شهادات ومذكرات

منظرو الاقتصاد (29): جيمس توبن

3992 جيمس توبن(1918 – 2002) James Tobin

هو الاقتصادي الامريكي الاستاذ في جامعة ييل لأكثر من أربعة عقود، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1981. وقد يتبادر الى الذهن، عند سماع اسمه، ارتباطه بطريقة "توبت" Tobit، وهي الطريقة الاحصائية الشهيرة في تطبيقات الاقتصاد القياسي وبالذات في موضوع تحليل الانحدار المعياري Regression Analysis. فجيمس توبن هو الذي طور هذه الطريقة عام 1958 لمعالجة المتغيرات المعتمدة الضمنية ذات القيم المستترة والمستمرة وغير السالبة، وتلك التي تقع في مديات مقررة مسبقا، أما فوق أو تحت حد معين، فتمتاز بقيم محددة، مراقبة او مقتطعة يطلق عليها Censored or Truncated values.

يعتبر توبن أحد ابرز الكينزيين الجدد إلا انه يؤمن بالكينزية المقننة المنضبطة، فغالبا ما حذر ضد التدخلات الحكومية غير الكافية وغير العادلة وكانت امثلته واضحة في هذا الصدد مثل موقفه ضد تحديد ايجارالعقارات في المدن الكبرى مثل نيويورك أو القروض والتسهيلات التعليمية التي اغلب ما يستفاد منها طلاب العوائل الموسرة، وكذلك القروض والمساعدات الزراعية التي اكثر ما تذهب الى اثرياء المزارعين. فايمانه المركزي بالكينزية يتمحورعلى فكرة التدخل الحكومي من اجل ضمان استقرار الانتاج وعدالة التوزيع وتجنب الكساد والتضخم والبطالة ومعالجتها بالطرق المناسبة وعلى المستوى الوطني. وهو يرى الاقتصاد وثيق الصلة بالسياسة الاقتصادية، على ان يتركز الاقتصاد على تطبيق النظريات العلمية على الواقع الاقتصادي العملي، وبدون ذلك يصبح هذا العلم محض تمرين فكري عميق لا طائل منه. وعن مهمته الاكاديمية، يرى توبن انها ينبغي ان تكون من اجل فهم وتحسين الاساس النظري، خاصة لنماذج الاقتصاد الكلي في اطار التحليل النيوكلاسيكي وتطوير تطبيقاتها في حقل السياستين النقدية والمالية.

في كلمته التي القاها بمناسبة نيله لجائزة نوبل عام 1981، قال توبن: اخترت دراسة الاقتصاد لسببين رئيسيين، الاول انني ارى الاقتصاد كموضوع يسحرني ويثير فضولي ويضعني امام جملة من التحديات الفكرية، وهذا عامل حاسم، خاصة بالنسبة لشخص يجد في نفسه الرغبة والامكانية للانشغال بمواضيع تقوم على التحليل الكمي. والسبب الثاني هو انني اجد في الاقتصاد الامل الكبير لتحسين ظروف المعيشة وتحقيق التطور النوعي لحياة البشر والانسانية جمعاء. وفي مناسبة اخرى يعرج توبن على موضوع دراسته للاقتصاد فيربطه بنشأته الاولى ويعطي الفضل لوالديه وخاصة والدته التي عملت مشرفة على ادارة المساعدات الاجتماعية للعوائل المعوزة خلال ازمة الكساد العظيم في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، والتي شاهدت بأم عينيها معاناة الناس وآلامهم من اجل كسب لقمة العيش، وجاهدت ما بوسعها لمد يد العون والتضامن مع العوائل التي عاشت الفاقة والحرمان. كما ان والده كان صحفيا واعلاميا مثقفا وعلى معرفة واطلاع دائم بحياة الناس. يقول ان نشأته في هذه العائلة فتحت عينيه على حجم البؤس الذي يتسبب فيه الفقر وتفاقم حالته البطالة والكساد الاقتصادي.

عُرف توبن بمبدأيته المهنية بين زملائه وطلابه. يقول زميله وصديقه الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل روبرت سولو " يمتلك توبن ناصية اخلاقية طبيعية ونادرة، مشفوعة بتواضعه ووضوح بصيرته واستقامته. فهو لايساوم في جدله العلمي ولا في موقفه المبدأي ولا يبالي بأي خسارة تترتب على تأكيدهما والسير بهداهما".

ولد جيمس توبن عام 1918 في شامپين-إربانا الواقعة الى الجنوب من شيكاغو في ولاية إلينوي. كان والده صحفيا ومديرا لدائرة الاعلام الخاصة بالنشاطات الرياضية في جامعة إلينوي، وكانت والدته تعمل في دائرة الرعاية الاجتماعية. وبذلك فقد نما لدى جيمس الوعي الاجتماعي المبكر، جنبا الى جنب مع ميله للدراسة والاجتهاد والتفكير بضرورة سعيه للحصول على موقع فكري مرموق تفخر به عائلته. دخل المدرسة النموذجية التي اسستها واشرفت عليها كلية التربية في جامعة الينوي وجعلتها مختبرا لتطبيق طرق التعليم الحديثة وتوفير وسائل تطبيقها. وقد كانت تلك المدرسة تحرز جوائز التفوق التربوية والتعليمية التنافسية في عموم البلاد. هذه الخلفية التعليمية الرصينة وفرت لجيمس فرصة القبول في جامعة هارفرد بسن 17 عاما. كان ذلك عام 1935، فاكمل دراسته الاولية بتفوق عام 1939 متخصصا بالاقتصاد. يقول توبن ان نيته في السنة الاولى كانت دراسة القانون والرياضيات، الا ان قراءته لكتاب كينز "النظرية العامة للعمالة والفائدة والنقود" الذي ظهر في السنة الجامعية الثا نية من دراسته، قلب رأيه على عقب وجعله يتحول لدراسة الاقتصاد. بعد تخرجه، التحق مباشرة في قسم لدراسات العليا فحصل على الماجستير عام 1941.

كانت الحرب العالمية الثانية قد استعرت في أوربا آنذاك، وكانت الولايات المتحد تتهيأ لدخول الحرب لصالح الحلفاء مما دفع توبن ان يذهب الى العاصمة واشنطن ويلتحق بدائرة حكومية مهمتها تهيئة الظروف والتجهيزات المطلوبة للانتاج الحربي واسع النطاق. وحين دخلت الولايات المتحدة الحرب بشكل فعلي عام 1942، سيق جيمس توبن كضابط احتياط في البحرية الامريكية. آلت ظروف الحرب ان تجعل خدمته العسكرية تطول الى مابعد انتهاء الحرب، ممتدة لأربع سنوات تدرج فيها بموقعه على ظهر السفينة الحربية المدمرة كيرني USS Kearney ليصبح نائبا للقائد.

من الجدير بالذكر هنا، وعطفا على ما وصف به توبن من استقامة ومبدأية فقد صممت على اساس سيرته على ظهر السفينة الحربية احدى الشخصيات في الرواية الموسومة "تمرد کین" The Caine Mutiny التي كتبها أحد زملائه الذين خدموا على ظهر نفس السفينة، وهو هرمن ووك الذي اصبح فيما بعد كاتبا مرموقا، وقد حازت روايته هذه على جائزة پلتزر رفيعة المستوى وانتجت كفلم سينمائي عام 1954 من بطولة همفري بوگارت.

في عام 1946 عاد توبن الى هارفرد ليكمل الدكتوراه بثلاث سنوات. كانت اطروحته حول دالة الاستهلاك وقد اشرف عليها جوزيف شومبيتر، ونشر أول مقالة علمية له عام 1941 مستندا على اطروحته. بعد ذلك وفر له قسم الاقتصاد في جامعة ييل وظيفة في الهيئة التدريسية وبدرجة استاذ مشارك، ترقى بعدها الى درجة الاستاذية Sterling Professor عام 1957 واستقر هناك مزاولا التدريس والبحث لحين تقاعده عام 1988. وبذلك فقد اكمل 41 عاما في عمله كعضو في الهيئة التدريسية االجامعية. كان خلال حياته الاكاديمية هذه قد نشر 16 كتابا و400 بحثا، ماعدا المقالات المتفرقة هنا وهناك في الصحافة العامة والمحاضرات في المؤتمرات العلمية والمحافل الاكاديمية.

في عام 1946 ذهب الى كيمبرج وتعرف على إليزابث رنگو التي كانت احدى طالبات صديقه پول سامولسن في MIT، فقادت علاقتهما الى زواج ناجح انجبا منه ثلاثة ابناء وبنت. وفي عام 1949 انتخب كعضو شاب في جمعية زملاء هارفرد الشهيرة، وفي عام 1955 حاز على وسام جون بيتس كلارك الذي تمنحه جمعية الاقتصاديين الامريكيين للمتفوقين من اعضائها تحت سن الاربعين. وفي نفس العام اصبح رئيسا لقسم الابحاث في مؤسسة كاولز Cowles Foundation التي انتقلت توا لتكون تحت رعاية جامعة ييل. كان قد تبوأ هذا الموقع مرتين، الاولى من 1955 الى 1961 والثانية 1964-1965.

في عام 1961 دعاه الرئيس جون كندي ليكون واحدا من ثلاثة اقتصاديين كبار يشرفون على مجلس مستشاري السياسة الاقتصادية لدى البيت الابيض، فاسفر عمله في هذا المجال عن اصدار التقرير الاقتصادي الرئاسي الشهير لعام 1962. كما انتدب للعمل في نفس الفترة كمستشار اكاديمي لمجلس امناء البنك الاحتياطي الفدرالي والخزانة الامريكية. في عام 1970 ترأس جمعية الاقتصاديين الامريكيين، وفي عام 1972 كلفه المرشح الديمقراطي لرئاسة الجمهورية جورج مكگوفرن بالاشراف على صياغة السياسة الاقتصادية في برنامجه السياسي المقترح. وفی السنة نفسها انتخب عضوا في اكاديمية العلوم الوطنية.

عُرف توبن بمساهماته النظرية عن سلوك الاستثمار والمستثمرين والتأثير المتبادل بين السلوك وحالة السوق المالية وعلاقتها بالتضخم والعمالة وعموم النشاط الاقتصادي. وكان قد افاض عن موقفه في هذا المجال من خلال مجادلاته مع اصحاب المذهب النقدي كملتن فريدمن واتباعه حول دور واثر السياسة النقدية ومدى قابليتها في التأثير على الاحوال الاقتصادية.

يؤكد توبن ان معرفة وتقرير سعر الفائدة ومعدل النمو في عرض النقود غير كاف للتنبؤ بتأثير السياسة النقدية على ما ستكون عليه حالة الاقتصاد، ذلك ان السياسة النقدية لها اثرها الواضح على الاستثمار في رأس المال، خاصة الاستثمار في المنشآت الصناعية والآليات وسلع المستهلك الانتاجية Durables لكن سعر الفائدة ليس العامل الوحيد انما هو احد العوامل المؤثرة. ويمضي توبن في وصفه لحقيقة سلوك المستثمرين فيقول انهم يحاولون ان يوازنوا بين الاستثمارات عالية العائد وعالية المخاطرة وبين استثماراتهم الامينة والموثوقة ولو انها منخفضة العائد. ولذلك فان محور دراسات توبن كان يدور حول الاسواق المالية واثرها الاقتصادي على الاستهلاك وقرارات الانفاق والعمالة والانتاج وحركة الاسعار، وهذا الحقل بالذات هو الذي نال بموجب دراساته المستفيضة فيه جائزة نوبل لعام 1981.

من مساهمات توبن المتفردة في النظرية الاقتصادية والتي حملت اسمه مايلي :

نسبة توبن Tobin Ratio (q)

تشير هذه النسبة التي استنبطها توبن الى حاصل قسمة سعر السوق الجاري للموجودات الكلية الفعلية على كلفة استبدالها. فلو كانت قيمة q أقل من واحد (q < 1) يكون الاستثمار في تلك الموجودات غير مُجز وغير مُجد، ذلك ان قيمة الاستبدال اكبر مما ستثمن في السوق. أما اذا كانت قيمة q اكبر من واحد (q > 1) فهذا يعني ان السوق سيأتي بثمن يزيد على كلفة انتاجها فسيكون الاستثمار فيها مجديا ومربحا. يقال ان أول من طرق هذه الفكرة هو الاقتصادي نيكلس كالدور عام 1966 وقد تحدث عنها كمعدل للتقييم Valuation Ratio (v)، الا ان توبن وسعها وافاض في شرحها وتطبيقها عام 1970 فاصبحت مقترنة باسمه.

ضريبة توبن Tobin Tax

بعد تجاوز مقررات اتفاقية برتن وودز Bretton Woods عام 1971، جاء تعويم سعر الصرف ليحل محل سعر الصرف الثابت المحتسب بالدولار الامريكي المسنود بالذهب. هذا التغيير السريع والمفاجئ جعل المال ينتقل من وسط الى آخر بمعدلات صرف متباينة اسهمت في احداث تقلبات سريعة وغير متوقعة اربكت توازن السوق المالية. وهنا اقترح توبن فرض ضريبة خاصة على كل صفقة تحويل مالي تجري بين عملة واخرى من اجل الحد من جموح التقلبات السريعة Volatility في سوق المال. لقد افترض توبن بأن مبلغ الضريبة الصغير نسبيا سيحد من المضاربة بالعملات في الاجل القصير ويمكن له في نفس الوقت تعويض الخسائر الاقتصادية المترتبة على المضاربات، ولو بشكل جزئي، خاصة في الاقتصادات النامية التي لا تستطيع المنافسة مع اسواق المال الكبيرة. وبذلك يتوفر لتلك الاقتصادات مورد اضافي ليصبح جزءً من استثماراتها في المشاريع الانمائية. وكمثال آخرعلى امكانية الاستفادة من هذه الضريبة، اقترح توبن منحها الى منظمة الامم المتحدة كتعويض عن بدلات الاشتراك التي تتقاضاها المنظمة من اعضائها، مما سيقوي استقلالية المنظمة ويعضد من الارادة الدولية بمعزل عن مدى مايساهم به الاعضاء من تمويل.

ومن الجدير بالذكر فان هذه الضريبة لم تأخذ حيز التنفيذ الا بعد وفاة توبن عام 2002! ومع ذلك فقد تحول القصد من استيفائها الى جمع موارد مالية لاغراض اخرى غير تلك التي كانت في نية توبن، وبعيدا عن كونها وسيلة فعالة للحد من المضاربات المالية المخلة بالتوازن الاقتصادي.

نموذج توبن – بومل Tobin-Baumol Model

يشرح هذا النموذج الرياضي العلاقة بين الصيغ المختلفة لقيمة النقود، وذلك تبعا لمديات سيولتها كما في حالة المقارنة بين الاحتفاظ بالنقود في حالة سيولتها القصوى Cash وبين قيمتها في حالة تعزيزها بالفوائد المستحصلة من خلال تشغيلها بالاستثمار. وبذلك تتضح كلفة الفرصة الضائعةOpportunity cost المتمثلة بقيمة الفوائد المستحصلة فيما لو تم فعلا ذلك الاستثمار باحتساب معدلات الفوائد الجارية. صيغ هذا النموذج بالتعاون مع الاقتصادي وليم بومل (1922 – 2017) الاستاذ في جامعة نيويورك.

مشروع توبن Tobin Project

هو مشروع فكري تأسس بعد وفاة توبن بثلاث سنوات، أي عام 2005. هدف المشروع الاساسي هو احياء لذكرى توبن وتكريمه والاحتفاء بمنجزه الفكري والابقاء على تراثه وتطويره عن طريق تبني الدراسات ونشر البحوث على هدى من فلسفة وافكار توبن في مواضيع السياسة الاقتصادية ودور الحكومة في الاقتصاد ونشاط الاسواق المالية والاقتصادية وقضايا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والامن القومي، على ان تكون النية الاساسية من كل ذلك هي المساهمة العملية في حل المشكلات الاقتصادية التي تواجهها الانسانية جمعاء خلال القرن الواحد والعشرين وما بعده. والمشروع يحمل روح وفلسفة توبن المتجسدة في قوله:

" الاقتصاد لصيق بالسياسة، والاقتصادي الناجح هو الذي يقدم حلولا لمشكلات الواقع العملي والتي قد تأخذ موضع التنفيذ فيما اذا قُدمت على شكل نصح ومشورة لصناع القرارات السياسية والاقتصادية، شريطة ان تعكس مستوى عال من المسؤولية الاخلاقية والاخلاص في خدمة المجتمع".

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

في المثقف اليوم