شهادات ومذكرات

محمد أمين مصطفى واصف.. عاشق الفلسفة والحقيقة

محمود محمد عليما زلت أومن أكثر من ذي قبل بأن عشاق الفلسفة موجودون في كل عصر، وهم كثيراً ما يتوقون إلى قراءة تأملات الفلاسفة حول قضايا الوجود والخير والجمال، وهم عادة ما يحبون العيش في دهاليز مذاهب الفلاسفة، ينعمون بفك رموزها واصطلاحاتها، ويشعرون بالسعادة الغامرة، مع القدرة على تفسير آراء هؤلاء الفلاسفة، وفهم أبعادها، ومقارنة آراء هذا بآراء ذاك حول هذه الموضوع، أو غيره من الموضوعات التي تناولوها في مذاهبهم.

وأمين واصف محمد امين (بك) بن مصطفى واصف واحدا من كبار المفكرين المصريين الذي عشقوا الكتابة في الفلسفة رغم كونه ليس متخصصا بها فهو حقوقيٌّ مصري وباحثٌ في علوم الفلسفة والأدب، وقد تولى أعمالا في الإدارة، ثم كان مفتشا عاما لوزارة الاوقاف.

ولم يكن "أمين بك واصف" مجرد مفكر مبدع نذر حياته للبحث عن الحكمة متذرعاً بمبادئ الحق والخير والجمال، لكنه كان – قبل كل ذلك إنساناً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى . إنساناً في تفلسفه، ومفكراً في إنسانيته، وبين الإنسان والفكر تتجلى شخصية إبراهيم ياسين متعددة الأوجه، كمترجم وكناقد وكأديب.

و"أمين بك واصف" هو واحداً من الباحثين المصريين الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفلسفة  من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارمة إلى أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

ولهذا يعد "أمين بك واصف" أحد الأسماء الهامة واللامعة في سماء تخصص الفلسفة في العهد الملكي قبل الدكتور محمد غلاب  بفترة طويلة ؛ حيث أسهم بقسط وافر في بناء هذا الصرح، وتعد لبناته الفكرية والأدبية التي وضعها بالجهد والعرق بمثابة الأساس الذي بني عليه الكثيرون من أساتذتنا الكبار مشاريعهم الفكرية، ورؤاهم الفلسفية .

وحول سيرته الذاتية كما يخبرنا موقع مكتبة هنداوي عنه بأنه هو محمد أمين بك واصف نجل المرحوم مصطفى بك واصف من ضباط الجيش المصري سابقًا، المتوفى إلى رحمة ربه في حادث الفيوم سنة ١٨٨٨م المشهورة بقضية الدهشان.

وقد وُلِد "محمد أمين بن مصطفى واصف» بالقاهرة في ١٩ يناير سنة ١٨٧٦، فغذاه والده الجليل بلبان الأدب والفضل والاستقامة، ولما أن شب عن الطوق أدخله مدرسة الحسينية الابتدائية الأميرية، وعندما حصل منها على شهادة الدراسة الابتدائية أدخل المدرسة الخديوية الكائنة بدرب الجماميز، ونال منها شهادة البكالوريا سنة ١٨٩٠م، ثم التحق بمدرسة الحقوق وبجده ونشاطه، وحسن استقامته أحرز شهادة الليسانس منها سنة ١٨٩٥م بنجاح عظيم، علاوة علي أنه خدم في الحكومة المصرية؛ حيث تولَّى أعمالًا في الإدارة، ثمَّ عُيِّن مفتشًا عامًّا لوزارة الأوقاف، وكان عونًا ﻟ "مصطفى كامل" في عمله الوطني.

وعند حصول "أمين بك واصف" علي شهادة البكالوريا عين معاونًا للإدارة بمديرية الجيزة على عهد السير الدن غورست، ثم نقل لمديرية أسيوط ثم رقي مأمورًا لعدة مراكز، ومن ثم وكيلًا لعدة مديريات فمديرًا لمديرية القليوبية فالجيزة إلى أن عين مفتشًا عامًّا لوزارة الأوقاف، عندما جعلت وزارة كباقي وزارات الحكومة، ثم اعتزل الخدمة على أثر الانقلاب السياسي الخطير كما قدمنا.

وقد لقي "أمين بك واصف" من ضروب العنت إبان تربعه في كراسي الإدارة الحكومية إزاء نزعته الوطنية، مما دعا إلى السعي في عزله هو وآخرين في آخر عهد الخديوي عباس حلمي باشا السابق، ففشل الساعون إلى الانتقام وباءوا بالخسران، ثم تجددت المساعي على أثر الانقلاب السياسي الخطير، فاعتزل الخدمة، وإن كان عزته قد ترك أعمال الحكومة ومتاعبها، إلا أن ما حازه من الشهرة الوطنية والثبات على المبدأ يكفيانه فخرًا وشرفًا في بطون التاريخ.

ولـ "أمين بك واصف" ولع شديد بالصحافة منذ عهد التلمذة لزمالة فقيد الوطن والوطنية المرحوم مصطفى كامل باشا، ولما عرف فيهما ذلك الولع «وهما طلبة بمدرسة الحقوق» المغفور لهم لطف باشا سليم وبشارة باشا نقلا والشيخ علي يوسف، شجعهم الأول وأمدهم بأفكاره الواسعة، ومبادئه الجليلة، كما أعد لهما الآخران صحائف جريدتهما على أوسع رحاب.

وقد صادف "أمين بك واصف" عند وجوده مديرًا للقليوبية ظهور تعديل القانون النظامي للحكومة المصرية، وزيدت اختصاصات مجالس المديريات وأضيف التعليم الأولي الابتدائية لعهدتها، فكان مجلس مديرية القليوبية أسبقها إلى نشر التعليم، وتشييد دوره، فأنشأ مدارس ابتدائية بقليوب وطوخ وشبين القناطر بعد نقل مقر المركز إليها، وقد كان في نوى، ثم مدرسة للبنات ببندر بنها ثم المدرسة الصناعية بطوخ، وقد شيدت باكتتاب عام من أعيان المديرية في عهد المرحوم عبد الغني بك شاكر المدير الأسبق، ثم أنشأ ثمانين كتابًا في أنحاء المديرية المختلفة.

وقد أثنى عليه المؤتمران الإسلامي والقبطي بأسيوط لإمكانه التوفيق بين نظام التعليم الإسلامي والمسيحي بالمعاهد، التي شيدها بما أرضى الطرفين، وهو صاحب مشروع الخفر النظامي بالبلاد، وانتداب ضباط من الجيش لتنظيمه وتدريسه؛ ولذلك أشار السير الدن غورست بتنفيذ التجربة الأولى بمديرية القليوبية تحت مباشرته، ولعزته من المشاريع العلمية والأدبية والاقتراحات الصائبة فوق ما تقدم بيانه شيء يذكر، وجميعها تشهد بغيرته الفائقة على نشر العلوم والآداب.. وتُوفِّي أمين واصف بمسقط رأسه عامَ ١٩٢٨م.

له مُؤلَّفاتٌ وآثارٌ عدة، منها: "فرائد التعليقات في شرح قانون العقوبات"، و"مناهج الأدب"، و"أصول الفلسفة"، و"مبادئ الفلسفة"، و"خريطة العالَم الإسلامي» والمعجم الخاص بها الذي سمَّاه "الفهرست"، أربعة أجزاء صغيرة، و"شرح قانون تحقيق الجنايات" وفرائد التعليقات في شرح قانون العقوبات"، ورسالة في علم النفس، وشارك في تأليف "اتحاف أبناء العصر بتاريخ ملوك مصر".

ويعد كتابه أصول الفلسفة من الكتب المهمة التي أحاطت بالكامل بموضوع الكتاب وشملت دراسة كل جوانبه دراسة بحثية معمقة ومنقحة و التي من شأنها اثارة اهتمام الباحثين والطلاب.

فقد كانت الفلسفة كما يري "أمين بك واصف" في العصور القديمة مجموع العلوم المعروفة وقتئذ وكان الفيلسوف يحيط بعلومه وقته وفنونه من لغات وطبيعيات وآلهيات وفلك وموسيقي وشرئع وطب وغيرها، وكان الأمر أو ما يقرب في القرون الوسطي إذ كان في الطاقة البشرية الإلمام بجملة العلوم والفنون .

ثم يؤكد "أمين بك واصف" فيقول:" أما وقد اتسعت المعارف البشرية اتساعها المعهود وتشعبت العلوم العصرية، فقد اصبح في غير مقدور الإنسان أن يجمع معارف عصرنا هذا، ولو حاول أن يلم ببعضها ببعض مثل البحث في أصول الكائنات وطبيعتها والخواص الذاتية لها ومكانها من الوجود وما تصير إليه غايتها ما عدا أحوال الأجسام وخواصها العرضية فإن البحث فيها من شؤون العلوم الخاصة بها لأن العلوم الوضعية كلها تشتغل بكب ما يعرض للموجودات وأصل وجودها فإن ذلك من خصائص الفلسفة .

وحول تعريف الفلسفة فيؤكد "أمين بك واصف" علم المبادئ والعلل – علم البحث عن العموميات العالية للكائنات – علم البحث في النفس والعالم وخالق الموجودات من طريق النظر الفكري، وفي اعتقاده ان الفلسفة علم له صفة خاصة، وهي البحث عن العلل والمبادئ لأن معرفة الأشياء على طريقين: معرفة بسيطة عامة كما يفهمها كل إنسان، ومعرفة مع الاستقصاء بواسطة المباحث العقلية التى ترتقي بالباحث إلى المبادئ أو الأصول العالية للأشياء وعللها الأصلية .

ولم يكتف "أمين بك واصف" بذلك بل يؤكد أن الفلسفة علم عقلي أساسه النظر والفكر وبها امتازت من علوم الدين القائمة على ما وصل إلينا من تبليغات الرسل عليهم السلام، ولقد أعجب أهل الفلسفة من المسلمين على قلة عددهم ما نقل إليهم في القرن الثالث عن أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان، فرجوا بأنفسهم في المجادلات الدينية.

وفي الجزء الثالث من الكتاب تحدث "أمين بك واصف" عن علم المنطق حيث اعتبره بأنه قسم من الفلسفة خاص بالبحث في قوانين الذهن البشري وعلاقتها بالحقائق فهو فيما يتعلق بالبحث عن هذه القوانين يسمي علم الحقيقة وفيما يتعلق باستنباط القواعد المرشدة للذهن من هذه القوانين يسمي فن التفكير، والأول يسمي منطق الشكل، والثاني منطق المادة (أي تطبيق المنطق) .

وفي منطق الشكل يؤكد "أمين بك واصف" بأنه لا بد من دراسة اليقين والاحتمال، ففي اعتقاده أنه قبل دراسة القوانين التى تهدي الإدراك العقلي إلى الحقيقة نري من السداد معرفة الأحوال المختلفة للذهن في علاقاته بالصدق والكذب، فمصلا إذا حصل على الصدق كان علما، وغن امتنع عليه كان جهلا، وإذا تردد بينهما كان شكا وهذا ما أسماه بوسويه بطابع الإدراك العقلي، وسماه ليبنتز وجون لوك بدرجات الموافقة، ومتي حصلنا من طريق النظر على شئ مؤكد وفهمنا أسبابه وكسبنا ملكة تذكرة سمي ذلك علما، ونقيضه يسمي جهلا، واليقين في نظر أمين بك هو ركن العلم، وهو حالة الذهن حين تطابق الحقيقة، والشك هو الإمساك عن الحكم .

ولليقين في نظر "أمين بك واصف" ثلاثة أنواع: يقين طبيعي، كالحاصل من المشاهدة، ويقين عقلي وهو الحاصل بالبرهان، ويقين أدبي كالحاصل من شهادة أشخاص لا يشك في صدقهم أو من الاجماع، والمناطقة لا يعتبرون هذا اليقين إلا ظنا قويا .

وقد شاءت الأقدار أن يكون كتاب أصول الفلسفة ومبادئ الفلسفة لـ "أمين بك واصف" هما المقرر الدراسي لمادة الفلسفة والمنطق في الثانوية العامة أو البكالوريا كما كانت تسمي في ذلك الوقت، واستمر هذا الكتاب يدرس إلى أن تم الاستعاضة عنه بكتاب الفلسفة الذي كتبه كل من أستاذنا الدكتور  إبراهيم بيومي مدكور ويوسف كرم، بالإضافة إلي كتاب "المنطق التوجيهي" الذي كتبه أستاذنا الدكتور "أبو العلا عفيفي" .

ويطول بنا المقال غير أني لا أملك في نهاية حديثي عن "أمين بك واصف" إلا أن أقول تحية طيبة لهذا الرجل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري مني لهذ الرجلٍ العظيم الذي لم تغيره السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

في المثقف اليوم