شهادات ومذكرات

مالك بن نبي.. أسطورة جزائرية في فلسفة الحضارة

3559 مالك ببنبيالأفكار الجيدة العظيمة دوما شبيهة بالمعدن النفيس، لا يزيدها مرور الزمن إلا نفاسة في قيمتها، ولا تؤثر فيها السنون ولا النسيان ولا التجاهل، فهي مثل قاع البحر كلما غاص الإنسان في أعماقه تكشفت له ثرواته وتبدت له عجائبه، ويأتي المفكر الجزائري “مالك بن نبي” (1905-1973م) ضمن قائمة رواد الإصلاح في العالم الإسلامي، وممن جاءوا بأفكار عميقة في النهوض الحضاري، وأبدع مشروعا فكريا متكاملا للتغلب على مشكلات الحضارة من خلال رؤية تنطلق من الإسلام، وتستلهم روح العصر والعلم، فاندرجت مؤلفاته التي زادت عن العشرين كتابا كعناوين فرعية لشعاره الكبير “مشكلات الحضارة”.

وبسبب هذا الشعاع عُدُّ المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي، واحدًا من أهم رموز الفكر الإسلامي، ولِمَ لا وهو صاحب أطروحات تفرّدت من نوعها، وقت طرحها، ببحث جذور النهضة، وسُبُل وصول العالم الإسلامي إليها، وكيفية تجاوز نكبته التي بات يعيشها وتفصله عن الحضارة الغربية التي تبعد عنها جغرافيًا عدة كيلومترات، لكنها واقعيًا تسبقه بآلاف السنوات الضوئية.

وعلى الرغم الإسهام الكبير الذي قدّمه الرجل في سعيه لانتشال أمّته العربية من الهوة العميقة التي سقطت فيها، فإن هذه الجهود لم تُقابل أبدًا بالعرفان، وظلّت أطروحاته حبيسة الأدراج طوال فترات طرحها وحتى الآن، وهي أحد أشكال العلاقة المتأزمة التي عكست حجم عدم الود المتبادل الذي جمع بين ابن نبي ومواطنيه.

ولقد أثار انشغال مالك بن نبي الدائم ببحث أسباب التأخر الحضاري والفكري لأهله مُقارنة بجيرانه الأوروبيين في نفسه كثيرًا من الأسى والسخط على أبناء مِلته، بعد ما كانت كفتهم تخسر كل مُقارنة منطقية يضعهم فيها ابن نبي مع سكان الشمال، وهو الأمر الذي أكسب كثيرًا من كتاباته نزعة نقدية عنيفة جلدت العرب والمسلمين كلما حانت له الفرصة، وكان الرد على ذلك محاولات تسخيف وتسفيه لأعمال المفكر البارز، تحوّلت لاحقًا إلى تجاهل وتهميش لم تنتهِ حتى اليوم.

ولهذا يُمكن اعتباره امتدَادًا لابن خلدون، ويعد من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة؛ حيث كانت جهود مالك بن نبي في بناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة، سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو من حيث المناهج التي اعتمدها في ذلك.

وكان مالك بن نبي أول باحث يُحاول أن يُحدّد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، ويبعد في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجًا مُحدّدا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ".

ولعل روعة الرجل تكمن في أنه سار في درب من الفكر لم يطرقه إلا القليل، وهو ميدان الفكر الحضاري، الذي سبقه فيه العلامة الكبير “ابن خلدون”، إذ كان بينهما عدد من الأفكار المشتركة، وتركز الجهد الفكري لكليهما على القضايا الأساسية التي تشغل الإنسان خاصة المسلم دون الاقتصار على قطر أو إقليم بعينه، لذلك جاءت أفكار مالك عابرة للحدود، وقافزة فوق حواجز الزمن، وفي إطار كلي بعيدا عن التجزئة والتفتيت.

وإذا كان النفيس غريبا حيثما كان كما يقول داهية الشعر المتنبي، فإن فيلسوف القرن العشرين مالك بن نبي الذي أشرق قلبه بنور القرآن وارتوى من نبع الحكمة، كان أعتى من الرياح، فحمل بيارق حلمه في إنقاذ أمته التي تغرق في لجج الأوهام مستهينة بقيمتها الحضارية، ورضيت أن تكون مع الخوالف، فأراد بذلك بعث حضارة الإسلام من جديد بتمزيق حجب الغفلة والجهل واليأس، فكان يدعو إلى  إعمال العقل والمنطق ومواجهة الواقع بلا أقنعة، ولن يتأتى ذلك حسب رأيه الحصيف إلا بالتخلص من الذهنيات المحنطة التي تتحكم بنواصي شعوب الأمة والتي كانت السبب الأول في تقهقر وتعثر خطى أمة كانت ذات مجد تليد، فكان يعتقد أن كل فراغ إيديولوجي لا تشغله أفكارنا ينتظر أفكارا منافية معادية لنا وهو ما تجسد فعلا ومازال يتجسد على أرض واقعنا المزري، ولم يغفل هذا المفكر العملاق إلى أن يلفت نظرنا وعقولنا إلى الحقيقة المرة التي تتعلق بالاستعمار البغيض أو "الاستدمار" كما كان يفضل تسميته الذي دمر أوطاننا ونهب خيراتها ورحل عسكريا بعد أن تركنا دولا متهالكة، ولا يزال بين ظهرانينا يضرب هويتنا وثقافتنا ويصيبها في مقتل، فكان يطالب بتصفية الاستعمار من العقول أولا ليؤكد بالقول: "إن الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم بل هو من النفس ذاتها التي تقبل ذل الاستعمار والتي تمكن له".

ولد مالك بن نبي في اليوم الخامس من شهر ذي القعدة لعام ألف وثلاثمئة وثلاثة وعشرين هجريّة في مدينة قسنطينة الموجودة في الجزء الشرقيّ من البلاد الجزائريّة، عاش مع أسرته الإسلاميّة المحافظة؛ حيث كان والده يعمل في مجال القضاء الإسلاميّ، وقد درس مالك القرآن وهو صغير، ثم انتقل ليكمل تعليمه الابتدائيّ في المدرسة الفرنسيّة. سافر مع أحد أصدقائه المقربين إلى فرنسا، وهو يبلغ من العمر عشرين عاماً، إلّا أنّ رحلته كانت تجربةً محبطةً له بكل المقاييس، وعاد بعد ذلك إلى مدينته التي نشأ فيها، وعمل بعد ذلك في محكمة آفلو، واستطاع في تلك الفترة أن يعلم الكثير من مجريات الأحداث في البلاد، والعالم، وبحلول عام ألف وتسعمائة وثمانية وعشرين استقال مالك من وظيفته بعد شجار دار بينه وبين أحد الكتّاب الفرنسيين التابعيين للمحكمة المدنيّة. انتقل في الثلاثينيات إلى فرنسا، وتمكّن من الالتحاق بمدرسة اللاسلكي، وتخرّج من المدرسة كمساعد مهندس، وتزوج بعد ذلك من فتاة فرنسيّة، وشرعت له فرنسا في ذلك الوقت أن يتحدّث حول العديد من القضايا، وكتب العديد من الكتب والمؤلفات الكثيرة، وبحلول الثورة الجزائريّة هرب مالك من فرنسا إلى مصر، وعاد إلى فرنسا وزوجته بحلول عام ألف وسبعمائة وإحدى وسبعين.

ومن أشهر كتبه "شروط النهضة، تأملات، مشكلة الأفكار فى العالم الإسلامى". فى سنة 1956 جاء مالك بن نبى إلى القاهرة، وأصدر كتابه المهم "فكرة الإفريقية-الآسيوية"، الذى وضع فيه الأسس النظرية والمناهج التطبيقية لإبراز كتلة جديدة على المسرح العالمى والتاريخى البشرى.

وحول فلسفته في الحضارة يرى مالك بن نبي أن الحضارة الإسلامية قد أدركت نهايتها واستكملت دورتها بسقوط الدولة الموحدية، فيما كانت الحضارة المسيحية تحقق أكبر نجاحاتها وانتصاراتها وتكتسح بعد نهاية الحروب الصليبية مفاصل مهمة من جغرافيا العالم الإسلامي. لقد كشف بن نبي عن نظرية (القابلية للاستعمار) في كتابه “الصراع الفكري”، يقول: “الاستعمار جاء إلى العالم الإسلامي نتيجة مرض أساسي عندنا، هو القابلية للاستعمار.. وهو نتيجة الصراع الفكري الذي خطط له الاستعمار وأحسن إحكام الخطة.. لقد سلط الاستعمار الأضواء على المشكلات الهامشية، بينما ترك في الظلام كل رؤية منهجية سليمة.. تفتح الطريق أمام حركة التاريخ".

وانطلق مالك من فكرة محورية هي أن أي نهضة مجتمع تتم في نفس الظروف التي شهدت ميلاده، وعلى هذا فإنه إعادة بناء المجتمع المسلم الحديث لا بد أن تنطلق من الفكرة الدينية كأساس لأي تغيير اجتماعي، لهذا كانت الآية الكريمة “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد: 11) نقطة ارتكاز هامة في منظومته الفكرية.

ومن الأفكار الهامة التي عالجها فكرة الحضارة، حيث رأى أن الحضارة أشبه بمعادلة رياضية تتكون من ثلاثة متغيرات هي: التراب، الإنسان، الزمن، والتفاعل بين هذه المكونات الثلاث لا يكون إلا بأيديولوجيا تلعب دور الوسيط الكيميائي بين أطراف هذه المعادلة. ورأى أن الحضارة إنتاج بشري لذلك فإن التخلف الذي يعيشه المسلمون ينبع في الأساس من داخلهم، ويعود إلى طبيعة تشكيل عقليتهم وشخصيتهم التي ترسبت فيها مفردات الثقافة السلبية، وفرق بين المجتمع الفعال والمجتمع غير الفعال، فاعتبر أن فاعلية المجتمع تنطلق من فاعلية الإنسان لهذا كان يقول: "إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ”. وشرط الفاعلية الأساسي عند مالك أن ينظر الإنسان إلى نفسه على أنه صانع التاريخ ومحركه، فالتاريخ نتائج عملية، وليس مقولات نظرية، ورأى أن مشكلة المسلم أنه لا يفكر ليعمل بل يفكر ليقول ويتكلم، وقد أدى ذلك إلى ضياع الاستفادة من المال والوقت والعلم.

علاوة على أن مالك بن نبي كان ذا عقل أريب وفكر مميز كيف لا وهو كان يمتلك روح المكاشفة التي جعلته يغرد خارج سرب المقلدين والمنبهرين بالآخر بل والانهزاميين أيضا ما خلق له الكثير من الأعداء والمتآمرين حينها، فهذا الباحث الفريد كان يؤمن إيمانا عميقا بضرورة نهضة العالم الإسلامي الذي سيهدي سكان المعمورة قاطبة قيم الرحمة والتسامح والجمال التي هي من صميم هويته الإسلامية التي نزلت إليه من السماء ولكونه كذلك صاحب ارث غني بهذه المعاني الجميلة، بيد أنه يشترط لتحقيق هذا الهدف السامي أن تهب حياة هذه القيم والمعايير من مراقدها عند المجتمعات المسلمة، فكان يردد لا بد للمسلم أولا أن يساهم في بناء مجتمعة لكي يستطيع التكلم مع الآخرين ندا إلى ند، وهو المسؤول عن تعطيل تبليغ الدعوة للعالم، فكيف له أن يبلغ الدعوة لأناس في نظرهم هو أدنى منهم، فدعا العالم الإسلامي الذي أهدر تراثه الثمين بأن يسارع إلى جمع شعت همومه وأن يفطم نفسه عن الكسل، فلا ريب أن هذا الجزائري العظيم كان يسعى إلى شحذ الهمم والعزائم التي سقطت وفترت، محاولا بذلك ضخ دماء الإرادة في ثورة فكرية وروحية أولا تتوج لاحقا بنهضة اقتصادية وحضارية تمكن من رسوخ كعب هذه الأمة العظيمة في ملحمة العطاء الإنساني.

ومن جهة أخرى فقد كان مالك ابن نبي بالفعل مجدد هذه الأمة كما يرى الكثير من المفكرين والباحثين في كل أصقاع العالم، وقد استطاع هذا الفيلسوف الكبير الذي تجاهله قومه أن يحظى بمكانة استثنائية لدى دول أوروبا وأميركا التي تلقفت فكره تلقى المتعطش للعلم، متناولين أفكاره بكل تمحيص معتبرين إياه رجلا يكتنز عبقرية فذة لا يقل عن مفكريهم وفلاسفتهم، كهيجل وكانط وراسل وهيدغر وغيرهم، وهو نفسه الذي ألهمت نظرياته الفعالة شعوب شرق وجنوب آسيا التي طبقتها حقيقة فتغير واقعها إلى الأفضل وها هي اليوم قوة اقتصادية تماثل أوروبا وأميركا، وفي الذكرى السابعة والأربعين لرحيل هذا العالم المسلم لا يسعني إلا أن أقول إنه استطاع بجدارة أن ينسج أسطورته الخالدة.

ولأكثر من ثلاثين عاما ناضل هذا الرجل العظيم بعلمه وفكره الثاقب وقبل ذلك بنفسه، حيث تعرض للاعتقال داخل غياهب السجون من قبل الجلاد الفرنسي في ثلاثينيات القرن الماضي لأنه كان أول من طالب بالاستقلال والحرية، سائرا في درب موحشة متحملا الظلم والمكائد والتهميش وكأنه يتمثل قول الشاعر:

بلادي وان جارت علي عزيزة ** وأهلي وان ضنوا علي كرام

والسؤال الآن : هل كان مالك بن نبي مقلدا أم مجددا؟...وللإجابة على هذا نقول مع الأستاذ محمد بوالروايح يمكن أن أسجل الملاحظات الآتية:

1- أن مالك بن نبي كان من حيث العموم مقلدا وليس مجددا في الفكر الحضاري الذي سبقه إليه كثيرون، ولكنه تقليدٌ بطعم التجديد لأن بن نبي يمتلك قدرة فائقة على استيعاب الأفكار وقراءة التراث، وهو ما لا يمتلكه كثيرٌ من المفكرين فيقلدون ويغرقون في التقليد حتى يصبح فكرُهم صورة طبق الأصل لفكر غيرهم في الأصول والفروع والجزئيات والكليات.

2- أن بن نبي رغم تكوينه التقني، إلا أنه وفق كثيرا في الحديث عن الأحوال السياسية التي مرّ بها العالم الإسلامي، ووفق أكثر في تفصيل واقع العالم الإسلامي بعد العهد الموحدي.

3- أن بن نبي لا يخفي في كتبه وخطاباته ولعه بفكرة الإصلاح الحضاري التي يجب أن تبنى في الأساس على الهدي القرآني الذي يرسم معالم التغيير الحضاري مع ضرورة تكييف ذلك وإنزاله على الواقع وما يعيشه المسلم المعاصر، وقد عبر عن كل ذلك في كتابيه "الظاهرة القرآنية" و"شروط النهضة". إن فكر بن نبي إنما هو امتدادٌ للفكر الحضاري الإسلامي الذي بدأ قبله واستمر بعده، ومن ثم فلا غرابة من أن يشكل الفكر الحضاري الإسلامي قاعدة انطلاق لفكر بن نبي.

4-  إن مظاهر التقليد في الفكر الحضاري عند بن نبي لا تقف عند ما ذكرته عن تطويره للرؤية التوحيدية لمحمد إقبال وتطويره لفكرة الغالب والمغلوب عند ابن خلدون بل تتعداها إلى قضايا أخرى متصلة بمشكلة الأفكار وغيرها.

5-  إن بن نبي مقلدٌ من جهة ولكن فكره كان لمن بعده منطلقا لفكر حضاري اقتبس من نظرياته شيئا كثيرا كما فعل المفكر البوسني علي عزت بيجوفيتش التي تلمح في مؤلفاته مسحة من أفكار مالك بن نبي.

وقد رحل مالك بن نبي قبل أن ينبلج الفجر الذي انتظره بعد ليل جاثم طويل، رحل وقد فرغ من حق وجوده مؤديا رسالته في هذه الحياة، مخلفا وراءه إرثا فكريا ضخما لا يقاس بكل كنوز الدنيا، وإذا أردنا فعلا أن نزرع بذور الوفاء لهذا العظيم، فلنتعلم منه ونبعث الحياة في أفكاره ونظرياته.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

المراجع

1-أنظر مقال بعنوان : مالك بن نبي .. أسطورة جزائرية في الفكر، ميدل ايست أونلاين، الاثنين 2020/11/30

2-عزيز، محمد الصالح بن عمر: مشكلة الحضارة في فكر مالك بن نبي، الوعي الإسلامي، وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، العدد 387، 1998.

3- أحمد متاريك : النهضة» وقودها «العفن»: لا كرامة لِابن نبي في وطنه، إضاءات ، 24/03/2021

4- محمد بوالروايح:  هل كان مالك بن نبي مقلدا أم مجددا؟، الشروق ، 2021/01/25

5- مقال بعنوان: فيلسوف مشكلات الحضارة (في ذكرى وفاته: 4 شوال 1393 - 31 أكتوبر 1973 ) أرشيف إسلام أون لاين..

في المثقف اليوم