شهادات ومذكرات

المستشرق البريطاني جون هَيوود يستغرق في الضحك عند سماعه أغنية قرب مسجد الكوفة

علي القاسميطرائف الذكريات عن كبار الشخصيات (1)

بعد أن حصلتُ على شهادة الماستر في التربية وطرائق تدريس اللغة الإنجليزية، تمَّ تعييني مدرساً للغة الإنكليزية في معهد السكرتارية العالي التابع لجامعة بغداد للعام الدراسي 1966 ـ 1967، وكان عميده الدكتور هاشم الحافظ. والتقيتُ بأصدقاء قدامى وأصدقاء جدد. واستأجرتُ أنا وزوجتي فيلا (داراً) صغيرة في منطقة القناة. وحصلتُ على عملٍ إضافيٍّ مدّته ساعتين يومياً في وكالة الأنباء العراقية لإعداد إحدى نشرات الأخبار. وكنتُ أمارس هذا العمل عندما كنتُ طالباً في كلية التربية (دار المعلمين العالية سابقاً).

ذات يوم حصل أحد أقرباء زوجتي على منحةٍ دراسيةٍ لمدَّة عام، فاقترح عليّ أن أنتقل إلى داره الكبيرة في منطقة القناة ذاتها، ما يخفِّف عني دفع كراء الدار التي أسكنها، وفي الوقت نفسه يطمئنُّ هو على داره. وهكذا انتقلتُ إلى دار فارهة جيدة التأثيث لها جنينةٌ جميلة.

اغتنمتُ هذا الوضع لدعوة بعض أصدقائي لتناول طعام العشاء معنا، وكان في مقدِّمتهم عبد المجيد الباجه جي وزوجته، والدكتور عناد غزوان الخزاعي وزوجته الإنكليزية. (تزوج الدكتور عناد بعد ذلك بالأستاذة الجامعية الكاتبة الدكتورة بلقيس القزويني وأنجبا أبناءَهما الثلاثة: معتز ومحمد ومستهل).

كان الدكتور عناد غزوان الخزاعي (1934 ـ 2004) قد نال شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة درم في انكلترة سنة 1963، وأطروحته " القصيدة العربية: نشأتها، مميزاتها، وتطورها إلى نهاية العصر الأموي" بإشراف المستشرق البريطاني البرفسورهيوود. ولدى عودته إلى العراق، عُيّن في الهيئة التدريسية لجامعة بغداد. وكان أستاذاً محبوباً من قِبل زملائه وطلابه لدماثة خلقه وحسن سيرته وطيب معاملته ومساعدته لهم، ولتمكُّنه من مادَّته، ولكونه شاعراً وناقداً معروفاً في الأوساط الأدبية. وخلال مسيرته الأكاديمية الطويلة ألَّفَ ونشرَ أكثر من خمسة وعشرين كتاباً، وعدداً كبيراً من الدراسات والمقالات. ولعلَّ كتابيه " الشعر والفكر المعاصر" و " خمسة مداخل إلى النقد الأدبي" من أشهر كُتبه. وقد انتُخِب سنة 2004 رئيساً للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.

في ذلك العام الدراسي، 1966 ـ 1967، تمكّن الدكتور عناد غزوان من توجيه دعوة رسمية إلى أحد أساتذته السابقين في جامعة درم في إنكلترا، البرفسور جون هيوود John Haywood (1923ـ 2018) للقدوم إلى بغداد وإلقاء بعض المحاضرات على طلبة جامعتها. وقد شاهدتُ مقابلةً تلفزيونيةً بثَّها التلفزيون العراقي وشارك فيها البرفسور جون هيوود والدكتور عناد غزوان، ودارت حول الأدب العربي، قديمه وحديثه. وفي آخر المقابلة، وجَّه مُسيِّر المقابلة سؤالاً للبرفسور هيوود ـ بعد أن لاحظ أنَّ لغة الدكتور عناد أفصح وأبلغ من لغة أستاذه التي تشوبها رطانةٌ أجنبيةٌ ـ وفحوى السؤال:

ـ لماذا نجد نطق تلميذك للغة العربية أفصح من نطقك؟!

أجاب البرفسور هيوود دون تردّد:

ـ طبعاً، فأنا لم أعلَّمه العربية، فهو عربيٌّ قحٌّ، ولِد وترعرع في بيئة عربية خالصة. لقد علَّمته مناهج البحث وأصول النقد.

اتَّصل بي الدكتور عناد غزوان وأخبرني أنَّ أستاذه البرفسور هيوود يرغب بشدة في اغتنام فرصة وجوده في العراق لزيارة مسجد الكوفة، والدكتور عناد لا يمتلك سيّارة آنذاك (كان راتب الأستاذ الجامعي الحاصل على الدكتوراه حوالي خمسين ديناراً عراقياً، أي حوالي 150 دولارا وثمن السيّارة لا يقل عن 500 دولار)، ورجاني أن أصطحبه وأستاذه بسيّارتي إلى مدينة الكوفة خلال يوم العطلة الأسبوعية. استجبتُ لرجاء صديقي، وذهبنا نحن الثلاثة إلى الكوفة التي تبعد حوالي 156 كم (ساعتيْن بالسيّارة) عن بغداد.

وتعدُّ مدينة الكوفة أحد رموز الثقافة العربية الإسلامية التاريخية، ويعرفها جميع طلاب اللغة العربية عن طريق مدرسة الكوفة النحوية التي تضارع مدرسة البصرة النحوية. وفي حقيقة الأمر لم تقتصر المدرستان على النحو بل تشمل منهجياتهما الفكرية جميع الآداب والعلوم والفنون. وكان مركز المعرفة الإسلامية في الكوفة مسجدها الأعظم الذي يعدّه كثير من المسلمين رابع أقدس مسجد بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة، والمسجد النبوي في المدينة المنورة، والمسجد الأقصى في القدس، خاصَّةً بعد أن اتخذ الإمام عليٌّ (كرّمَ الله وجهه) الكوفةَ عاصمةً للدولة الإسلامية.  وكانت سوق " كناسة الكوفة " تماماً مثل سوق "مربد البصرة"، فقد حلّا بعد الإسلام محلَّ "سوق عكاظ" الذي كان في العصر الجاهلي مكاناً للمناظرات والمحاورات وإلقاء الشعر.

والكوفة إحدى ثلاث مدن أمر الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قوّادَ الفتوحات الإسلامية بإنشائها بوصفها معسكراتٍ للجيوش (المجاهدين وعوائلهم) لتكون دورَ هجرة. وهذه المدن هي: البصرة التي اختطَّها قائد الجيش الفاتح عتبة بن غزوان سنة 14 هـ، والكوفة التي اختطها قائد الجيش الفاتح سعد بن أبي وقاص سنة 17 هـ، والفسطاط بمصر التي اختطَّها قائد الجيش الفاتح عمرو بن العاص سنة 21 هـ. وكان الخليفة يشترط على القادة أن يختاروا موقعَ المدينة طبقاً لمبادئ مدنية وعسكرية، أي في مكانٍ يتوافر فيه الماء والكلأ، ويتَّصل بظهر الجزيرة العربية ليصلهم الإمداد العسكري دون عائق. ومن دراستي للتاريخ، أحسب أن الخليفة كان يؤمن بأنَّ استقرار الدين الإسلامي واللغة العربية في البلدان المفتوحة، يتطلّب اقاّمة المجاهدين القادمين من الجزيرة العربية في تلك الأصقاع.

وبعد زيارة المسجد الأعظم، ذهبنا ـ الدكتور عناد والبرفسور هيوود وأنا ـ إلى شاطئ نهر الفرات، لتناول غدائنا الذي حملناه معنا. وهناك انتبذنا مكاناً جميلاً وسط الأشجار والعشب وشجيرات الزهور، ومياه نهر الفرات تتدفق أمامنا رقراقةً، وسفنه الشراعية المحملة بالتمر والبضائع الأخرى سادرةَ، وبعض قوارب النزهة الصغيرة المنسابة بسلاسةٍ على سطح النهر. تناولنا طعام الغداء، ومنارة مسجد الكوفة الشامخة تطلُّ على المنظر كلِّه.

كنتُ أحمل في سيّارتي جهازَ حاكي بالبطارية (فونوغراف)، وبعض الاسطوانات الغنائية. قلتُ لرفيقَيَّ: سأُسمعكما شيئاً رائعاً. أنزلت الجهاز من السيّارة، ووضعت اسطوانة فيها أغنية راقصة للمطرب الأمريكي الشهير الفيس بريسلي (1935 ـ 1977) الملقّب بملك الروك أند رول. وأخذتِ الموسيقى المصحوبة بالغناء ترتفع في الجو. وإذا بالبرفسور هَيوود ينفجر ضاحكاً. كان يضحك من كلِّ قلبه. عندما نظرتُ إليه مندهشاً بعينيْن ترجوان تفسيراً، قال:

ـ نحن هنا في كوفة التراث الإسلامي العريق، وأنت تُسمِعنا الفيس بريسلي؟!

لم أكن أعرف البرفسور هيوود آنذاك إلا بالاسم. ولكنَّني عندما التحقتُ بعد ذلك بجامعة تكساس لدراسة الدكتوراه، وتخصصتُ في صناعة المعجم وعلم المصطلح، كان كتاب البرفسور هيوود، " المعجمية العربية"    Arabic Lexicography     أحد مراجعي الرئيسة في الموضوع. وأستطيع القول بلا تردُّد أنه أفضل كتاب ألّفه المستشرقون عن المعجمية العربية. إنه يحيط بصناعة المعجم العربي وتطوُّرها عبر التاريخ، لا منذ أن شرعت مدرستا البصرة والكوفة في أبحاثهما عن اللغة العربية نحواً ومعجماً، بل منذ أيام السومريين الذين اخترعوا الكتابة المسمارية، وأسَّسوا المدارس وأخذ جيرانهم الأكديّون، حوالي سنة 750 ق.م.، يتعلّمون اللغة السومرية ليلمّوا بعلوم أهلها، فظهرت أولى القوائم الثنائية اللغة التي يصنفّها المعلِّمون، ليستعين بها طلابهم على فهم معاني الكلمات السومرية بلغتهم الأكدية. وتلك القوائم هي باكورة المعاجم الثنائية اللغة في التاريخ الإنساني.

اضطلع الدكتور عناد غزوان بترجمة كتاب أستاذه هذا إلى العربية، ونشره المجمع العلمي العراقي في بغداد سنة 2005 بعنوان " المعجمية العربية: نشأتها ومكانتها في تاريخ المعجميات العام". إضافة إلى أنّ البرفسور هييود هو مؤلِّف أشهر كتابٍ باللغة الإنجليزية لتعليم اللغة العربية هو: A New Arabic Grammar   "النحو العربي الجديد"، الذي أعيدت طباعته عشرات المرّات.

ومن يقرأ كتاب البرفسور هيوود، " المعجمية العربية " يندهش وينبهر، لأنَّ هذا الرجل لم يطلع على التراث المعجمي العربي فحسب، بل كذلك تشبّع بالتراث العربي برمته، بآدابه وعلومه وشعره ونثره وحِكَمه وفلسفته. إنَّ قلبه وعقله ذائبان في تراث العرب، والتراث العربي الإسلامي ذائب في فكره وروحه ونفسه. وحقَّ له أن يضحك ويضحك عندما يُطلِق شاب عربي في أوائل العشرينيات من عمره أغنية للراقص الأمريكي الفيس بريسلي المُدمنِ على المخدرات، في أعتاب جامع الكوفة العظيم.

بخلاصة، استطاع البرفسور هيوود أن يستخلص لنفسه لُبَّ الحضارة العربية الإسلامية، على حين كنتُ أنا منبهراً بقشور المدنية الغربية، وشتّان بين الرجليْن، وينطبق عليهما قول الشاعر:

سارتْ مشرِّقةً، وسِرتُ مُغرِّباً ... شتّانَ بين مُشرِّقٍ ومُغرِّبِ

***

د. علي القاسمي

.........................

* من كتاب معد للطبع:

ـ علي القاسمي. طرائف الذكريات عن كبار الشخصيات

 

في المثقف اليوم