شهادات ومذكرات

قسطنطين زريق.. رائد الفكر القومي العربي وعملاق المؤرخين العرب

3667 قسطنطين زريقيحتل قسطنطين زريق (5 نيسان 1909 – 12 آب 2000)، مكانة مرموقة بين المفكرين العرب المعاصرين، فهو من رواد الفكر القومي العربي، وأحد أبرز محركي هذا التيار في تاريخنا المعاصر، وهو منظر ومفكر قام بوضع وتطوير العديد من المفاهيم الاجتماعية والسياسية التي لاقت منذ منتصف القرن الماضي انتشارا واسعا، وساهمت بالتالي في رسم الملامح الفكرية للتيارات والشخصيات السياسية التي لعبت أدوار فاعلة ومؤثرة في الوطن العربي (1).

إن مكانته تعود إلى إنتاجه الفكري وتجدده، وإلى الانتشار الواسع الذي تمتع به الإنتاج خلال سنوات طويلة، حيث تلقفته أجيال متتابعة من الطلبة الجامعيين من مختلف الأقطار العربية، لعبت أدوارا هامة في بلدانها، هذا فضلا عن أسلوبه المميز الذي مكنه من تأسيس منهج فكري واضح، سمح لشرائح واسعة من المثقفين العرب بالتفاعل معه على نطاق واسع، وإن كانت الغايات الكبرى لم تتحقق بعد، لكنه رعاها حتى الذبول والتفتح، وسقاها من فكره، وتجربته وجهده وعلمه، ما جعله من بين أكثر المفكرين العرب حضورا وفعالية، فقد قرآناه يعيش زمانه، وهو النادب نفسه لمهمات تترجح ما بين الوطني والقومي والإنساني، بين الحضاري والثقافي والتاريخي، يتناول موضوعاته بشغف، محللا، برصانة، وبحضور فاعل، لأكثر من ستين سنة (2).

ولم يكن حضوره بالضرورة ماديا ومباشرا، بل كان بأفكاره ولسنوات وعقود يزرع في أرضنا العربية بذور المعرفة والحرية والعقلانية، والحق والعدل والنهضة والوحدة العربية، وهي بذور أينعت في أفراد ومؤسسات وأوضاع، سقاها من فكره وتجربته وجهده وعلمه، فقد قرآناه ملتزما قضايا أمته، يتناول موضوعاته بشغف، راصدا بعقلانية والتزام، لم تحده حدود، ولم تأسره وقائع الأزمنة، فقد كان يدخل مع كل منها بحالات من التفكر والتبصر تكشف عن إنسان أوتي من سلطان المعرفة ما جعله يستشرف آفاق المستقبل، مع ذلك ما استبد به يوما ادعاء أو غرور، بل ما زادته المعرفة إلا تواضعا (3).

ولهذا قال عنه الكاتب اللبناني زياد الحافظ: قسطنطين زريق رجل نهضوي بامتياز. فكتاباته تستذكر التاريخ خدمة للمستقبل. ويستشهد الكاتب الكبير بآية قرآنية تعبّر عن دوافعه: فإنَّ الذِكرى تَنْفَعُ المُؤمِنين. فالعلم والإيمان في صميم فكره وهاجسه تحقيق رفاهية الإنسان العربي في مجتمع حضاري يؤدي رسالته للإنسانية. فالرجل النهضوي ينظر دائما إلى الغد ويأخذ العبر من الماضي والحاضر ولكن المستقبل هو هاجسه الأكبر إن لم يكن الوحيد. وقراءته لمستقبل الأمة التي يذكرها دائما في كتاباته تدّل عن وعي بالمتغيرات التي حصلت والتي ستحصل حتما وتأثيرها على مسار الأمور. فما يميّز كتابات الدكتور قسطنطين زريق هو حداثتها بمعنى أنها تجسد الحداثة كما سأبينه لاحقا. وهذه الحداثة تجعل فكره يصمد أمام امتحان الزمن والتاريخ (4).

ولد قسطنطين زريق في دمشق عام 1909، تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس أرثوذكسية ثم التحق بالجامعة الأمريكية في لبنان لدراسة الرياضيات، التي سرعان ما تحول عنها لدراسة التاريخ، لينال بكالوريوس الآداب في العام 1928، ثم سافر بعد ذلك لينال درجتي الماجستير من شيكاغو ثم الدكتوراه من جامعة برنستون (5).

وبعد انهاء دراسته العليا، عمل زريق في الجامعة الأمريكية ببيروت وترقى في الدرجات الجامعية، كما عمل في عدد آخر من الجامعات مثل دمشق وجورج تاون وكولومبيا. في العام 1949 عين زريق رئيسًا للجامعة السورية حتى العام 1952، كما عين كنائب لرئيس الجامعة الأمريكية (6).

فضلًا عن تدرجه في الوظائف الأكاديمية، كان لزريق نشاط كبير في عدد من المنظمات الثقافية الإقليمية والعالمية، وشغل مناصب هامة منها عضوية مجمع اللغة العربية في دمشق، وعضوية المجمع العلمي العراقي، وعضوية فخرية في الجمعية التاريخية الأمريكية، والمجلس التنفيذي لليونسكو، والمجلس الإداري للهيئة الدولية للجامعات، فضلًا عن رئاسته لجمعية أصدقاء الكتاب في لبنان، ومجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية (7).

وفي كتاب للمفكر الدكتور عبد الغني عماد ضمن سلسلة "سير وأعلام" الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان "قسطنطين زريق الداعية والمفكر القومي العربي" وضع عماد مؤلفات زريق في ثلاث مجموعات: الأولى كتب ذات طابع أكاديمي تقوم على الترجمة والتحقيق التاريخي لمخطوطات نادرة في التراث العربي والاسلامي، ومنها: "تحقيق ونشر تهذيب الأخلاق لأحمد بن مسكويه". المجموعة الثانية من مؤلفات الكاتب تضمّ أربعة كتب وهي: "الوعي القومي: نظرات في الحياة القومية المنفتحة في الشرق العربي" الصادر عام 1939، و "أي غد؟ دراسات لبعض بواعث نهضتنا المرجوّة" الصادر عام 1957، أما الكتاب الثالث الصادر عام 1963 فكان بعنوان "هذا العصر المتفجر: نظرات في واقعنا وواقع الانسانية"، وكتاب "أعظم من منتصرين" الذي صدر عام 1966 (8).

وأما المجموعة الثالثة من مؤلفات زريق ضمت عددًا من الكتب التي ركزت في تناولها على موضوع واحد بشكل متكامل مثل كتاب "معنى النكبة" الصادر عام 1948، وكتاب "نحن التاريخ: مطالب وتساؤلات في صناعة التاريخ وصنع التاريخ" الذي صدر عام 1959، فضلًا عن كتابه "في معركة الحضارة: دراسة في ماهية الحضارة وأحوالها وفي الواقع الحضاري"، و"نحن والمستقبل" الذي أصدره عام 1977 (9).

ومن يعرف قسطنطين زريق جيداً يعرف كيف إنه تميز في أبحاثه التي تضمنتها كتبه، بالجد والجهد، وباستشراف المستقبل، وبالابتعاد عن البكاء على الأطلال، وكانت أبرز مساهماته في البحث عن مستقبل أفضل لأمته العربية تلك التي تضمنتها كتبه التي أصدرها في السنوات الأخيرة التي سبقت وفاته، أي السنوات التي كان يقترب فيها من التسعين ويتجاوزها؛ وكان أهم تلك الكتب كتابه «ما العمل»، الذي يقدم فيه أفكاره حول النهوض بالأمة في شروط تاريخية جديدة ملأى بدروس الماضي، تجاربنا فيه، ومفتوحة على التحولات الكبرى التي يشهدها العالم المعاصر. لكنه رحل قبل أن يستكمل ذلك المشروع في عناصره الجديدة. وحين رحل كان، في نظر الذين تابعوا تحولاته الفكرية، شابا في الثالثة والتسعين من عمره. وكان أبرز مظهر للشباب فيه عقله المنفتح على متغيرات العصر في اتجاهاتها المتناقضة، وذهنه المتوقد المملوء فتوة، وفكره المستنفر الباحث بعمق وقلق واستشراف عن أفضل الوسائل والصيغ والأدوات لتجديد الحياة العربية. إذ كان قسطنطين زريق يرى، من على قمة تجربته الطويلة والغنية التي كادت تقترب من ثلاثة أرباع القرن، أن الفكر القومي ـ الذي كان هو أحد أعلامه البارزين ـ لم يعد صالحاً في صيغه القديمة لتحقيق أي تقدم للأمة العربية، إن لم يكن قد صار عائقا حقيقياً أمام هذا التقدم. وهو استنتاج لا يحتاج القارئ لكتابات مفكرنا الكبير إلي كبير جهد من أجل أن يراه ويتبينه بوضوح. ولعل أهم مكان في كتاباته الذي تبرز فيه أفكاره واستخلاصاته المهمة هذه هو سيرته الفكرية التي كتبها بقلمه في الأعوام الأخيرة السابقة على رحيله. فقد أراد منها أن تكون، عن قصد منه أو عن غير قصد، بمثابة وصيته الأخيرة للأجيال الجديدة. ومعروف أن زريق، الذي أسهم مع بعض زملائه في الثلاثينيات من القرن الماضي في تأسيس حزب قومي سري لم يعش طويلاً، لم ينتم بعد ذلك إلى أي من الأحزاب القومية التي تأسست فيما بعد، ولم يحتل منصباً وموقعاً قيادياً في أي من الحركات السياسية التي عايشها، وصادق زعماءها وكتب عنها وعنهم (10).

ولقد لاحظت الدكتور كريم مروة وهو يتابع كتاباته، لا سيما كتابه الأخير ما العمل؟»، أنه يخاطب الأمة العربية انطلاقا من الحالة العامة التي هي فيها، حالة التخلف والتمزق التي جعلت شبابها ينكفئون عنها وعن التزاماتهم إزاء قضاياها الراهنة والمستقبلية. وهو، إذ يدخل في تعريف ظاهرة الانكفاء هذه، فانه يسترسل في تعداد أنواع هذا الانكفاء، ويسمّي اصحابها بالأسماء التالية: المهزومين والغائبين والقدريين والهاربين والندّابين واللوّامين والمستهزئين والمستغلين. ويُعدد، في مقابل هذه الأنواع من الانكفاء السلبي، أنواعا نقيضة لها، يشير إلى اصحابها بأسمائهم. وهم، بالنسبة اليه القوميون أولاً، والشيوعيون واليساريون والأصوليون. ويدخل في توصيف ظروف كل منهم تبريرا احيانا ونقداً احيانا، مع حفظ النسب بين كل منهم في هذين التبرير والنقد. ويشعر القارئ، من دون عناء، كم هو مهموم هذا المفكر العربي الكبير بحاضر أمته وبمستقبلها، مهموم إلى حدود التصوّر المثالي للحلول التي يقدمها للخروج من الواقع القائم الحافل بالأزمات، في الاتجاه الذي يقود الأمة إلى مستوى أرقى وأكثر حرية وتقدما وأكثر نقاوة أخلاقية (11).

ولهذا يقول في الجواب عن سؤال وجهه إليه محمود سويد في حواره معه الذي صدر في كتاب عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في عام 1977: … أما أمتنا العربية، فهي الآن في المرحلة الأولى من يقظتها ونهوضها لتجابه تحديثات هذا العصر. ولا تزال في بدء تكوّنها تعتريها أمراض العجز السياسي والتخلّف الاقتصادي والاجتماعي والتربوي التي ورثتها من قرون طويلة من الانحطاط والتدهور. فلا هي حصّلت المعرفة الضرورية للعيش في هذا العصر، ولا أحرزت الفضائل لحسن استخدام هذه المعرفة في سبيل التحرر. وهي تُعد اليوم بين المجتمعات المتخلفة «. إن هذا الواقع القومي، في نطاق الواقع الإنساني. يحرك فيّ مشاعر التشاؤم والأسى. ولذا أعيش، في هذه الأعوام الأخيرة، في توتر دائم بين العوامل الإيجابية والسلبية الفاعلة في الحياة المعاصرة عامة، وفي حياتنا العربية، وفي توجهنا المستقبلي خاصة «.(12).

يقول د. كريم مروة:" لقد كوّنت في مخيلتي عن قسطنطين زريق قبل أن ألتقي به، صورة جميلة، من خلال متابعة بعض كتاباته في مرحلة التسعينيات. وسرعان ما جاءت لقاءاتي معه لتعمّقها ولتؤكد الكثير من ملامحها. وقد جاءت تلك اللقاءات بعد اتصال هاتفي أجريته معه بواسطة صديقنا المشترك أنيس الصايغ. إذ توجهت اليه عبر الدكتور صايغ ثم بالهاتف بطلب المساهمة في محور عن أزمة الفكر القومي كان ماهر الشريف يعده لمجلة الطريق» في أواسط التسعينيات. اعتذر يومها عن المساهمة في المحور لأسباب صحية كما فهمت منه. لكنه رحّب بلقاء قريب معه. ثم مر عامان على ذلك الاتصال من دون أن نلتقي. وذات يوم، إذ كنت خارجاً من منزل صديقنا الأديب الراحل منير بعلبكي بعد تقديم التعازي بوفاته، التقيت أمام باب المصعد الدكتور زريق فعرّفته بنفسي. فكان شديد الترحيب بي وعاتبني على عدم الوفاء بالوعد باللقاء. واتفقنا على موعد ذهبت إليه برفقة صديقنا المشترك صقر أبو فخر (13).

وقد توفي الدكتور قسطنطين زريق في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت عن عمر ناهز 91 عاماً في 12 آب 2000،. وكان أخر لقاء صحفي أدلى به قد نُشر في جريدة الخليج بتاريخ 10 كانون الأول 1999، أي قبل ثمانية أشهر من وفاته. وصفته الجامعة الأميركية بالقول: "كان عملاقاً في عصره، ومع ذلك اتسمت شخصيته بالتواضع واللطف، وكان يعامل الجميع، طلاباً كانوا أم قادة دول، بنفس الرسمية والاحترام." (14).

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

....................

المراجع:

1- عبد الغني عماد: قسطنطين زريق الداعية والمفكر القومي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، 2012، ص 7.

2-المرحع نفسه، والصفحة نفسها .

3- المرجع نفسه، ص 8.

4- أنا برس- حنان عقيل: قسطنطين زريق.. شيخ المؤرخين العرب، 2017-Jul-02.

5- المرجع نفسه.

6- المرجع نفسه.

7- المرجع نفسه.

8- عبد الغني عماد: المرجع نفسه، ص 11.

9- المرجع نفسه، ص 12.

10-د. كريم مروة: قسطنطين زريق، الأهرام، السبت 23 من شعبان 1435 هــ 21 يونيو 2014 السنة 138 العدد 46583

11- المرجع نفسه.

12- المرجع نفسه.

13- المرجع نفسه.

14- عزيز العظمة (2004). قسطنطين زريق: عربيّ للقرن العشرين، ص 66. بيروت: مركز الدراسات الفلسطينية.

في المثقف اليوم