شهادات ومذكرات

فرج فودة في ذكراه الثلاثين

في اليومين الماضيين حلت علينا الذكرى الـ30 لاغتيال الكاتب فرج فودة على أيدى متطرفين بمنطقة مصر الجديدة بالقاهرة في يوم الثامن من يونيو عام ١٩٩٢، حيث تم اغتيال الدكتور فرج فوده المفكر العلماني على أيدى مجموعة مكونة من ثلاثة إرهابيين ينتمون تنظيميا للجماعة الإسلامية، حيث انتظره شابان من الجماعة الإسلامية على دراجة بخارية أمام الجمعية المصرية للتنوير، والتي يمكث فيها مكتب فرج فودة، وعند خروجه من الجمعية بصحبة ابنه وأحد أصدقاءه، وفى أثناء توجههم لركوب سيارة فرج فودة، انطلق أحد المتهمين بالدراجة البخارية وأطلق الرصاص من رشاش آلي فأصاب فرج فوده إصابات بالغة في الكبد والأمعاء، بينما أصيب صديقه وابنه إصابات طفيفة، وانطلق الإرهابيين هاربين.

ولا شك كانت صدمة كبيرة أصيب بها المصريون آنذاك بعد اعتراف أحد المتهمين فى قضية اغتيال فرج فوده، خلال التحقيقات بأنه قتل فودة بسبب فتوى عمر عبد الرحمن مفتى الجماعة الإسلامية بقتل المرتد في عام 1986، معترفا أنه تلقى تكليفا من صفوت عبد الغنى، القيادي بالجماعة، بقتل فرج فودة، وقد حملت سيارة إسعاف فرج فودة إلى المستشفى، حيث قال وهو يحتضر "يعلم الله أنني ما فعلت شيئا إلا من أجل وطني.. حاول جراح القلب الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء إنقاذ حياة فرج فودة، لمدة ست ساعات، لفظ بعدها أنفاسه الأخيرة، كما حمل ابنه أيضا إلى المستشفى حيث تعافى من إصاباته.

وفرج فودة كاتب ومفكر مصري علماني. ولد في 20 أغسطس 1945 ببلدة الزرقا بمحافظة دمياط في مصر. وهو حاصل على ماجستير العلوم الزراعية ودكتوراه الفلسفة في الاقتصاد الزراعي من جامعة عين شمس، تم اغتياله على يد الجماعة الإسلامية في 8 يونيو 1992 في القاهرة. كما كانت له كتابات في مجلة أكتوبر وجريدة الأحرار المصريتين.

"  فمثلا من كتاباته:  الحقيقة الغائبة"، "زواج المتعة"، "حوارات حول الشريعة"، "الطائفية إلى أين؟"، "الملعوب"، "نكون أو لا نكون"، "الوفد والمستقبل"، "حتى لا يكون كلامًا في الهواء"، "النذير"، "الإرهاب"، "حوار حول العلمانية" و"قبل السقوط".

وقد أثارت كتابات د. فرج فودة جدلا واسعا بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين، واختلفت حولها الآراء وتضاربت فقد طالب بفصل الدين عن السياسة والدولة وليس عن المجتمع، وكانت جبهة علماء الأزهر تشن هجومًا كبيرًا عليه، وطالبت لجنة شئون الأحزاب بعدم الترخيص لحزبه، بل وأصدرت تلك الجبهة في 1992 "بجريدة النور" بياناً بكفره.

وقد شارك فرج فودة في تأسيس حزب الوفد الجديد، ثم استقال منه وذلك لرفضه تحالف الحزب مع جماعة الإخوان المسلمين لخوض انتخابات مجلس الشعب المصري العام 1984. ثم حاول تأسيس حزب باسم "حزب المستقبل"، وكان ينتظر الموافقة من لجنة شئون الأحزاب التابعة لمجلس الشورى المصري، وأسس الجمعية المصرية للتنوير في شارع أسماء فهمي بمدينة نصر، وهي التي اغتيل أمامها.

وقد عرف فرج فودة خلال المعارك الحزبية التي اتسمت بها الفترة الرئاسية الأولى للرئيس محمد حسني مبارك (1981-1987). ولقد كانت أولى معاركه داخل حزب الوفد الجديد نفسه، خاضها لمنع تحالف الحزب مع الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية في عام 1984. وقد دون فرج فودة أفكاره السياسية خلال هذا الصراع في كتابه الأول "الوفد والمستقبل" (1983)، وفشل فرج فودة في منع ذلك التحالف، والذي قاده داخل الحزب الشيخ صلاح أبو إسماعيل (1927-1990)، ونجح بفضله الوفد في الحصول على 58 مقعدا (15% من مجلس الشعب)، واستقال فرج فودة من الحزب في 26 يناير 1984.

في ذلك الحين رأى فرج فودة انتصار التحالف الإسلامي ونجاح الإخوان المسلمين خطرًا حقيقيًّا على الدولة، لا يقل عن إرهاب الجماعات الإسلامية في السبعينيات الذي انتهى بإسقاط رأس الدولة، وأشار فودة إلى أن التيار الإسلامي قد تعلم من خطئه في انتخابات 1984 التي خاضها تياره التقليدي (الإخوان) الساعي في رأيه إلى "تحقيق الإرهاب بالشرعية" بدون تأييد تياره الثوري (جماعات الإرهاب المسلح) الساعي إلى "ضرب الشرعية بالإرهاب"، ليتوحد التياران في انتخابات 1987: "ويمكننا أن ندرك حجم ما حدث من تغيير في فكر أعضاء تنظيم الجهاد، إذا قارنا ما سبق، بحديث مفتيهم ومنظرهم وإمامهم عمر عبد الرحمن لجريدة الشعب قبيل الانتخابات عن أنه يؤيد التحالف… وأكثر من ذلك فإن أشهر أمراء الجماعات في المنيا قد رشح نفسه على قائمة التحالف ودافع عن شعاراته وراياته، وأصبح عضوًا في المجلس بالفعل، وزامل في عضويته أعضاء آخرين، كانوا أمراء للجماعات الإسلامية وقت أن كانوا طلابًا، وأصبحوا ممثلين لهذا التيار في نقاباتهم المهنية." كذلك فإن الحملة الانتخابية للتحالف تم تمويلها عن طريق بيوت توظيف الأموال الإسلامية والتي تمثل ما أسماه فرج فودة باسم "التيار الثروي."

وفي عام 1990 نشر فرج فودة كتاب "نكون أو لا نكون"، والذي ضم عدة مقالات بعضها رفض نشره. وأمر الأزهر بمصادرة الكتاب بعد طبعه، إذ تضمن نقدًا حادًّا لشيخ الأزهر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (1917-1996) نتيجة لاتهامه المدافعين عن الدولة المدنية بالخارجين عن الإسلام، وهو ما عده فودة تجاوزا لدور الأزهر الرسمي، وقذفًا لفريق من خيار المسلمين المجتهدين. وكتب فودة رده في مقال نشر بجريدة الأهالي في مارس 1988 وتضمنه الكتاب جاء فيه: "لشيخ الأزهر أن يحمد الله أيضا لأن أحدًا لم يتعرض له، ولم يسأله عن موقع منصبه من صحيح الدين، ذلك الدين القيم الذي لا يعرف كهنوتا، ولا يوسط أحدًا بين الله وعباده، ولا يفسح مساحة لرجال الدين، وإنما الساحة فيه واسعة للموعظة بالحسني، تلك التي لم نجد لها في خطابه تأصيلًا، وللعلم قبل الفتوى، ذلك الذي لم نجد عليه في خطابه دليلًا.. وما ضرنا لو يعلو بك البروتوكول فوق رءوسنا ورءوس المسلمين، وما ضرنا أن تسكن في قصر منيف، وما ضرنا أن تحصل على مرتبك من أموال دولة المسلمين، تلك التي تنعتها بأنها ربوية، وتصف بعض مصادر دخلها بأنها آثمة؛ لأنها تأتي من المشروبات الروحية.. لكن الضر كل الضر أن تتصور أنك يمكنك أن تخيف وأن بمقدورك أن تمنع كتابًا هنا أو تصادر رأيًا هناك، وأن تتخيل أن بيدك خزائن الدين، وأن في جعبتك صكوك الغفران، توزعها كما تشاء، فتغفر لمن تشاء، وتكفر من تشاء … وحاشا لله أن يبلغ بك الظن هذا المبلغ من السوء، وحاشا للإسلام أن يصل فهم البعض له إلى هذا الدرك … الإسلام يا شيخ الأزهر بخير طالما دافع عنه من يدافع، لقاء إيمانه وليس مقابل مرتبه، ولوجه الله وليس لوجه السلطة أو المال أو المنصب، وأزهى عصور الإسلام لم تعرف شيخًا للأزهر أو لغير الأزهر، وإنما عرفت من عاش بكد يده، وتعلم من أجل العلم."

واعتبر فرج فودة أن "الإرهاب لا يعيش، ولا ينمو، إلا في ظل الديماجوجية، وإلا عندما تفقد العين القدرة على التمييز بين الإرهاب وبين الشرعية، وإلا عندما يتنادى البعض بأن هناك إرهابًا مشروعًا وإرهابًا غير مشروع، وإرهابًا مستحبًّا وإرهابًا غير مستحب." ومن ثم فقد أدان احتفاء اليسار المصري بسليمان خاطر (1961-1986) الذي قتل سبعة سياح إسرائيليين (من بينهم أربعة أطفال) وضابط شرطة مصري في عام 1985، واعتبر قتل الدبلوماسيين الإسرائيليين والأمريكان على يد تنظيم "ثورة مصر" إرهابا على الأراضي المصرية. وعندما اندلعت حرب الخليج الأولى في أغسطس 1990، كان فرج فودة من كتاب المعارضة القليلين الذين أيدوا موقف مصر الرسمي لتحرير الكويت. وقد خاض بسبب ذلك العديد من الصراعات السياسية مع كل من الإسلاميين والقوميين المؤيدين لصدام حسين وغزو الكويت.

وحول حكاية المناظرة التى تسببت فى اغتيال المفكر الكبير فقد كان عنوان المناظرة "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية"، انقسم فيها الحاضرون إلى فريقين، الأول إسلامي التوجه ويضم الشيخ محمد الغزالي، ومرشد الإخوان مأمون الهضيبي، والمفكر محمد عمارة، أما الفريق الثاني فضم فرج فودة ومحمد خلف الله أحمد أعضاء حزب التجمع، في مناظرة أعدتها الهيئة العامة للكتاب في مصر ضمن سلسلة من المناظرات على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب.

وبدأت المناظرة بكلمة للشيخ الغزالي ذكر فيها أهمية الحفاظ على الهوية الإسلامية وتبعه المستشار الهضيبي المتحدث باسم الإخوان الذي ركز على أهمية أن يكون الجدل والنقاش بين "الدولة الإسلامية" و"الدولة اللاإسلامية" مؤكدا "أن الإسلام دين ودولة وليس دينا فقط"؛ وخلال هذه الكلمات كانت الصيحات تتعالى والصرخات تشتد والحناجر تزأر؛ وتخيف كل من يعترض على أحاديث الغزالي والهضيبي.

من جانبه، كان فرج فودة آخر المتحدثين؛ أمسك الميكروفون وبدأ كلماته بالرد على ما دار من حديث، وجاء فيها "الإسلاميون منشغلون بتغيير الحكم أو الوصول إليه دون أن يعدوا أنفسهم لذلك"، مشيراً إلى ما قدمته بعض الجماعات المحسوبة على الاتجاه المؤيد للدولة الدينية، وما صدر عنها من أعمال عنف وسفك للدماء، مستشهداً بتجارب لدول دينية مجاورة على رأسها إيران قائلًا: "إذا كانت هذه هي البدايات، فبئس الخواتيم"، ثم قال للجميع "الفضل للدولة المدنية أنها سمحت لكم أن تناظرونا هنا، ثم تخرجون ورؤوسكم فوق أعناقكم؛ لكن دولا دينية قطعت أعناق من يعارضونها".

وتابع فودة في كلمته: "لا أحد يختلف على الإسلام الدين، ولكن المناظرة اليوم حول الدولة الدينية، وبين الإسلام الدين والإسلام الدولة، رؤية واجتهاداً وفقهاً، الإسلام الدين في أعلى عليين، أما الدولة فهي كيان سياسي وكيان اقتصادي واجتماعي يلزمه برنامج تفصيلي يحدد أسلوب الحكم". لينهي كلمته بالدعوة إلى الله أن يهتدي الجميع بهدي الإسلام، وأن يضعوه في مكانه العزيز، بعيدا عن الاختلاف والمطامع".

وبعد كلمات فودة، سرعان ما انطلقت صيحات الاستهجان، التي بدأت معها حملة التجييش الإعلامي ضد فكر الرجل وتصريحاته، حتى وصلت الرحلة إلى المحطة الأهم في الثالث من يونيو 1992، حين نشرت جريدة النور الإسلامية، التي كان بينها وبين فرج فودة قضية سب وقذف، بيانا من ندوة علماء الأزهر مُوقَّع من عدد من كبار الدعاة الإسلاميين في الدولة، يكفِّر فرج فودة ويدعو لجنة شؤون الأحزاب لعدم الموافقة على إنشاء حزبه (المستقبل).

وفي 3 يونيو 1992 أصدرت جبهة علماء الأزهر التي يترأسها الإخوان فتوى بتكفيره، وبعد خمسة أيام في 8 يونيو 1992 وقبيل عيد الأضحى، قام مسلحان منتميان للجماعة الإسلامية باغتياله أمام الجمعية المصرية للتنوير التي أسسها.

وقال الدكتور ثروت الخرباوي، المفكر والباحث في الشئون الإسلامية، إن المحرضين على قتل فودة كثيرون، فقد كان الرجل ملء السمع والبصر، وحجر عثرة في طريق جماعات الإسلام السياسي، ويمتلك قدرات غير عادية فى تفسير النصوص، وأضاف أنه إضافة لجبهة علماء الأزهر الإخوانية، كان للدكتور محمد عمارة، الذي يصفونه بالفيلسوف الإسلامي، دور في التحريض على قتل فرج فودة بدعوى أنه ارتد عن الإسلام.

***

د. محمود محمد علي

........................

المراجع:

- حسام الحداد: في ذكرى "فرج فودة".. شهيد الفكر التنويري، بوابة الحركات الإسلامية، الأربعاء 08/يونيو/2022 - 10:48 ص.

2- سعيد حجازي وعبدالوهاب عيسي: في ذكري وفاته.. تعرف على أبرز معارك فرج فودة والمحرضين على قتله، الوطن، الإثنين 11 مايو 2020.

3- محمد زكريا: في ذكرى رحيله الـ٢٩.. قصة المناظرة التي تسببت في اغتيال فرج فودة، فيتو ، الثلاثاء 08/يونيو/2021 - 03:10 ص.

في المثقف اليوم