شهادات ومذكرات

رحل مظفر النواب على درج النور

حسان عزتحادي الحرية وقمر القدس الدامي بعد صراع طويل مع الموت

لعلّ يَرى من شعاعٍ لحلمٍ تغنّاهُ

دهرا ثم يموت

الظاهرة وحده بكلية شعشعانية شعبية تقوم بمهرجانها فريقٌ في واحد وواحدٌ بجموع..

فإن أنشد مظفر أو أقامَ أمسيةً انتشرت تسجيلاتها وصداها كالهشيم من محيط إلى خليج، بشعبوية تعبر عن غضبها وتمردها، وتسبُّ ظلّامها بأفظعِ مسبّةٍ وشتيمةٍ لم يبلغها شعرٌ عربي من قبل بِمَجازاتٍ وتوريات، ليجعلَ الشعراءَ بعدَه في حَيرةٍ وأسئلةّ متشعبة بين مؤيّدٍ حارٍ، ومعارضٍ رافضٍ، لكنّ مظفرَ الذي يبدأ من حنان الأشياء القريبة من، شروق شمسٍ وزهرٍ وتفتّحاتٍ وأشواقٍ أولى ويتصاعدُ معها بشعره كشلّال، وعواصفِ بركانٍ، بحزنٍ من أعمق قيعانِ الحزنِ المتوقّد الذي لا يموت، وهو في رقّته تغار منه رهافات الياسمين والبنفسج الحزين الذي لا يجارى، وفي غضبه لا يدعُ شَنّاً في شنانٍ ولا سهماً في كنانةٍ إلا ويؤجّجُه غضباً وسعيراً على خونةٍ في حكم، وأمّة لا تغار وتثور كرامة لقدس مهتوكةٍ، وإن غنّى وشجا (للريل وحمد) فبشجن الحادي الردّاد الذي يسبرُ غورَ روحِ العراقِ المجيد في أعماق تاريخه، ومفردات أغواره، وأهواره التي بقيتْ وقّادةَ شجنٍ على الدهور..

وهو نفسه النواب صاحب قصيدته براءة التي تخاطب بها الأم ابنها الشيوعي الذي خانَ صحبه، واعترف عليهم.. وهي القصيدة الأولى التي أشاعها له الحزب الشيوعي العراقي أولا، ثم تناقلها الماركسيون ومتطلعو الحرية العرب، حتى شاعت في أوساط وعموم الناس، وحفظوها وردّدوها:

“يا ابني ظلعك من رشيت القلب كبّرته وبينيته”.

الحادي العارم:

ومظفر النواب هو الحادي الأكثر شعبية وحرارة، وإنشادا فاجعاً بالعامية والفصحى. وأبداً في النوعين الفصيح والعامي حافظ على اللغة العالية والباهرة، ولم يتخلّ عنهما ألقاً وفنيةً في معلقاته “القدس وفي وترياته وفي الريل وحمد”، وعندما زار العراق بعد الاحتلال لم يتحمّل خرابَه وفاجعَته وأصاب الجرح قلبه، فآثر المنفى والانطفاء في أحد مستشفيات الشارقة العربية، برعاية حاكمها الشيخ سلطان القاسمي.

كان أبو عادل مظفر صديق رحلاتنا، وسهراتنا، وليالينا في الشام، وله تسجيلات قصائد في جلساتنا معه وهي عندي لم تنشر بعد، ومنها قصيدة له عن الرحلة التي شرفني بها ومجموعة الأصدقاء إلى بستاننا في المليحة، ثم في زيارته الثانية مع سعدي يوسف وسيف الرحبي وجليل حيدر، وسأكشف عن تلك القصائد يوماً.

كلمة أخيرة أقولها فاجعة وصافعة لمثقفين عرباً يشككون بكل شيء ويستريبون بكل شيء، ويطلقون الأحكامَ جزافاً على الشعر والشعراء، في غياب النقد الموضوعي المحلل بذائقة وفنيات أعلى، لا تخرج الكلم عن مواضعه ولا تنظر إليه خارج تواريخه المعاصرة التي قيل فيها.. أقول:

أنتم لم تقرؤوا أعمال النواب في تصوّفه وخلاصات عشقه:

” كلّ ما في الكون مقدارٌ له

إلا الهوى ما يومه يومٌ ولا مقداره

مقدار”.

ولم تقرؤوا خلاصات عشقه وذوبِ روحه في الوطن وأشيائه، ومخلوقات الطبيعة والعشق في أرضه وفي عربستان التي هو في الأصل منها، ويتغزل بها بصباياها، ويعتز بعروبتها المبددة أمام إيران التي اغتصبها، بل يعني على عرب بوجوه وألسنة إيرانية، أو وهو يغني للشام ويذوب في جمالها وشمسها وآفاق رحابها، وهو الذي سكب روحه في أهاليج ومعلقات لم يكتبها غيرُه، فهل تجرؤون على قراءته بتجرد عن ذاتياتكم المتخمة بأحكام برانية، ومواقف مسبقة؟

أحكام من فصلوا عن مهادهم وفطرات شعب عربي يمتد من المحيط إلى الخليج، يعرف من يمثلون ضميره، ويكون سبقاً بثورات ربيعه قبل النخب، ونظرياتها الرمادية المتكلسة، والمتعالية على الفعل العميق إنسانيا ومعرفياً.

 

كلمة النقد الموضوعي:

مظفر النواب شاعر مرحلة مشروع عربي في حضوره، وانحلاله   وسقوطه، وهو ما يضع على كلّ فنان وشاعر فيه سؤال الموقف الواضح والانتماء إلى نبض ثورات الحرية وزخمها والوقوف منها، معها أو ضدها أو في الطرف الرمادي، وهو سؤال يطال كل الفنانين والشعراء، ومظفر الظاهرة منهم، وشعر مظفر وما قاله أصبح الآن أمام محكمة النقد والمساءلة والضمير..

مع التأكيد على ضرورة توثيق الشعر بأمكنته وتواريخ كتابته.. عند تقييم تجربة شاعر عربي كبير، هو مظفر النواب. رحم الله الشاعر عربي مجيد، في شرفات شعره وروحه العالي.

سألني صديق هل وقف مظفر النواب مع ثورة الخميني؟؟

الجواب: ثورة الخميني وقتها ثورة رفعت شعارات الحرية ضد الظلم، وتحالف معها حتى مجاهدو خلق، وكانت مبطنة الانقضاض والفرسنة ضمناً، وعموم أحرار العالم أيدوها أو تعاطفوا معها، ليس مهماً من فعل ذلك في تلك المرحلة، الأهم من رفضها فيما بعد وكشف زيفها وعدوانيتها الطامعة والقائمة على أحقاد ومظالم تاريخية يستدّ أصحابها الآن من بشر لا علاقة لهم، وليسوا هم من أقام تلك المظالم. بل تحتل إيران أراض عربية تحت عناوين حماية المراقد ومظلوميات الشيعة..

مظفر وعموم كتاب وأعلام إثنيات وطوائف وقطريات وأيديولوجيات، وقومجانيات، هم ضمن مشكلة إشكالية بالنسبة إليهم، وهي مشكلة الموروث والمنبت بحسب الجماعة الأولى، ويوجد مشكلة اللاتوضع لهم بالنسبة لمركزية بلد، وهوية شعب، ولا بد من تفكيك ذلك بمركزية الديار والمواطنة الحقيقية في بلدان تحقق المعيارية العادلة للجميع على أساس العمل والأهلية، والمواطنة..

مظفر لم يجد وطنه ولا العدالة ولا الأمة الواسعة التي تجعله يتناسى ميراثه الشيعي ورموزه، رغم وضوح عروبته تجاه الأهواز وعربستان التي ينتمي إليها.

***

حسان عزت، أديب وشاعر سوري

في المثقف اليوم