شهادات ومذكرات

جورجي زيدان.. المؤرخ اللبناني التنويري كما يراه القراء

3558 جرجي زيدانبعد أكثر من قرن على رحيل المؤرخ والأديب اللبناني جرجي زيدان (توفي عام 1914م)، لاتزال أشكال الجدل والنقاش التي قدمها إرثه الفكري والإبداعي حاضرة وفعالة، هذا الإرث الذي شكل إحدى العلامات الفارقة في سعي المثقفين العرب نحو الحداثة. كتابات زيدان اعتادت منذ صدورها وحتى الأن، على إثارة حالة من حالات الجدل والصخب، لما احتوته من رؤى نقدية جديدة وجريئة تجاه السرديات التراثية الإسلامية، والتي اعتاد الكثيرون على النظر إليها على كونها نصوصاً مقدسة لا يجوز أن يتم المساس بها.

وجرجي زيدان هو صحافي وكاتب لبناني، من جيل روّاد النهضة العربيّة الحديثة، هاجر إلى مصر واستقرَّ بها، وأسَّس هناك مجلّة (الهلال) عام 1892. جاء معظم إنتاجه الأدبي والفكري على شكل مقالات متتابعة، وكان يعمد، بعد اكتمال كلّ موضوع، إلى جمع المقالات وتنقيحها وإخراجها في كتب. تسنَّمَ زيدان مكانته في الأدب العربي الحديث، من خلال إسهامه في كتابة عدد كبير من الروايات التاريخية التي جعلت منه رائد هذا النوع من الكتابة، وقد أراد بها – كما يذكر – تعليم التاريخ العربي للأجيال الصاعدة، من خلال قالب روائي يسرد فيه أحداث التاريخ، ويملأ فراغات أحداثه بقصّة غرامية متخيَّلة لشدّ انتباه المتلقّي.

كما تعد حياة جورجي زيدان نموذجًا للعصامي الذي يشق حياته وسط طريق ملبد بالغيوم مليء بالثغرات، فيجتاز ذلك بالهمة العالية والإرادة الصلبة، والتطلع إلى المعالي، لا يصرفه عن ذلك فقر حل به، أو ظروف معاكسة، أو بيئة غير مواتية، يأتي إلى القاهرة فقيرا لا يملك من الدنيا شيئا، فيصنع لنفسه حياة عريضة وشهرة واسعة في ميدان الصحافة والأدب والتاريخ، فضلا عن كونه أحد أوائل رواد الثقافة في الوطن العربي، والذى أنشأ مؤسسة تفيض نورا وثقافة وإعلاما وترفيها لجموع العرب، هي مؤسسة الهلال الصحفية، وصاحب إصدار أقدم مجلة ثقافية في الوطن العربي على الإطلاق مجلة الهلال.

ولد جرجي زيدان في لبنان عام 1861 في عائلة فقيرة، وعمل في البداية مساعدا لوالده في المطعم الذي كان يمتلكه، وكان لطبيعة الناس الذين يرتادون مطعم والده من صحفيين ومثقفين وأكاديميين الأثر الكبير على إثارة شغف زيدان بالعلم والمعرفة و خاصةً الأدب، ودرس الطب لعام واحد وهاجر بعدها إلى القاهرة، بعد وصوله إلى القاهرة غير رأيه في  دراسة الطب وبدأ بالعمل محررا في صحيفة (الزمان) اليومية، بعدها عين مترجما في مكتب المخابرات البريطانية في القاهرة.

وعاد إلى بيروت عام 1885 وانضم إلى المجمع العلمي الشرقي الذي تم إنشاؤه عام 1882، أصدر أول كتبه عام 1886 وهو بعنوان (تاريخ اللغة العربية)  وسافر بعدها إلى لندن و عاد منها إلى القاهرة، حيث تسلم إدارة مجلة المقتطف قبل أن يقوم بإنشاء مطبعة خاصة به إلى جانب نجيب متري وبعد فترةٍ قصيرة انفصل عن متري واحتفظ بالمطبعة وأطلق مجلته الخاصة الهلال.

وبعد وصول جرجي زيدان إلى القاهرة، بدأ العمل في تحرير جريدة الزمان التي كان يمتلكها رجل أرمني الأصل، وكانت هذه الجريدة هي الوحيدة في القاهرة بعد أن أوقف الاستعمار البريطاني جميع الصحف في تلك الفترة، ثم عمل مترجما في مكتب المخابرات البريطانية في القاهرة ورافق الحملة البريطانية التي توجهت إلى السودان لإنقاذ القائد الإنجليزي "غوردن" من حصار جيش المهدي، وبعد رحلة استمرت عشرة أشهر عاد إلى بيروت عام 1885 وانضم إلى المجمع العلمي الشرقي الذي أنشئ عام 1882 كما تعلم اللغة العبرية و اللغة السريانية الأمر الذي مكنه من تأليف أول كتاب وهو (فلسفة اللغة العربية) عام 1886 والذي مثل أو محاولة واضحة لتطبيق مبادئ فقه اللغة المقارن على اللغة العربية، ولأن العمل كان يفتقر إلى العمق، أصدر زيدان طبعة جديدة منقحة عام 1904 بعنوان (تاريخ اللغة العربية).

زار زيدان لندن وتردد على مكتباتها ومتاحفها ومجمعاتها العلمية وعاد بعدها إلى القاهرة ليتولى إدارة مجلة المقتطف حيث بقي فيها ما يقارب العام ونصف العام، وقد قدم استقالته من المجلة ليعمل في تدريس اللغة العربية في المدرسة العبيدية الكبرى لمدة عامين، وقرر إلى جانب نجيب متري إنشاء مطبعة خاصة، لكن الشراكة لم تستمر أكثر من عام انفصلا بعدها ليحتفظ زيدان بالمطبعة حيث أطلق عليها اسم الهلال فيما أسس متري مطبعة أخرى وهي مطبعة المعارف.

أصدر زيدان مجلة الهلال التي كان يحررها بنفسه، وبعد أن كبر ولده إيميل كان يساعده في ذلك،  وصدر العدد الأول من المجلة عام 1892 وحمل افتتاحية بقلم جرجي زيدان موضحا من خلاله خطته وهدفه من إنشاء هذه المجلة، وبسبب نشاطه وعمله المتفاني، تمكن من جذب الأنظار إليه حتى غدت المجلة خلال خمس سنوات من أوسع المجلات انتشارًا، وقدم جرجي من خلال مجلته مجموعة من كتبه وأعماله الأدبية على شكل فصول متفرقة، وخلال مائة سنة من حياته كتب فيها عدد كبير من أعظم المفكرين العرب.

وفي إطار هذا الدور التنويري، بدأت رحلة جرجي زيدان الفكرية والإبداعية في النصف الثاني من ثمانينيات القرن التاسع عشر، وذلك عندما قام الكاتب اللبناني بالبدء في تأليف العشرات من الكتب التي تنوعت اختصاصاتها وتعددت مجالاتها، ما بين التاريخ والجغرافية واللغة العربية والاجتماع والأدب الروائي، بجانب عمله في رئاسة تحرير دار الهلال.

فمن بين أهم الكتب التي ألفها زيدان في مجال التاريخ، كتاب تاريخ التمدن الإسلامي الذي نشره في 1902م، والعرب قبل الإسلام المنشور في 1908م، وأنساب العرب القدماء المنشور في 1906م؛ أما فيما يخص الجغرافية فله كتاب مختصر جغرافية مصر الذي نشره في 1891م، وبالنسبة للغة العربية فقد نشر كتاب تاريخ اللغة العربية في 1904م، وتاريخ آداب اللغة العربية في 1911م. ومع كل تلك الأعمال والمصنفات، فإن حقل الرواية التاريخية، يبقى هو أهم الميادين الفكرية التي تميز فيها زيدان ونال من خلالها شهرة ومكانة أدبية كبيرة في زمانه، حيث قدم زيدان سلسلة من الأعمال الروائية التاريخية التي سماها باسم روايات تاريخ الإسلام، وهي عبارة عن اثنين وعشرين رواية، حاول من خلالها زيدان أن يتناول تاريخ الإسلام منذ بدء الرسالة وانتشار الإسلام في العهد النبوي، وحتى مراحل ضعف وتردي السلطنة العثمانية، وعزل السلطان عبد الحميد الثاني في بدايات القرن العشرين. حاول الأديب اللبناني في كل رواية أن يرسم خطوطاً درامية تتقاطع أحداثها مع الوقائع التاريخية المُثبتة في المصادر التاريخية الإسلامية القديمة، كما عمل على اختيار لحظات تاريخية معينة لمناقشة الأفكار والرؤى التي أراد طرحها. ففي رواية 17 رمضان، يناقش زيدان مسألة الحرب الأهلية ما بين المسلمين وبعضهم البعض في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، وفي رواية غادة كربلاء، يتعرض الأديب اللبناني لأحداث مقتل الحسين بن علي وأهل بيته في واقعة الطف على يد الأمويين، أما في رواية الحجاج بن يوسف، فيحكي عن مأساة ضرب الكعبة بالمنجنيق وتهديمها ومقتل عبد الله بن الزبير ووصول عبد الملك بن مروان لكرسي الخلافة.

وهنا نلقي الضوء على مؤلفات جرجي زيدان، مستعرضين أهم الآراء التي تناولتها بالنقد من جهة أو بالإشادة والإعجاب من جهة أخرى.

فالكثير من مؤيديه دفعوا عنه تهمة اتباع المستشرقين والاستعمار الأوروبي، مستشهدين بتسميته لدار النشر خاصته، بالهلال، تيمناً بالهلال العثماني، حيث كان اختيار هذا الاسم تحديداً مبيناً لهوى زيدان العثماني وميله للثقافة الإسلامية وانتسابه إليها. فعلى سبيل المثال، يشهد له المنفلوطي في كتابه النظرات، فقال عنه (وكان شريف النفس، بعيد الهمة، متجملاً بصفات المؤرخ الحقيقي الذي لا يتشيع ولا يتحيز، ولا يداهن ولا يجامل، ولا يترك لعقيدته الدينية مجالاً للعبث بجوهر التاريخ وحقائقه، فكتب وهو المسيحي الأرثوذكسي تاريخ الإسلام في كتبه ورواياته كتابة العالم المحقق الذي لا يكتم الحسنة إذا رآها، ولا يشمت بالسيئة إذا عثر بها...).

أما مصطفى صادق الرافعي فقد مدحه كثيراً في كتابه وحي القلم، فنجده يصفه بـالمؤرخ الكبير في بعض الأحيان، وبالعلامة المؤرخ في أحيان أخرى. وقد كتب عنه تلميذه سلامة موسى كثيراً في كتبه، وبرر الحملة المثارة ضده، بسبب أنه عالج موضوعات لم يعالجها أحد من قبله، ويقول موسى في كتابه تربية سلامة موسى أن جرجي زيدان قد صارحه ذات مرة بخشيته من ردود الأفعال على مشروعه الرامي لتقديم التاريخ الإسلامي في قوالب روائية نقدية. وأما فيما يخص رواياته التاريخية وما وجه لها من انتقادات، فقد نتعجب إذا عرفنا أن عميد الأدب العربي طه حسين، قد أشاد بها كثيراً، وأنه قد وصف زيدان بقوله (هو الذي نقل إلى الأدب العربي مذهباً من مذاهب الأدب الأوروبي وهو القصص التاريخية).

وقد حاول أستاذنا الدكتور عاصم الدسوقي، أن يبرر الهجوم الذي طال زيدان، بكونه مؤلفاً موسوعياً، وأنه كان من الطبيعي أن تتقاطع أعمال الروائية مع أعماله التاريخية، فقد كانت (الإشكالية تكمن في رواياته التاريخية، حيث بدأ يتقمص دور الأديب، وكتب قصة تاريخية فيها إسقاطات سياسية وواقعية ولكن بلغة رمزية).

كما استحوذت كتابات زيدان على اهتمام عدد كبير من معاصريه ولاحقيه، ونظر بعض هؤلاء لكتاباته، نظرة تملؤها الظنون وتحيط بها الشكوك من كل جهة، فقاموا بمهاجمة الكاتب اللبناني المتمصر ووجهوا له سهام النقد والاعتراض. وقد قام عدد من معارضي زيدان، ممن يُحسبون على الخط التراثي، بتصنيف بعض الكتب للرد عليه، ومن أشهرهم الشيخ شبلي النعماني الهندي، الذي ألف كتاب يُعرف بالانتقاد على كتاب التمدن الإسلامي، وقام فيه بالرد على ما وصفها بالمزاعم التي أوردها زيدان في كتابه عن التمدن الإسلامي. وقد حدد النعماني، أربعة مآخذ رئيسة على كتاب التمدن، ألا وهي تحقير الأمة العربية، التحامل على بني أمية، الاستشهاد بمصادر غير موثقة، واعتماده الكبير على الإسرائيليات. ورغم انتقاد النعماني الحاد لزيدان، إلا أنه يُظهر توقيره واحترامه طوال الكتاب، حيث يصفه بالسيد الفاضل.

ومن الكتب التي انتقدت زيدان أيضاً، كتاب جرجي زيدان في الميزان للكاتب الفلسطيني الإسلامي شوقي أبو خليل. حيث حاول أبو خليل في هذا الكتاب أن يربط ما بين علاقة زيدان الممتازة بالمستشرقين الأوروبيين من أمثال نولدكه وفلهاوزن ومارجليوث وجولد تسيهر من جهة وميله إلى الطعن في التاريخ الإسلامي من جهة أخرى، واستشهد على ذلك بمشاركة زيدان في حملة الإنجليز على السودان، وما قيل عن انضمامه للحركة الماسونية العالمية وقتها. وقام الكاتب الفلسطيني، بتقديم دراسة تحليلية لجميع روايات زيدان التاريخية، حيث أظهر ما ورد فيها من أخطاء ومغالطات، اعتبرها متعمدة، ونوّه إلى أن ديانة زيدان المسيحية قد دفعته دفعاً للحط من شأن الانجازات والفتوحات الإسلامية، وتبريرها بأسباب ومبررات عاطفية بعيدة عن الموضوعية، واختيار اللحظات التاريخية الحرجة التي مرت بها الأمة الإسلامية لتقديمها إلى الواجهة والتركيز عليها. ويلخص أبو خليل ما توصل إليه، في قوله (لقد كتب جرجي ما اعتقده، بعيداً كل البعد عن البحث المنهجي في دراسة التاريخ، أو ما يُسمى مصطلح التاريخ، واعتمد على ما كان ذائعاً على ألسنة عامة الوراقين، أو الكتب التي تلقي الأخبار على عواهنها من غير تمحيص أو تحقيق). المعارضة التي لاقاها الأديب اللبناني، لم تنحصر في صفوف الإسلاميين فحسب، بل امتدت كذلك لتشمل عدد من الأدباء والشعراء المعروفين، فعلى سبيل المثال، في كتابه في الأدب الحديث، ينتقد الأديب عمر الدسوقي، أسلوب زيدان الروائي بقوله (رواياته كلها مكتوبة بأسلوب صحفي، خالية من التحليل النفسي، والنظريات الفلسفية، وما هي إلا تاريخ في قالب قصة لم تكمل شروطها الفنية، وتاريخ لم يُحافظ فيه على الحقائق).

كان جورجي زيدان يعمل بانتظام شديد، وبعزيمة قوية، ينكب على القراءة والتدوين ست عشرة ساعة متوالية في اليوم، مكتفيًا من النوم بأربع ساعات في أخريات حياته، يسابق الزمن في إنجاز أعماله الضخمة، ووافته المنية وهو بين كتبه وأوراقه في مساء يوم الثلاثاء الموافق (27 من شعبان 1332هـ = 21 من يوليو 1914م)، وقد رثاه كبار الشعراء من أمثال شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران بقصائد مبكية.

تحية طيبة للمفكر المبدع جورجي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..............................

المراجع

1- محمد عبد الغني حسن: جورجي زيدان – الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر – القاهرة – 1970م.

2- أنور الجندي: النثر العربي في مائة عام – القاهرة – بدون تاريخ.

3- سيد مؤنس: مقدمة تحقيقه لكتاب تاريخ التمدن الإسلامي – مؤسسة دار الهلال – القاهرة –1968م.

4- زكي فهمي: صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال العصر – طبعة مصورة لمكتبة مدبولي – القاهرة – 1995م. شارك

5- كيرنا رزق : تحقيقات في ذكرى وفاته| ما لا تعرفه عن جرجي زيدان أخصب مؤلفي العصر الحديث، منشور الأربعاء 21/يوليو/2021 -  09:42 ص.

6- محمد عبد الرحمن : جرجى زيدان.. من أين تحصل على روايات وكتب مؤسس مجلة الهلال؟، مقال منشور باليوم السابع، الأربعاء، 21 يوليه 2021 10:00 ص.

7- محمد يسري : جرجي زيدان: المسيحي الأرثوذكسي الذي روى تاريخ الإسلام، مقال منشور بتاريخ الأربعاء 23 أغسطس 201704:55 م.

8- أبانوب أنور: في ذكرى رحيله .. تعرف من هو جرجي زيدان مؤسس دار الهلال، دار الهلال، مقال منشور بتاريخ 21- 7- 2021 | 15:29.

9- ربيع ردمان : جرجي زيدان بين الموقف الثّقافي والممارسة الإبداعية، كقال منشور، |  03 فبراير 2021.

 

 

في المثقف اليوم