شهادات ومذكرات

كارلوس زافون.. تنين برشلونة الوفي

الياس ابوالرجاء"نحن نستمر في الحياة في ذاكرة من يحبّنا"، كلمات وردت في رواية ظل الريح لكارلوس زافون، وكأنها تصف حاله بعد أن عصفت به رياح الحياة بعيدا عن عالمنا في يونيو 2020، إلا أن كتبه أبقته حيا في ذاكرة كل قارئ استنشق قليلا من إبداعات زافون فأدمنها.

كارلوس رويث زافون، روائي إسباني، حظيت برشلونة بشرف استقباله بعدما ولد بأحد مستشفياتها في  الخامس والعشرين من شتنبر  عام 1964، الذي يصادف عام التنانين حسب التقويم الصيني، وهو ما يفسر عشق زافون لهذه المخلوقات، إذ سبق وصرح أن له قواسم مشتركة مع التنانين: مخلوقات الليل، غير اجتماعيين، يصعب التعرف عليهم. وله أكثر من 400 تمثال لتنانين متنوعة. أصدر روايته الأولى للبالغين بعنوان ظل الريح والتي بيعت منها ملايين النسخ في جميع أنحاء العالم. وأكثر من مليون نسخة في بريطانيا وحدها. ترجمها إلى العربية معاوية عبد المجيد. وقد نشرت أعماله في 45 دولة وترجمت إلى أكثر من 40 لغة مختلفة.

عاشت أسرته في بيئة متواضعة، إذ كان والده يعمل وكيلا في شركة تأمين. بدأ زافون يداعب القلم والورق منذ أن كان صغيرا، أصابته حياة التلميذ بالملل حيث وصفها بالرمادية وغير الملهمة، لذلك بدأ بتأليف قصص الرعب ونسخها بآلة تصوير والد صديقه، وفي سن 15 عاما، استطاع زافون كتابة رواية من 600 صفحة، أرسلها لعدة ناشرين لكن الرواية لم تنشر. استمر زافون في خط كل ما يجود به خاطره دون تفكير جدي في نشره.

السينما والإنتاج السمعي البصري كانا من أهم اهتماماته بعد إنهائه المدرسة، إلا أن عدم وجود كلية بهذا التخصص حال بينه وبين ما كان زافون يميل إليه، فسلم نفسه لأرجوحة الحياة التي ألقت به بعيدا في تخصص سرعان ما أدرك أن طريقه مسدود فيه، ليعرض خدماته على العديد من وكالات الإعلان عله يجد ضالته هناك، اشتغل لسنوات عديدة في مجال الإعلان وعن هذه التجربة صرح زافون ل"واشنطن بوست" : "أصبحتُ مبدعًا مطلوبًا جدًّا، وكنت أتقاضى من المال أجرًا لا يتقاضاه إلّا القتلة في عالم الجريمة المنظّمة أو نجوم أغاني الروك. لكنّي كنت أكره ذلك العمل. كنت أكره نفسي لأنّي أقوم بذلك العمل."

ترك زافون مجال الإعلان بملء إرادته ليتفرغ للكتابة، كان يعيش في شقة بمفرده في أحد أحياء برشلونة، ليجد نفسه داخل غمار كتابة رواية في محاولة للتعافي من تقلبات الحياة السابقة. أولمبياد برشلونة، هدوء الليل وسحر أَضواء برشلونة، كلها كانت عوامل إسهام في إنتاج أولى روايات زافون "أمير الضباب"، وباقتراح من صديقته، تقدم للمشاركة في مسابقة أدب الناشئين والأطفال Edebé التي توج بها لاحقا، لتشهد مبيعات رواياته ارتفاعا قياسيا منذ ذلك الحين.

ولأن زافون لا يهنأ بنجاحاته طويلا، فعلى غرار تركه لمجال الإعلان الذي نجح فيه، سرعان ما انسل من نجاحه في عالم الرواية، ليقرر ترك برشلونة وذكرياتها خلفه ولو إلى حين، فكانت الوجهة لوس أنجلوس للعمل في كتابة سيناريوهات الأفلام والمسلسلات، لم يكتف زافون بهذا التغيير المهم في حياته، بل تزوج من فتاة أحلامه أياما فقط قبل سفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكن العمل في مجال السيناريو لم يكن مثلما تخيله: «كان ينتهي بي المطاف دومًا للتفوه بأمور خاطئة خلال الاجتماعات. وكنت أفكر: “سيقرؤونها في عينيَي عاجلًا أم آجلًا، وسيدركون أنني أعرف بأني تفوهت بأمر غبي حقًا" . هكذا وصف زافون تجربته في مجال السيناريو في أحد الحوارات.

الكتابة لم تنفصل يوما عن كارلوس زافون، بل بقيت لصيقة أو التصق بها حتى وهو في شقته المطلة على علامة هوليود الشهيرة، فاستمر في تأليف روايات اليافعين الت تدور أحداثها في مدن مختلفة حول العالم، إلى أن قرر كتابة رواية للبالغين، فكانت برشلونة أول ما فكر فيه، مؤكدا قولة الكاتب الأرجنتيني روبرتو أرلت:"من لم تلهمه الحارة التي عاش فيها لن يلهمه أي مكان آخر في العالم، ومن صار أعمى في المكان الذي ولد فيه سيصير أعمى في بوينس آيرس وفي برشلونة وفي باريس"

مكتبة كتب مستعملة في لوس أنجلوس، كانت الأساس الذي بنيت عليه رباعية ستشكل إضافة نوعية للأدب العالمي، إذ هي المكتبة التي جعلت كاتبنا يفكر أنه يوجد في العالم أشياء ثمينة يتم نسيانها في مكان ما، راسما هذه الفكرة في ذهنه بمجموعة من المتاهات والأنفاق وهي طريقته في تخيل الأشياء على حد قوله، وربطها بمدينة برشلونة، مشكلا بذلك مقبرة الكتب المنسية. والتي قال عنها زافون أنها طريقة لإخبار القراء المحتملين حول العالم أنه عندما يتعلق الأمر بالأدب، عليك تجربة كل شيء. انطلق، خذ كتابًا عشوائيًا، في أسوأ الأحوال قد لا يعجبك. ولكن بخلاف ذلك، قد يأخذك الأمر إلى أماكن لم تجرؤ حتى على تخيلها.

أولى ثمرات المقبرة كانت "ظل الريح"، القصة المكونة من قصص كثيرة، وتمزج بين عناصر كثيرة كالهزل والغموض وقصة الحب والخيال التاريخي. يقول الكاتب الأمريكي ستيفن كينغ عن الرواية "من الصعب أن يعثر القارئ على رواية تحتوي على هذا القدر من العواطف والمآسي والإثارة مثل رواية ظل الريح". فهي تجمع بين الكثير من الأنواع الأدبية، للوصول إلى نوع جديد يقدم كل تلك الأشياء معاً. ما جعلها الرواية الأكثر نجاحا في إسبانيا بعد "دون كيشوط" سيرافنتيس.

لم يكن نجاح باقي أجزاء الرباعية أقل من "ظل الريح"، فاستمر زافون في إبهار جمهوره بكتاباته الخيالية والمثيرة في كل جزء من "مقبرة الكتب المنسية"، واستمرت معها أرقام المبيعات في الصعود، حتى أصبحت أعماله الأكثر قراءة في إسبانيا والعالم، وهو الذي كتب عن برشلونة في لوس أنجلس وعن ذلك يقول :"أستطيع تذكُّر أشياء دقيقة مثل المناظر العامّة وكثافة الضوء. ولقد تشرَّبتُ برشلونة إلى الأبد، لا أحتاج إلى خارطة".

يعتبر زافون البيانو العنصر الأهم في شقته، فكلما استعصت عليه شخصية وأتعبته أثناء إدخالها في حبكته المعقدة والمتشابكة، يجلس إلى البيانو ويباشر العزف حسب قوله. وحين يؤلف الموسيقى، يكتشف أسرارا جديدة في شخصياته كانت خافية عليه. فهو يرى أن تأليف كتاب يشبه تأليف الموسيقى.

زافون عرف كثيرا بموقفه اتجاه تحويل رواياته إلى أفلام، فعندما تقرأ رواياته خاصة رباعية مقبرة الكتب المنسية تجد نفسك تشاهد فيلما ترسم مخيلتك شخصياته بمساعدة زافون، إلا أنه كان يرفض قطعا فكرة تحويل رواياته إلى أفلام، معللا ذلك بقولـه:" إنَّ معالجة أعمالي تعد بمثابة خيانة لها  إن لمستها انفجرت. لا أحد بإمكانه تعديلها لأن لا أحد يعرف كيف بنيت لتظهر بهذا الشكل. فيها عوامل كثيرة مشدودة إلى الحد الأقصى. قد تنفجر".

صاحب النظارات المدورة، يصف الكتابة أنها عمل شاق وصراع من أجل ولادة كلمات تشكل معنى، فحتى الإلهام الذي يقوده إلى ذلك ليس سهل المنال كما يدعي البعض، إذ شبه نفسه بسمكة قرش تدور حول فريستها عند اكتشافه لقصة، فزافون لا يكتب لنفسه بل للآخرين.

رحل كارلوس زافون عن الحياة بسبب السرطان، تاركا وراءه إرثا كبيرا وكنزا ثمينا لكل قارئ، سيحتفظ بكتبه داخل مقبرة الكتب المنسية حتى لا يصيبها التلف، ويلاحق كلماته كظل الريح، فرواياته  الممتعة هي بمثابة لعبة الملاك، والأكيد أن زافون ليس سجين السماء بل هو ضيف على متاهة الأرواح.

***

إلياس أبوالرجاء 

 

 

 

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم