شهادات ومذكرات

محمد يوسف موسى.. رائد تطوير النسق الفقهي الإسلامي

محمود محمد عليشهدت مصرنا الحبيبة منذ ثلاثينيات القرن العشرون تصاعدا في الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، وقد رفع لواءها طائفة من علماء الأزهر المتأثرين بالشيخ محمد عبده وفي مقدمتهم الأشياخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر وعبد الوهاب خلاف ومحمود شلتوت وهم من الفقهاء الأعلام، ومحمد يوسف موسى (1317 – 1383هـ = 1899 – 1963م)- أستاذ الفلسفة والأخلاق في كلية أصول الدين، الذي لم يحظ مشروعه لتطوير الفقه الإسلامي بما يستحقه من العناية رغم أصالته وتميزه.

كان محمد يوسف موسى (مع حفظ الألقاب) راهبًا من رهبان العلم والفكر، لم يتزوج غير العلم والمكتبة، وكان ضليعًا متمكنًا في علوم الفقه والشريعة، وعلوم الفلسفة والعقيدة، فلقد وهب الرجل نفسه للعلم فلم يتزوج، أو تشغله المناصب عن مشروعه الإصلاحي التجديدي، وقضى حياته كلها في سبيل أمنية غالية عزيزة على قلبه، ألا وهي: الإصلاح والتجديد. ولاقى في سبيل ذلك الكثير من العنت، كما كان حظ الكثير من المصلحين السابقين واللاحقين على السواء.

والدكتور "يوسف موسى"، من مواليد مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، وبدأ في طلب العلم في رحاب الأزهر حتى نال العالمية، وعُيِّنَ مدرِّسًا بمعهد الزقازيق لثلاث سنوات، فصل بعدها لضعف بصره، الذي سبب له مشاكل كثيرة، جعلته يتجه إلى تعلُّم اللغة الفرنسية، لتكون وسيلته لدراسة الحقوق والاشتغال بالمحاماة فيما بعد.

ولهذا فقد أكبَّ "يوسف موسى" على دراسة الفرنسية، وتفرغ لها، حتى أتقنها، ثم اشتغل بالمحاماة الشرعية متدرِّبًا ثم متمرِّسًا ولامعًا، وعندما انتهت مشيخة الأزهر إلى الشيخ محمد مصطفى المراغي عُيِّنَ بالأزهر، تاركًا المحاماة وبريقها وشهرتها، مؤثِرًا التدريس والتعليم، استجابة لميله الفطري، وإيمانه بمكانة الأزهر الدينية والعلمية.

وفي 1357 هـ صيف 1938م سافر "يوسف موسى" إلى فرنسا للاتصال بأساتذة الفلسفة في جامعة باريس استعدادا للحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة، وهناك تعرف على المستشرق الفرنسي "لويس ماسينيون"، واتفق معه على خطة الدراسة والبحث، وفي عام 1358 هـ1939م عاد "يوسف موسى" من فرنسا لظروف الحرب العالمية الثانية فاتصل بالشيخ مصطفى عبد الرازق (ت 1946) وكان آنذاك أستاذا للفلسفة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا).

وبعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية نال "يوسف موسى" إجازةً من الأزهر بدون مرتّب وسافر على نفقته الخاصة، وبعد ثلاث سنوات من الدراسة والبحث حصل عام 1948على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون عن الدين والفلسفة في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط، بدرجة مشرف جدا وهي درجة لم يحصل عليها أزهري بعده إلا محمد عبد الله دراز؛ وبذلك يكون محمد يوسف موسى أول أزهري ينال هذه الدرجة العلمية الممتازة في ذلك الزمن الوجيز.

وأثناء دراسته في فرنسا اختير موسى خبيرا في لجنة الميتافيزيقا بالمجمع اللغوي بالقاهرة، رشحه لها أستاذه ماسينيون، وظل بعد عودته من فرنسا يشارك في أعمال هذه اللجنة - التي سميت بعد ذلك لجنة الفلسفة - حتى آخر حياته.

ولم تنته صلة "يوسف موسى" بالبحث والدراسة بعد حصوله على الدكتوراه بل انتدبه الأزهر لقضاء شهرين في رحلة علمية بإسبانيا وبلاد المغرب العربي طلبا لنفائس التراث الإسلامي في الفلسفة والعلوم الإسلامية المختلفة.

وقد دعا "يوسف موسى" إلى تطوير الأزهر وإصلاحه، ووقع الخلاف بينه وبين بعض الشيوخ في الأزهر، لا سيما بعدما نشر في جريدة الأهرام مقالاً حول «السياسة التعليمية في الأزهر»

ثم انتقل بعدها إلى جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً) لشغل وظيفة أستاذ مساعد للشريعة في كلية الحقوق، في حين كان المظنونُ، أن ينتقل الشيخ إلى كلية الآداب ليُدرّسَ الفلسفة التي نال فيها دكتوراه الدولة في باريس، ومع ذلك أثبت الشيخ جدارته الفائقة حين بهر طلاب الحقوق بغزارة معارفه وشمول نظرته على نحو ما يبدو من مؤلفاته الفقهية في هذا الشأن.

وقد تنوعت كتابات "يوسف موسى" ومؤلفاته ومقالاته ما بين الأخلاق والشريعة وعلم الكلام والترجمة والتحقيق، ثم المؤلفات الإسلامية العامة. بعض هذه المؤلفات تُرْجِم عن الفرنسية في الفلسفة والشريعة، ومنها بحث في الفرنسية نشره عام 1415هـ = 1995م بمجلة (لا ريفي دي كير) بالقاهرة، في عدد خاص عن ابن سينا في ذكراه.

بالإضافة إلى رسالة الدكتوراه التي كتبت بالفرنسية ثم ترجمها بعد ذلك إلى العربية. في الأخلاق له أربعة مؤلفات وهي: (مباحث في فلسفة الأخلاق)، و(الأخلاق في الإسلام)، و(فلسفة الأخلاق في الإسلام وصلاتها بالفلسفة الإغريقية)، و(تاريخ الأخلاق). وفي الفلسفة: (القرآن والفلسفة)، و(بين الدين والفلسفة في رأي ابن رشد)، و(فلاسفة العصور الوسطى)، و(ابن رشد الفيلسوف)، و(الدين والفلسفة معناهما ونشأتهما وعوامل التفرقة بينهما)، و(بين رجال الدين والفلسفة)، و(ابن سينا والأزهر).. وغيرها، وفي الشريعة: (مدخل لدراسة الفقه الإسلامي)، و(أحكام الأحوال الشخصية في الفقه الإسلامي) و(نظام الحكم في الإسلام).

والأستاذ "يوسف موسى" له مقالات متنوعة وكثيرة في مجلات وصحف لها وزنها الثقافي والعلمي كالأزهر والرسالة والمسلمون والمجلة، وتنوعت هذه المقالات من حيث الموضوعات، لكن كثيرًا منها دار حول المخاطر التي تهدد الأمة، وكان بعضها نقدًا لمؤلفات تاريخية أو أدبية أو في الدراسات الفقهية بوجه عام. وقد جمع هذه المقالات في كتابه (الإسلام والحياة).

وهنا تشهد آثار "يوسف موسى" العلمية على أصالة علمية،وثقافة جامعة، وعقلية تمقت الجمود والتقليد،وتدعو إلى الاجتهاد والتجديد، ومن ذلك قوله: "إن علينا أن نذكِّر أولئك الجامدين من الذين يسمُّون أنفسهم فقهاء في هذه الأيام بأن رحمة الله واسعة تسع الناس جميعا في كل عصر، وبأن الله لا يخلي أمة في أيِّ عصر من بعض ما يمكن أن يكونوا أئمة في التشريع باجتهادهم".

ولهذا يُنسب "يوسف موسى" إلى إحدى الموجات المتأخرة ضمن مشروع الإصلاح الإسلامي الذي بدأ في القرن التاسع عشر، وموقفها من الآخر يختلف اختلافا بينا عن الموجة الأولى التي جسدها الطهطاوي وخير الدين التونسي الذين وقعوا تحت تأثير الصدمة الحضارية حين شاهدوا للمرة الأولى الهوة التي تفصل عالم الإسلام عن عالم الغرب، أما أبناء الموجة المتأخرة فقد تجاوزا تأثير الصدمة وكانوا أكثر اعتدالا في رؤيتهم وفي تقييمهم للآخر، وهو ما نلمسه في كتابات يوسف موسى التي لا نجد فيها أثرا لذلك الانبهار الساذج بالغرب أو التسليم بتفوق الفكر الغربي وانحطاط الفكر الإسلامي، وهو من أوائل من فطنوا إلى خطورة توطين الأفكار الغربية وإكسابها مسوحا إسلامية، وفي هذا يقول “ولسنا نحاول أن ندخل في الإسلام كل تفكير نراه طيبا وكل علاج نراه عادلا لبعض ما نحس من مشكلات كأن نقول مع القائلين بأن الإسلام دين اشتراكي وديمقراطي وما إلى ذلك، إن الإسلام اسمى من هذا كله إنه دين أصيل له أسسه الخاصة وطابعه الخاص".

ويتألف مشروع "يوسف موسى" الإصلاحي من ثلاث دعائم، الأولى: الوصل بين الفلسفة والواقع، فليست الفلسفة كما يظن تنظيرات وتصورات مفارقة للواقع بل إن فيها ما يسهم في حل مشكلات الواقع، والوصل بين الفلسفة والدين فليست الفلسفة ضربا من التفكير المضاد للدين وإنما يعملان سوية على فهم العالم ومبدئه وتبصير الفرد والمجتمع بما هو خير وحق. والثانية إصلاح السياسة التعليمية الأزهرية ومن مقترحاته في ذلك وجوب تلقي جميع الطلاب المصريين في المراحل الأولية تعليم واحد له أسسه الإسلامية دون تخصيص الأزهر بمناهج معينة وحجته أن ذلك يقضي على ثنائية الديني والمدني، والثالثة دعوته إلى تطوير الفقه الإسلامي.

ويؤسس يوسف موسى دعوته إلى تطوير الفقه على حجج متعددة وذلك حسب قول فاطمة حافظ ؛ منها أن التطور قانون من قوانين الحياة فالحياة لا تعرف التوقف والجمود وتتغير أنماطها باستمرار وتتبدل معها النظم والمعاملات وتجد المشكلات التي تتطلب حلولا جديدة تتفق وشرع الله، ومنها أن تطوير الفقه يعد مقدمة ضرورية قبيل المناداة بأن تكون الشريعة هي مصدر القوانين في الدولة، وأنه يجعل منه فقها حيا ويجعلنا في غنى عن اقتباس الفقه الغربي والتبعية له في تشريعاتنا وقوانينا ؛ ويفترض موسى أن غاية التطوير هي "ألا يبقى الفقه الإسلامي وهو يعيش على هامش الحياة، بل أن يتدخل في صميمها وجميع أعمالها"، وليس من أغراضه جعل شرع الله يجيز كل ما يستجد في حياتنا -ولا سيما الاقتصادية- من أعمال، وبهذا المعنى فإن التطوير ليس دعوة مقيدة لتحليل كل ما يضطرب في حياتنا لكنه تطوير منضبط بضابطين هما: أن يقع في حدود كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة، وأن يستند إلى تراث فقهائنا الأجلاء.

والبداية الحقة للتطوير كما يعتقد "يوسف موسى" هي دراسة الفقه من ينابيعه الأولى الكتاب والسنة ثم دراسة فقه الصحابة والتابعين وأن نسلك السبيل الذي سلكوه في معرفة الأحكام، وعلى ذلك لا ينبغي أن يتوقف المسلمين في أمر التطوير لسببين : الأول أنه ليس فيه نسخ لحكم مثبت بنص من الكتاب والسنة وإنما هو فهم للنصوص وتفهم لعلل الأحكام التي جاءت بها والمصالح التي كانت تهدف لتحقيقها، فالنص الذي جاء به الحكم يبقى قائما متى كان محققا للمصلحة التي قصدها الشارع. والثاني : أنه لا يمكن التسليم بأن الأحكام الشرعية كلها قابلة للتغير تبعا للمصلحة، فالعدد الأكبر منها لا يتغير كحرمة الربا وشرب الخمر، وإنما التطوير يكون في الأحكام التي يذهب إليها الفقهاء في أزمان خاصة ثم لا تكون محققة للمصلحة في أزمان أخرى.

ويقترح "يوسف موسى" منهجا مكونا من ثلاث خطوات يمكن من خلاله الوصول إلى التطوير أو التجديد الفقهي المنشود، الأولى: اقتفاء أثر فقهاء الصحابة والتابعين في الوصول إلى الأحكام ويتلخص منهجهم في : عدم اللجوء إلى الاجتهاد بالرأي إلا إذا لم يجدوا في النصوص الشرعية حكما شرعيا للواقعة التي يبحثون عن حكمها، والتيقن من أن الأحكام إنما شرعت لعلل ومصالح معينة والبحث عنها، وترك العمل بالنصوص حين يظهر لهم أن العمل بها ينافي المصلحة الحقيقية. والثانية: بذل العناية في نشر كتب التراث الفقهي نشرا علميا صحيحا بعد فهرستها وتصنيفها موضوعيا ليسهل استخراج المسائل منها، واشترط ألا يقتصر ذلك على نشر كتب المذاهب الأربعة المعروفة بل نشر أمهات كتب المذاهب الأخرى، ثم إخضاعها جميعا للدراسة التاريخية المقارنة ووضع خلاصتها بين يدي واضعي القوانين الحديثة للإفادة منها. والثالثة: إنشاء مجمع للفقه الإسلامي -لم تكن الفكرة مطبقة آنذاك- لتنظيم عملية الاجتهاد ولبحث النوازل والمسائل المستجدة وإبداء رأي شرعي فيها يلتزم به المسلمون في أقطار المعمورة.

وقد وافته المنيَّة صباح يوم توفي في 18 ربيع الأول 1383ه = ثامن أغسطس 1963م، عن أربعة وستين عامًا، أمضاها في العلم والتعليم والتأليف والدعوة إلى الوسطية والتجديد. رحمه الله وغفر له.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

المراجع:

1- د. يوسف القرضاوي: وداع العلماء، الدار الشامية للطباعة والنشر والتوزيع،2017.

2- محمد يوسف موسى، كفانا تقليدا في الفقه “تتمة الحديث”، القاهرة: الأزهر، مج 24، ع 9، ص 1192.

3- محمد يوسف موسى، كيف نصل إلى تطوير الفقه الإسلامي، القاهرة: الأزهر، مج 32، ع 8، ص 822-825.

4- محمد يوسف موسى، تطوير الفقه الإسلامي، القاهرة: مجلة الأزهر، مج 32، ع 6، ص 571.

5- محمد الدسوقي، محمد يوسف موسى (1317- 1383 ه/ 1899-1963 م) الفقيه الفيلسوف والمصلح المجدد، دمشق: دار القلم، 2003، ص 15-24.

6- مجد مكي: العلامة الفقيه الفيلسوف محمد يوسف موسى، مقال منشور يوم الاثنين 12 ذو القعدة 1440 - 15 يوليو 2019.

7-فاطمة حافظ: محمد يوسف موسي ودعوته إلى تطوير الفقه الإسلامي، إسلام أون لاين.

في المثقف اليوم