شهادات ومذكرات

جميل صليبا.. من غواص في الفلسفة العربية القديمة إلى رائد الفلسفة العربية المعاصرة

في مقال للأستاذ شحادة الخوري عضو مجمع اللغة العربية بدمشق بعنوان " الدكتور جميل صليبا" يقول فيه :" إن من شهد مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، تلك السنوات التي تلت نيل سورية استقلال وانزياح الاستعمار الفرنسي عنه بعد ربع قرن من الكفاح المتصل، يذكر جيدا تلك الآمال التي كانت تذخر بها القلوب، وذلك التشوق الحار إلى بناء دولة حضارية تعيش العصر بعلومه وآدابه وفنونه وإبداعاته، ولا سيما أنها تستضيئ بماضيها الزاهر حين كانت بلاد الشام موطن التقدم، والمعرفة، ومهدا للمدنية والقيم الإنسانية والروحية ؛ وفي هذا الجو انطلقت طليعة من المثقفين الذين درسوا في مدارس الشام وأتقنوا لغتها وتمثلوا ثقافتها – ولا سيما من أتيح لهم أن يكتسبوا العلوم الحديثة في ديار الغرب – ووضعوا جميع قدراتهم الفكرية والعملية لتحقيق النهضة المنشودة.. ومن منا لا يذكر الدكتور "كامل عياد"، والدكتور " أحمد السمان"، و" حكمت هاشم"، و" نظيم الموصلي، والدكتور " جميل صليبا"، ذلك المفكر النابه الذي درس الفلسفة العربية – الإسلامية، وتعمق في دراستها، وكتب فيها، وحقق بعض كتبها، وعمل على إدخال تدريسها في برامج التعليم الثانوي في سوريا منذ ثلاثينيات القرن المنصرم.

كما شهد  له مفكرون آخرين بأنه يعد أول عربي سوري يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم الإنسانية إذ قدم إلى جامعة باريس أطروحة الدكتوراه عام 1926 بعنوان دراسة في ميتافيزيقية ابن سينا ثم قدم أطروحته المكملة بعنوان نظرية المعرفة على مذهب المدرسة الاجتماعية الفرنسية فمنحته جامعة السوربون درجة الدكتوراه في الآداب قسم الفلسفة.

وقد ترك المفكر جميل صليبا المولود عام 1902 والذي تصادف ذكرى ولادته في السابع من شباط العديد من الآثار المهمة بلغت خمسة وعشرين مؤلفا في ثلاثة مجالات هي التأليف والترجمة والتحقيق ومن أبرز مؤلفاته.. المعجم الفلسفي وتاريخ الفلسفة ومحاضرات في الفلسفة العربية ومن الخيال إلى الحقيقة وعلم النفس والاتجاهات الفكرية في بلاد الشام واتجاهات النقد الحديث في سورية.

ويأتي اهتمام الدكتور جميل صليبا بالتراث العربي لكونه أحد العناصر الثلاثية التي شكلت هاجسا عند رواد الفكر العربي في القرن العشرين التي تتجه إلى الهوية متمثلة بالتراث وإلى الحاجة إلى الآخر المتطور للاستفادة من تجربته وإلى الذات الحاضرة في خصوصية احتياجاتها ومتطلباتها وهمومها.

ففي سنة 1949 نشر جميل صليبا في الجزء الثاني من المجلد الرابع والعشرين لمجلة المجمع العلمي العربي مقالا بعنوان " موقفنا من الفلسفة " قدم له بتوطئة عامة قال فيها :" لم يمضي على نقل العلوم الفلسفية إلى اللغة العربية إلا القليل حتى عكف العرب على شرح معانيها والنسج على منوالها، فأبدعوا لأنفسهم فلسفة خاصة مشبعة بعقائدهم الدينية، وميولهم الاجتماعية والسياسية، حتى نٌقلت هذه الفلسفة إلى الغرب، وسيطرت على التفكير الأوروبي حتي نهاية القرن الخامس عشر، إلا أن الدولة العربية لما غُلبت على أمرها، وتسلط عليها الأتراك والبرابرة ركدت بها ريح العمران، واضمحلت منها حرية الفكر، وأُتهم الفلاسفة في صدق إيمانهم وصحة عقيدتهم، وحاربتهم الخاصة والعامة. فالغزالي هدم فلسفة ابن سينا واتُهم صاحبها بالكفر والزندقة، وابن رشد نُكب في المغرب وأُحرقت كتبه.. وابن خلدون نفسه كتب فصلا هاما في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها، وما زال العلماء والمحدثون ينتقدون الفلاسفة، حتى صارت كلمة فلسفة مرادفة في أذهان العامة للثرثرة والتمويه والإلحاد، والفيلسوف عندهم هو الرجل الذي يلوك الكلام، ويأتي بالأفكار الشاذة، ويعرض نفسه للهزء والسخرية. ولم تسترد الفلسفة بعض ما فقدته من الرواج والانتشار إلا في أيامنا الأخيرة، إذ عكف المترجمون على نقل كتبها من اللغات الأوربية الحديثة، وأخذ الكتاب والعلماء والمثقفون يعنون بها عنايتهم بفروع العلوم الأخرى. وكان من نتائج ذلك أن اتسعت الحركة الفلسفية في العالم العربي الحديث، وأقبلت الصحف والمجلات على نشر المقالات الفلسفية، وما زال القراء إلى مطالعة ما يفهمونه وما لا يفهمونه منها...".

ثم عرض جميل صليبا موقفنا من الفلسفة العربية فقال :" لا شك أن الإعراض عن الفلسفة العربية القديمة ليس في مكنتنا، لأن هذه الفلسفة قد نفذت إلى نفوسنا، وبدلت أفكارنا وعقولنا، وهي فلسفة عقلية وتوحيدية وروحانية معا. من مبادئها الأساسية أن الحقيقة الدينية لا تختلف عن الحقيقة الفلسفية، وان الحكمة هي صاحبت الشريعة وأختها الرضيعة... ولا شك أيضا في أن الأخذ بالفلسفة العربية بأصبارها لا يتفق ومبادئ العلم الحديث، ففي الفلسفة العربية أمور كثيرة لا تصلح لتوجيه تفكيرنا ولا لتنظيم حياتنا المعاصرة.. لذلك كله كان من العبث الأخذ بالفلسفة العربية القديمة بأصبارها. إن هذه الفلسفة يجب أن تُدرس كما تُدرس سائر الاتجاهات الفكرية القديمة لا للإفادة منها في توجيه سلوكنا، ولكن لاستكمال ثقافتنا الفكرية، واطلاعنا على ماضينا وتعريفنا بأنفسنا، وتوضيح تطور أفكارنا. فإذا شئنا أن تكون لنا فلسفة عربية حديثة تأتلف وميولنا، وحاجاتنا الحاضرة، وجب علينا أولا دراسة الفلسفة العربية دراسة تاريخية لتأمين الاتصال بين اتجاهاتنا الفكرية الحديثة وعبقريتنا القديمة.

وأما عن موقفنا من الفلسفة الغربية، فيقول جميل صليبا:" لا بد ها هنا من اتباع الطريق الذي سلكناه في تحديد موقفنا من الفلسفة وهو: التعريف بهذه الفلسفة أولا، ثم نقدها وتحليها.. ينبغي لنا أولا ترجمة أمهات الكتب من الفلسفة اليونانية القديمة، كفلسفة أفلاطون وأرسطو وغيرهم. إن الكتب العربية القديمة المترجمة عن اليونانية كثيرة الإبهام والتعقيد... فقد حُكي عن الفارابي أنه قرأ كتاب النفس لأرسطو مئتي مرة من غير أن يُفهم ما فيه... ومن نظر في كتاب "قاطيغورياس" الذي ترجمه " حنين بن إسحق" وجد فيه من الغموض وركاكة الأسلوب ما يدعوه إلى قراءته عشرات المرات... وينبغي لنا ثانيا لأن نترجم أمهات الكتب من الفلسفة الغربية الحديثة ككتب جون لوك ودبكارت، وليبنتز، وهيوم، وهيجل، وشوبنهاور، وأغوست كونت، ونيتشه، وبرغسون، وغيرهم. إن هذه الترجمة ضرورية لنا اليوم أكثر من الدراسات التحليلية المقصورة على التعريف بالفلاسفة الغربيين... ومن شروط الترجمة أن تُنقل الكتب من اللغة الأصلية التي كُتبت فيها، لأنها إذا نُقلت عن لغة ثانية كان ذلك باعثا على غموض الأفكار وتحريفها وبُعدها عن الضبط. دع  أن المترجمين لا يحسنون الاختيار، فيترجمون ما يصل إليهم من الكتب على غير هدى من غير أن يكون لها قيمة حقيقية... فمن الضروري إذن وضع برنامج واسع لترجمة الكتب، تتولي اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية الإشراف عليه، ثم توزيع العمل على المختصين في مختلف الدول العربية لتنفيذه وإنجازه... وقد يقال إن في العالم العربي أنواعا من الفلسفة لا تأتلف وعبقرية الأمة العربية، وإن نقل هذه المذاهب إلى لغتنا قد يؤدي إلى استهواء الكثير من الناس، وإدخال الفوضى على العقائد الموروثة. فنقول ردا على ذلك : إن نقل المذاهب المختلفة لا يؤدي بالضرورة إلى الأخذ بها ؛ ففي الفلسفة الأوربية مذاهب روحانية ومذاهب مادية، كما أن فيها مذاهب خيالية ومذاهب وجودية، وهي تتهافت ويهدم بعضها بعضا كما تتساند وتتعاون. فإذا تُرجمت كلها معا استطاع القارئ العربي أن يقارن بينها، وان ينقدها ويحللها ويكون لنفسه بعد ذلك رأياً شخصيا فيها... أضف إلى ذلك أن الفلسفة الغربية ليست مضادة لعبقريتنا، فهي قد تولدت من الفلسفة اليونانية كفلسفتنا القديمة، وكان للفلسفة العربية نفسها أثر عميق في نشأتها.. إن القديس "توما الإكويني"، " غيوم دوفرني " و" روجه باكون" قد أخذوا كثير عن ابن سينا وابن رشد حتى إن إعجاب " غيوم دوفرني " بهما كان لا يقل عن إعجابه بأرسطو... وجملة القول : ينبغي أن يكون موقفنا من الفلسفة الغربية كما كان موقف أجدادنا من الفلسفة اليونانية، وهو موقف إيجابي يدعو إلى ترجمة الفلسفة الغربية، والأخذ بكثير من مسائلها، ثم تأليف عناصرها في قوالب عربية مستوحاة من ماضي الأمة وحاضرها.

ويحتم جميل صليبا مقاله بالحديث عن موقفنا من الفلسفة بصورة عامة فقال :" وها هنا إشارة لا بد من ذكرها في آخر هذا المقال، وهي أنه ينبغي لنا في كل ذلك أن تجنب التقليد المحض. إن مجلاتنا الشهرية طافحة بالمقالات الفلسفية، كما أن دور النشر تصدر في كل شهر كتابا فلسفيا موضوعا أو مترجما، إلا أن هذه الزيادة في الإنتاج لا تدل على إبداع حقيقي، لأنها زيادة وهمية مبنية على التقليد.. لقد أصبح البحث في المسائل الفلسفية عندنا زياً من الأزياء، وقلما وجدت كاتبا لم يكن له في هذا الباب باع طويل، وهذه الظاهرة تدل على أن القارئ العربي يرغب اليوم في مطالعة الموضوعات الفلسفية، وزوال رسومها من ربوعنا. ولكن معالجة هذه المسائل لا تتعدي الآن طور التقليد الأعمى. إننا نقلد الغربيين في كل شئ، نقلدهم في الأزياء، كما نقلدهم في الأفكار والعواطف. نعم قد يكون التقليد ضروريا في المراحل الأولي من الحياة الفكرية، إلا أنه إذا طال أفقد الفكر روعته وإبداعه، فإذا شئنا أن تكون لنا فلسفة عربية حديثة دال على عبقريتنا وجب علينا أولا أن نتجنب التقليد الأعمى، وأن نسمو إلى يفاع الاستبصار والإبداع.

لم يكتف جميل صليبا بذلك بل رأيناه في كتابه " الفكر العربي في مائة عام " ينادي بفكرة وجود فلسفة عربية معاصرة لها تياراتها، حيث ينادي منذ عام 1966 بوجود قائمة بالتيارات والاتجاهات الفلسفية في الوطن العربي، وهي تتمثل في سبعة تيارات أو اتجاهات رئيسية في ذلك الحين : التيار الأول ممثلا في فكر شبل شميل (1890- 1917)، وهو ما يطلق عليه "الدارونية العربية"، والتي يمكن أن يدرج في عددها كما يقول صديقنا الدكتور أجمد عبد الحليم كل من سلامة موسي وإسماعيل مظهر وغيرهم. والتيار الثاني هو تيار العقلانية كما فهمها مفكرون عرب أمثال الإمام " محمد عبده" (1845- 1905)، ومحمد فريد وجدي (1845- 1958)، وأن كان موقفهما أقرب إلي الموقف الديني منه إلى الموقف العقلاني. ويندرج في هذا الاتجاه العقلاني موقف الأستاذ " يوسف كرم " ؛ وكان أكثر أساتذة الجيل السابق يدخلون في عداد هذا النمط من العقلانية. اما التيار الثالث فهو تيار المثالية وفيه نجد : وجدانية العقاد، وجوانية عثمان أمين، ورحمانية زكي الأرسوزي. والتيار الرابع هو التيار الوجودي لدي عبد الرحمن بدوي، والسادس هو الشخصانية أراده أصحابه ردا على الوجودية من جهة، والماركسية من جهة أخرى، وأصحاب هذا التيار " رينيه حبشي"، " محمد عزيز الحبابي". والتيار السابع هو تيار الاتجاهات العلمية بدئا من " يعقوب صروف" حتى " زكي نجيب محمود".

وقد توفى صليبا في 12 تشرين الأول 1976 في بيروت وشيّع في السادس عشر منه في دمشق بمأتم مهيب رسمي وشعبي. وقال المؤرخ قسطنطين زريق في تأبينه في جامعة دمشق: "ما أكثر ما حصّل وما أغزر ما أعطى". وقال فيه فؤاد شباط عميد كلية الحقوق آنذاك إنه "باقة لافتة متنوعة من الشهادات".انتقت له مهاة الخوري – والخيار صعب – بعض أجمل ما كتب في مختلف الأنواع الأدبية والفلسفية.

وفي مقال بعنوان " عاطفة ووفاء"، نشر في جريدة الثورة عام 1976 تقوم مها الخوري وهي ترثي جميل صليبا فتقول :" إن يكيتك يا أبا حبيب، فلأنني فردا من أفراد هذه الأمة... من هذا الوطن الذي يعز عليه فقدان رجالاته ومفكريه وعظمائه وعلمائه.. إن عز علينا فراقك يا أيها العربي الكبير، فلأننا فقدنا فيك أبا وعميدا وموجها.. إن شيعناك يا أيها المعلم، بمهابة وخشوع، فلأننا فقدنا الوجه المهيب والاتزان والعقل الراجح.. وإن رفقناك إلى مثواك الأخير ببساطة ووقار وتؤدة فلأنك قدست البساطة وبعدت عن كل فخفخة وعظمة.. فتحية عطرة نقول فيها لن ننساك يا آبا حبيب.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركر دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

***

المراجع:

1- د. أحمد عبد الحليم : ما بعد المشاريع الفلسفية العربية من التيارات والمشاريع إلى

2- التجارب والبرامج الجديدة، حوليات جامعة قالمة للعلوم الاجتماعية والإنسانية، Volume 9, Numéro 4, Pages 1- 29

3- مها فرج الخوري: الدكتور جميل صليبا رائد الفلسفة العربية المعاصرة، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، سوريا، ط1، 2014.

4- مهاة فرح الخوري :تذكّرت جميل صليبا 'رائد الفلسفة'.. النهار، 3/31/22.

5-  أنظر مقال جميل صليبا... وعالم سوري بامتياز -  مؤسسة الوحدة، منشور بتاريخ Jan 12, 2015

في المثقف اليوم