شهادات ومذكرات

غواص في سيرة بني هلال

محمود محمد عليالشعر الشعبي أو النبطي أو البدوي اختلفت المسميات ولم تختلف التراكيب وبحث وكتب الكثير من النقاد في هذا الشعر وتوصلوا إلى أن الشعر الشعبي هو: شعر عربي ملحون، خرج على ضوابط العرب في كلامهم المعرب حافل بالأصوات والمفردات والتراكيب الشعبية الدارجة، وهو أشهر أنواع الشعر غير الفصيح وأكثرها انتشاراً في شبه الجزيرة العربية وعلى ألسنة سكانها. وقد سمي بالنبطي تشبيهاً له بكلام النبط لخروجه عن قواعد العربية فكأنه كلام النبط الذي يلحنون به ولا يقيمون إعرابه، وقد انتشر هذا النوع من الشعر في الجزيرة العربية منذ قرون بعيدة وبدأ نظمه على ألسنة الشعراء البارعين في جميع الأحوال.

ويعد ابن خلدون المؤرخ العربي أول من ذكر الشعر الشعبي تحت اسم الشعر (البدوي) وذكر ذلك في مقدمته التي كتبها في عام 808هـ فقد أورد عدة نصوص شعرية في مقدمته نسب بعضها إلى بني هلال، الذين ينتسبون إلى هلال بن عامر، وهم قبيلة عربية هوازنية قيسية مضرية عدنانية سكنت قبل هجرتها من الجزيرة العربية إلى الشام ثم صعيد مصر ومنه إلى شمال أفريقيا بجوار أبناء عمومتها من القبائل القيسية مثل سليم " سليم" و" هوازن" و"عامر" بلاد الحجاز ونجد حيث الأرض صحراوية جافة تكتنفها حمم بركانية بازلتية سوداء، تقوم الحياة فيها على آبار قليلة مترامية وبعض الأمطار، وكانت تلك القبائل تتحكم في الطريق إلى المدينة وشعاب نجد والسبل المؤدية إلى الخليج حتى أثر يهود المدينة وتجار مكة التحالف معهم طوال العصر الجاهلي تقريبا، وأمحلت نجد وأجدبت فترات كثيرة واضطرت تلك القبائل للتنقل والترحل بحثا عن المرعي، لكن هضاب نجد البركانية السوداء، ظلت هي الوطن والمآل الذي اكتسبت منه صفاتها الأصلية، مما طبع هؤلاء النجديين من هلال وسليم وغيرهما بطابعه البدوي العنيف وتعبر مناصرتهم للقرامطة عن نزوعهم نحو العنف والتمرد.

وحول الحلف القيسي، فقد عرفت هذه القبائل بطبيعتها المحاربة وصراعاتها القبلية وهجراتها الطويلة وأحلافها، وألفت تلك القبائل النجدية جناحا مهما في الحلف الشمالي العداناني القيسي في نزاعهم مع عرب الجنوب القحطانيين واشتهرت كل قبيلة منها بأيامها وفرسانها وتراثها القبلي، وانضوي بنو هلال في هذا النزاع في الحلف القيسي المكون من سليم وعامر وهوازن في محاربة عرب الجنوب اليمانيين، ولم تكن تلك القبائل النجدية القيسية تشكل أحلافا لها مع تاريخ قبلي مشترك فحسب، بل كونت حاضنة قبلية مختلفة ومتمايزة عن غيرها، وكانت لهم لهجة دارجة يتفاهمون بها في حياتهم اليومية لم تتوفر لها مدونات، وإن كانت تظهر في قراءات القرآن الكريم إلى جانب الفصحي التي شكلت لغة أدبية.

ولاحظ باحثون أن بدو بني سليم كانوا لا يقفون على السكون، بل يبيحونه في كلامهم ولو كان في صدر أو بطن الجملة، وأن المفردات التي ينطقون بها فضيحة أو تنحدر من جذر فصيح، وأن الاختلاط بين تلك القبائل وبين السكان الأصليين أدي لديهم إلى تحول في النطق للتسهيل ولظروف اقتضها الملاءمة الحياتية بين اللهجات .

وحول هجرة قيس الكبرى، فقد اشتهر الحلف في أيام العرب زمن الجاهلية بحروبه الطويلة مع عرب الجنوب، إلى جاني نزاعاتهم وحروبهم الكثيرة فيها بينهم، وكانوا وثنيين مخلصين لآلهتهم، مثل أصنام ذي الخلصة وخثعهم وبجيلة، ولما بعث النبي صلي الله عليه وسلم بالإسلام عادته بعض القبائل الشمالية بشدة رغم قرابتهم له، ومن دخل الإسلام في حياة النبي نكث عهده بعد ذلك وانضم إلى حركة الردة التي فشت في جزيرة العرب، لكنهم هزموا لاحقا وعادوا إلى الإسلام.

وبعد فتح مصر عام 641 للهجرة، شعر الأمويون الذين ينتمون أيضا إلى القبائل القيسية بغلبة العنصر السبئي اليمني علي الجيش العربي وجنوده الذين استقروا في الفسطاط، حيث كانت معظم القبائل التي تكون منها جيش الفتح قحطانية يمينية، واقترح متولي خراج مصر على الخليفة " هشام بن عبد الملك" استقدم قبائل قيسية لإحداث توازن داخل الجيش ن وفي العام الهجري 109 بدأت هجرة قيس الكبرى إلى مصر وظلوا ينتقلون إليها مع أحلافهم وأبناء عمومتهم .

ثم جاء عهد الخليفة الفاطمي " العزيز بالله" الذي استقدم بعض القيسية باتجاه صعيد مصر والعدوة الشرقية، وكانت موجة هجرة القيسيين إلى مصر في عهده من أقوى الهجرات العربية التي سلكت ديار الشام ثم استقرت في الإقليم الشرقي عبر الطريق الذي عرف كثيرا من الهجرات، وكانت تسكنه بطون منهم منذ العصر الأموي، لكنهم ما لبثوا أن أثاروا القلاقل وأغاروا على قري الدلتا للنهب، وسرعان ما ضاق الخليفة بما سببوه من خراب فطردهم إلى صعيد مصر.

وحول الهجرة إلي شمال أفريقيا، فقد ثارت بلاد المغرب علي الحكم الفاطمي، وخلع ملك صنهاجة " المعز بن باديس " طاعة الفاطميين متحولا إلى الخليفة العباسي، وفي الوقت ذاته كانت في مصر قبائل بني هلال وبطن من سليم خؤولته من بني هلال، وأشار وزير البلاط الفاطمي " الحسن بن علي اليازوري" باصطناعهم وتوليتهم أعمال أفريقيا، ودفعهم إلى حرب صنهاجة، فهزمت هاتان القبيلتان " ابن باديس" ووصلتا تونس وحاصرتا القيروان واقتسمتا بلاد أفريقيا، فأخذت سليم صحراء طرابلس، بينما أخذ بنو هلال تونس وغربها .

وقد سجل " ابن خلدون" تلك الرحلة الكبرى، نحو شمال أفريقيا في: باب بعنوان " الخبر عن دخول العرب من بني هلال وسليم المغرب"، وقال:" لما جاز بنو هلال وبني سليم إلى أفريقية والمغرب منذ أول المئة الخامسة وتمرسوا بها لثلاثمئة وخمسين سنة، فقد لحق بها وعادت بسائطها خرابا كلها بعد ان كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمرانا تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القري والمدر" .

وحول ميلاد الشعر الملحمي البدوي، فقد برزت التغريبة الهلالية من نجد لشمال أفريقيا كعلامة فارقة في أشعار البدو القيسيين، وتروي قصة خروج شعب صحرواي بحثا عن الكلأ، لكنها استمرت قرنا أو يزيد، وخلفت تراثا أدبيا شعبيا من ملاحم وسير وأشعار وأبطال أسطوريين، وما زالت الذاكرة الشعبية تحفل بأسماء أبطال التغريبة أبو زيد الهلال ويونس ودياب بن غانم، بجانب بطولات نساء رافقن هذه التغريبة الجازية الشريفة وعزيزة الهلالية وخضرة الشريفة والدة أبي زيد الهلالي وشقيقته شيحة، واحتلت فيها المرأة مكانة اجتماعية، وعبرت من خلال الحكاية الشعبية عن حضورها البطولي، وارتبطت التغريبة بأشعار بدت إرهاصا لميلاد شعر شعبي بدوي واختلط بنو هلال وسليم مع قبائل بربرية وأمازيغية كبرى مثل صنهاجة وكتامة ولواتة وهوارة، واندمجت بعض قبائل قيس التي ارتحلت إلى المغرب وظلت هناك وعاد بعضها إلى المشرق وعرفوا بالعرب " المغاربة" الذين نزلوا ليبيا ومصر منذ أوائل القرن الثامن عشر، فسكنوا الجانب الغربي من النيل وضفاف بحر يوسف من أسيوط إلى الفيوم قبل الحملة الفرنسية بقرن تقريبا.

والسؤال الآن: ماذا تبقي من التغريبة؟

بالإضافة إلى دورهم في الدعوة للإسلام، ربط الهلاليون المغرب بالمشرق لغة وسكانا، فعرب المغرب قبل الهلاليين كانوا قلة مستقرة في الحواضر، وغلبت الأمازيغية على السكان فجاء الهلاليون بأعدادهم الهائلة وانتشروا وعربوا البلاد، وأدت كثرة الهلاليين وانتشارهم إلى غلبة لسانهم على غيرة من ألسنة العرب، فشاعت لهجتهم بالجزيرة العربية والشام ومصر والمغرب، ولعبت دورا في بزوغ لهجات دارجة كاللهجة المصرية، وتمثل لهجة بني هلال مستودع كلام العرب، وهي لهجة بدوية لها قاموس عربي ضخم يعود لما قبل الإسلام بقرون، لم تتحضر وبقيت راسخة في بداوتها.

وإذا كانت مسيرة بني هلال مع الأمة والرسالة الإسلامية بدأن بأم المؤمنين زينب بنت خزيمة (الهلالية) وأم المؤمنين " ميمونة بنت الحارث (الهلالية) رضي الله عنهما، فإنها لم تنته بأسد الصحراء عمر المختار (الهلالي) رحمه الله .

وخلاصة القول فإن مسيرة بني هلال تمثل ملحمة ويلة تصف هجرة بني هلال، وتمتد لتشمل تغريبة بني هلال وخروجهم من ديارهم الخرمه ورنية في عالية نجد إلى تونس. هي السيرة الأقرب إلى ذاكرة الناس، والأكثر رسوخًا في الذاكرة الجمعية. وتبلغ نحو مليون بيت شعر. وإن أضفى عليها الخيال الشعبي ثوبًا فضفاضًا باعد بين الأحداث وبين واقعها، وبالغ في رسم الشخصيات. ومن السيرة الهلالية تتفرع قصص كثيرة مثل قصة الأمير أبو زيد الهلالي وقصص أخته شيحة المشهورة بالدهاء والاحتيال، وسيرة الأمير ذياب بن غانم الهلالي، وقصة زهرة ومرعي. وغيرها من السير المتراصة التي تشكل في مجموعها ما يعرف بسيرة بني هلال. والسير الشعبية هي من أهم مصادر الثقافة في أرياف البلاد العربية، وخصوصًا إذا ما أخذنا في الاعتبار نسب الأمية المرتفعة. ويسمى المهتم بالسيرة الهلالية بالمضروب بالسيرة. ومنهم الشاعر الشعبي عبد الرحمن الأبنودي. هذه القصة الغنية بالشخصيات والأحداث والمواقف، تضفي على الأدب الشعبي لونًا خاصًا يمثل الحياة الاجتماعية والفكرية التي كان يعيشها الإنسان العربي في تلك الفترة من الزمن.

إن هذه السيرة من أفضل السير الشعبية ويقصد بها ملحمة طويلة تمثل الملحمة التاريخية الكبيرة والتي توجد في حياة بني هلال التي تعرف بهجرة بني هلال، والتي تشتمل على تغريبة بني هلال ومن ثم تخرج من الديار الخرمه ورنية إلى تونس، حيث هي السيرة القريبة إلى ذاكرة الناس، والمرسخة بشكل أكبر والتي توجد في الذاكرة الجمعية، والتي تبلغ حوالي مليون بيت شعر، حيث أنه أضفى عليها الخيال الشعبي والتي ألبسها ثوب فضفاض متباعد ما بين الأحداث وبين الواقع والتي تمكن من رسم الشخصيات أيضا، للسيرة الهلالية قصص كبيرة منها قصة الأمير أبو زيد الهلالي وكذلك قصص أخته شيحة التي تشتهر بالاحتيال والدهاء، وكذلك قصة زهرة ومرعي وأيضا سيرة الأمير ذياب بن غانم الهلالي وغيره من السيرة المختلفة التي تشمل بما يسمى بسيرة بني هلال، وهناك السير الشعبية التي تعد مصدر مهم للثقافة في كافة أنحاء البلاد العربية.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...................

المراجع:

1- ابن خلدون: المقدمة، مطبعة الشعب، القاهرة، بدون تاريخ.

2-مجهول: تغريبة بني هلال ورحيلهم إلى المغرب وحروبهم مع الزناتي خليفة، دار عمر أبو النصر وشركاؤه، بيروت، 2011.

3-محمد حسن عبد الحافظ: سيرة بني هلال روايات من جنوب أسيوط، القاهرة، 2005.

4- ما هو تاريخ قبيلة بني هلال واين تواجدهم الان !.. يوتيوب.

في المثقف اليوم