرة " نوفي ديفيتشه" في موسكو.

وفي مارس عام 1938 اتهمت الحكومة السوفيتية رسميا اعداء الشعب - الجناح التروتسكي داخل الحزب - بقتل جوركي. حيث جرت محاكمتهم والحكم عليهم بالاعدام. مرافعة المدعي العام السوفيتي خلال المحاكمة تضمنت تفاصيل (اعترافات) المتهمين وتحليلا للأسباب التي دفعت المتهمين الى قتل غوركي ووصفا لطريقة القتل، والمدعي العام كان متناقضا في مرافعته حول كيفية قتل الكاتب، فقد قال مرة انه قد تم تسميمه، ومرة قال إن الطريقة الخاطئة المتعمدة، التي عولج بها هي التي سببت المضاعفات وادت الى وفاة الكاتب.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

المراجع:

1- مكسيم غوركي: حياتي، ترجمة خليل حتي، دار المعرفة، بيروت، لبنان.

2- مكسيم غوركي.. نهاية مأساوية لكاتب عظيم، meo، مقال منشور بتاريخ السبت 2018/04/14.

3- مكسيم غوركي.. ويكبيديا.

4- محمد عبد الرحمن: نهاية مأساوية لمكسيم جوركى.. تعرض بعد موته لاستخراج أحشائه وإلقاء دماغه بدلو، اليوم السابع، مقال منشور بتاريخ السبت، 28 مارس 2020 05:00 م.

في المثقف اليوم