شهادات ومذكرات

عبد الراضي محمد عبد المحسن.. فيلسوف في معية الفقهاء

4064 عبد الراضي محمدما زلت أؤمن، بل ربما أكثر من أي وفت مضي، بأن عصر عمالقة الفلسفة الإسلامية لم يندثر، والدليل علي ذلك تلك الشخصية التي اكتب عنها الآن، والمتمثلة في الأستاذ الدكتور عبد الراضي محمد عبد المحسن تلك الشخصية الفلسفية التي تصدت بفكرها التنويري للفكر المتطرف وجماعاته الإرهابية، وكانت له مواقف وطنية، ودافع عن مصر عملا لا قولا فقط وحاول أيضا أن يحرر الفكر الإسلامي من قيود القراءات التقليدية والأيديولوجية وإعادة تفسيره وتأويله من منظور واقع الحداثة ونقله إلى فضاء معرفي جديد.

ولعل أول ما يجذبك – كما جذبني وغيري إلى شخصية الدكتور عبد الراضي محمد عبد المحسن، سمة الهيبة والوقار الذي يكسو ملامحه الشخصية الظاهرة، ويكشف عن باطن ثري، يعمر بإيمان قوي، وثقة بالنفس، وعاطفة جياشة، وسريرة نقية، وقلب صاف من الكدورات.

علاوة علي ذلك كانت لشخصيته تلك الجاذبية الخاصة والحضور الثري الذي يقيم بينه وبين تلاميذه وأصدقائه ومعارفه جسوراً من المحبة والاحترام والاحساس بالألفة العميقة . ومن هنا كان ذلك التأثير البالغ الذي تركه فيمن يحيطون به، والذي من الصعب أن يتحقق لو كان قد ترك من وراءه المئات من المؤلفات.

ولهذا فهو يستحق بحق أن يمثل دُرَّة  ثمينة من درر وقامات مصر العلمية والفكرية عامة وكلية دار العلوم  الكبيرة المشرفة خاصة.. يجيد اللغة الألمانية والانجليزية كتابة وتحدثا وكان فاعلا رئيسا في ترجمة القرآن الكريم الى اللغة الالمانية بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف .. ومستشارا علميا للهيئة العالمية للتعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم ونصرته برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.. كانت رسالته للدكتوراه أول رسالة علمية فى مقارنة الأديان بجامعة القاهرة .. له من الأبحاث والدراسات  والمؤتمرات ما نافح وناظر به الفكر الغربي المتحامل على إسلامنا ونبينا وقرآننا في حوارات الأديان .. مدحضا حججهم .. مصدرا لهم فكره الإسلامي الرصين الصحيح .. ومازال عطاؤه الفكري والبحثي والعلمي  الإسلامي نهرا جاريا متدفقا .

كما يتميز الدكتور " الدكتور عبد الراضي محمد عبد المحسن " بأنه أكثر جرأة فى الرأي ‏وشدة فى اقتحام القضايا‎ ‎الأكثر حساسية مع تحليل خاص ‏للصحوة الدينية وتاريخ حركات الإصلاح الحديثة، ‏خصوصاً‎ ‎عندما يثور الحديث حول مرحلة التجديد التي ‏قادها الإمام "محمد عبده"، وأرسي دعائمها الشيخ مصطفي عبد الرازق، لتنقل عبر مسارين : المسار الأول وقد حمله قسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول من خلال طه حسين ، والمسار الثاني حملته كلية دار العلوم من خلال كوكبة عظيمة بدأت من محمود قاسم، ومحمد البهي ومحمد كمال جعفر، وعبد اللطيف العبد، ومحمد السيد الجليند،  وحامد طاهر، وعبد الراضي محمد عبد المحسن .. تلك الكوكبة التي حرصت دائما علي أن تؤكد لنا بأن الإسلام المستنير هو الذى يقدم ‏صحيح "‎الشريعة" واعتدال "الفقه" كما أنه هو الذى يحسم الصراع ‏بين الإسلام وخصومه وكل القوى‎ ‎الفكرية المعادية له ‏والمتربصة به،‎ ‎

وهنا لابد من الإشارة إلى جهده الرائع في تصحيح الصورة الذهنية الغربية حول الإسلام والتي تصدى لها بكل براعة بكتابييه: الرسول الأعظم في مرآة الغرب ، ماذا يريد الغرب من القرآن؟ وهو يكاد يستحضر بهذين الكتابين ويستكمل مسيرة الفيلسوف المصري الكبير عبد الرحمن بدوي عندما أبدع كتابيه : دفاع عن الرسول، دفاع عن القرآن.

وحول السيرة الذاتية لكاتبنا، فقد ولد عبد الراضي محمد عبد المحسن (مع حفظ الألقاب) في صعيد مصر، وتدرج في المناصب العلمية وحصل على درجة الماجستير بتقدير ممتاز من كلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 1990 بعنوان «منهج شيخ الإسلام ابن تيمية فى دراسة النصرانية» ثم درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من جامعة بامبرج الألمانية عام 1996 في موضوع (النبوة بين اليهودية والنصرانية والإسلام) وكانت أول دكتوراه في مجال علم مقارنة الأديان في جامعة القاهرة، يجيد اللغتين الألمانية والإنجليزية وهو أول متخصص في ترجمة القرآن الكريم للغة الألمانية بين دارسي الفلسفة والعلوم الإسلامية بجامعة القاهرة. عمل أستاذا للفلسفة الإسلامية 2012 وتولى رئاسة قسم الفلسفة ثم وكيل دار العلوم عام 2013 إلى أن تولى منصب عميد الكلية.

وقد نال المفكر الكبير عبد الراضي محمد عبد المحسن عضويات العديد من الجمعيات العلمية والهيئات الدولية، فهو عضو الجمعية الفلسفية المصرية منذ 1986 والمستشار العلمي لكرسي المهندس عبدالمحسن الدريس للسيرة النبوية ودراساتها المعاصرة بجامعة الملك سعود بالمملكة العربية السعودية منذ 2009، والمستشار العلمي للهيئة العالمية للتعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم ونصرته، برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة 2011، ومدير مركز البحوث والدراسات الإسلامية بكلية دار العلوم 2012.

ولم يكن الدكتور عبد الراضي محمد عبد المحسن ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان في عمله العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكان في ذلك متسقاً مع نفسه تمام الاتساق، فقد كان يبحث دائماً عن النوعية من الحياة، ويعرف كيف يتذوقها ويُرضي بها حسه المرهف . ولكن لعل السبب الأهم في عزوفه عن الإنتاج الغزير، برغم قدرته عليه، هو أنه كان من ذلك النوع النادر من الأساتذة، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث؛ ومن الكتب المهمة له يمكن أن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

١- نظرية الوجود لدى ابن حزم : هدفت الدراسة إلى الكشف عن منهج ابن حزم في تأسيس نظرية الوجود. وتناولت الدارسة الأسس والاطر المنهجية الحاكمة لصياغة نظرية الوجود لدي ابن حزم المتمثلة فيما يأتي: أولاً: رفض قياس الغائب علي الشاهد. ثانياً: الجدل " التفنيد والتثبيت". ثالثاً: توظيف التجارب المعملية. رابعاً: واقعية الاستدلال. خامساً: اليقينيات البرهانية مقدمة ضرورية لتأسيس نظرية الوجود. سادساً: الإفادة من الفلسفة. سابعاً: المساوقة بين العقل والنقل: فعلي الرغم من ولع ابن حزم بالفلسفة والمنطق انطلاقاً من قناعته بأهميتها في فهم وإدراك الحقائق، وعنايته بالعقل وحججه وبراهين وطرق الاستدلال العقلية؛ مما بلغ به حد القول بمعيارية علم المنطق، وعموم نفعه لكل العلوم فلا يوثق بعلم من لا يحسنه سواء أكان في الأصول أم في الفروع؛ إلا إنه لا يفضل العقل أو يقدمه علي النقل، بل يساوق بين النقل والعقل في نسق متسق ومنهاجية صارمة ودقيقة. واختتمت الدراسة بتوضيح إنه بجانب اختياره المنهج الملائم لتأسيس وتأطير نظرية في الوجود، فإن منهجه في تأسيس النظرية قد اتسم بباقة من السمات العلمية التي اهلت صاحبه ليكون واحداً من فحول الجدليين في مجال الفكر الوجودي ونظرياته، كما مكنته من أن يكون أول فقيه في تاريخ الإسلام يقوم بتشييد نظرية في الوجود؛ ليستكمل بذلك سلسلة اعماله ومناهجه الرائدة في تاريخ الفكر الإنساني، وهي: إنجاز أول كتاب موسوعي في تاريخ الأديان ونقدها، وتأسيس منهج النقد التاريخي للأديان والكتب المقدسة، وتأسيس منهج نقد النصوص المقدسة" النقد الداخلي للنص المقدس"، والوصول إلى بعض الآراء المبهرة في مجال نظرية المعرفة.

2- المعتقدات الدينية لدى الغرب، ويعد هذا الكتاب من المؤلفات الهامة للباحثين في مجال العقيدة بشكل خاص وسائر العلوم الفقهية والشرعية بوجه عام حيث يدخل كتاب المعتقدات الدينية لدى الغرب ضمن نطاق تخصص علوم العقيدة ووثيق الصلة بالتخصصات الأخرى مثل أصول الفقه والتفسير، والحديث الشريف، والسيرة النبوية، والثقافة الإسلامية.. ولهذا يحدثنا في الباب الأول عن المعتقدات الدينية اليهودية، ويبدأ الفصل الأول عن النبوة وماهيتها ومراتبها وأشكالها ومعاييرها، ثم يتناول في الفصل الثاني للحديث عن العهد القديم وقيمته التاريخية ويتطرق عن ال والنص والسند والمتن ويعرج في الفصل الثالث على المعجزة فيحدثنا عن مفهومها وأهم معجزات العهد القديم ومدى دلالة معجزات العهد القديم على النبوة.. الح.

3- ماذا يريد الغرب من القرآن؟.. وهو من الكتب القيمة لباحثي العلوم القرآنية بصورة خاصة وغيرهم من المتخصصين في العلوم الإسلامية بشكل عام وهو من منشورات مجلة البيان؛ ذلك أن كتاب ماذا يريد الغرب من القرآن؟ يقع في نطاق دراسات علوم القرآن الكريم وما يتصل بها من تخصصات تتعلق بتفسير القرآن العظيم، والكتاب يتميز بغزارة المعلومات، وشمولية العرض للموضوع الذي عالجه، باستخدام المنهج التاريخي المقارن في توثيق الأقوال والكتابات، والمنهج النقدي في تحليل هذه الأقوال والكتابات وتقويمها من مرجعية إسلامية.

من ميزات الكتاب، أن المؤلف متخصص في مجال مقارنة الأديان، ما أتاح له معرفة أكبر بدقائق المذاهب الغربية الدينية والفكرية، والتي سبق له أن أصدر فيها كتابا بعنوان “المعتقدات الدينية لدى الغرب”، نشره مركز الملك فيصل للبحوث. هذا بالإضافة إلى تخصصه الإسلامي. إذ إن التكامل في الخلفية المعرفية ساهم في قوة الطرح وسلاسته وعقلانيته وحجته الدامغة.. وفي الكتاب تعد الترجمة في نظر المؤلف وسيلة من وسائل الاتصال الحضاري والتأثير بين الأمم، وسبيل من سبل نقل المعارف والعلوم و الخبرات المختلفة من حضارة إلى أخرى، وقد كانت الترجمة في الحضارة الإسلامية أهم عوامل الحفاظ علي التراث العلمي والثقافي القديم، وتنقيحه، و تطويره، وقد كان القرآن الكريم من أوائل الترجمات التي عرفتها لغات الغرب الأوربي، وكذلك كان أكثرها من جهة حرص الغربيين على نقله إلى سائر اللغات الأوروبية، مما يثير العديد من التساؤلات حول سر اهتمام الغرب البالغ بترجمة القرآن الكريم.

4- مشكلة التأليه في فكر الهند الديني، وفي هذا الكتاب جاءت طريقة التناول تبعا لطبيعة المشكلة، فجاء البحث في مقامات ثلاثة كما يقول المؤلف تضمنتها مباحث ثلاثة مرتبة وفق القدم التاريخي لموضوعاتها، فتناول الأول مشكلة التأليه في الهندوسية في ثلاثة مطالب مبينا في المطلب الأول صعوبات البحث فيها، وفي المطلب الثاني أسباب الاختلاف حول مذاهبها، ولبن المطلب الثالث النزعات الأربع التي سلكها نسق التأليه الهندوسي : التجريد، والتجسيد، وتعدد الآلهة، ووحدة الوجود.. وتصدي الثاني لإشكالية التأليه لدي المفكرين الأحرار، فعرض لتيار الإلحاد المنكر للألوهية ن وبين موقف "بوذا" و" ماهافيرا" من الألوهية ونسقهما الخاص في التأليه.. أما الثالث فكشف النقاب عن حقيقة التأليه في البوذية والجينية بعد بوذا وماهافيرا.

4-  نبي الاسلام بين الحقيقة والادعاء، إن كتاب: (نبي الإسلام بين الحقيقة والادعاء) أحد أهم الكتب الإسلامية الرصينة التي أفرزتها حركة الدعوة، أو إنتاج دور النشر المختصة في العقود الأخيرة، وهو مجهود فكري هادئ موضوعي ينأى عن الحماسة والضجيج، ويقترب من الكتب الثقة الأم التي تناولت مثل هذا العنوان.. والكتاب يدخل في بؤرة اهتمام الباحثين والمتخصصين المهتمين بالدراسات العقائدية؛ حيث يقع كتاب نبي الإسلام بين الحقيقة والادعاء في نطاق تخصص علوم العقيدة والفروع ذات الصلة من حديث وعلوم فقهية وسيرة وغيرها من التخصصات الإسلامية..

٥- الرسول الأعظم في مرآة الغرب، إن هذا الكتاب يأتى فى إطار الاتجاه الذى عمل عليه في مجال بحوثه ودراساته ألا وهو تصحيح الصورة الذهنية للإسلام فى الغرب، تلك الصورة القاتمة التي تم تشويهها بواسطة أعمال العنف والإرهاب التى قامت بها ومارستها جماعات العنف والإرهاب بما أساء أبلغ الإساءات وأشنعها لنبىّ الإسلام، إلى جانب بعض الأغراض الدينية والسياسية لبعض الباحثين الغربيين التي دفعتهم إلى تجنيب الروح العلمية وموضوعية البحث عند تناول شخصية الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم وحياته ورسالته".. لذلك يقول الدكتور عبد الراضي: ( لقد  أخذت على عاتقي مهمة القيام بتصحيح الصورة الذهنية والمفاهيم المغلوطة والأفكار الخاطئة حول نبي الإسلام ورسالته، ثم تقديم جوهر تعاليمه ودعوته الإصلاحية والأخلاقية والمجتمعية، وكذلك أخلاقه الرفيعة فيما يخص القضايا والمسائل التي تستحوذ على عناية الغرب واهتمامه، وكذلك هي معيار التفاضل الحضاري والرقى بين الأمم، مثل الموقف من المرأة، والعنف المجتمعي، والتسامح والتعايش، وحرية الاعتقاد، ورعاية المسنين، والعناية بالطفل...إلخ.. وكل ذلك في إطار معالجة تناسب العقل الغربي وتخاطبه بلغته وثقافته التي يعرفها من اصطلاحات ونماذج وأصول علمية ومعرفية وثقافية وخلفيات دينية وفكرية ).

وثمة نقطة اخرى مهمة أود أن أوجهها لك عزيزي القارئ، وهو أنه إذا أردت أن تتعرف علي بعض جوانب وقدرة ومهارة الدكتور عبد الراضي عبد المحسن  في النقد والتحليل، وإذا أردت أن تتعرف علي براعته الفلسفية وطريقته الفريدة في البحث وراء معاني التصورات والمفاهيم في بحر الفلسفة العميق المترامي الأطراف، فعليك بقراءة فكره حول تجديد الخطاب الديني، فهو من المؤمنين بأننا في حاجة إلى الفلسفة في واقعنا المعاصر، وأن لها دور يمكن أن تؤديه الإصلاح الفكري المطلوب، حيث يقول :" في الحقيقة إن الفلسفة قد تفهم على غير معناها ودورها الحقيقي، لأن الفلسفة ليست لونا من الترف العقلي أو المماحاكات الجدلية عديمة الفائدة، لكن الفلسفة -في حقيقة الأمر- قوة فاعلة في المجتمع، تقدم له أفضل تصور ممكن لأهم قضاياه ومشكلاته، فضلا عن المنهج الذى يسير عليه في حل تلك المشكلات، لهذا كما قلنا فإن قوة بهذا التأثير قادرة على استخلاص مشكلات مجتمعنا المعاصر سواء أكانت مشكلات تتعلق بالدين وتجديد الخطاب الديني أم كانت مشكلة تتعلق بالآفات الأخلاقية والمشكلات المجتمعية، فكلا الأمرين جزء من مهمة الفلسفة، لأن الفلسفة غايتها إيجاد إنسان سعيد، لأنه إذا كان الدين يبحث ويفتش عن سعادة الإنسان لتحقيق هذه السعادة فى الدارين فمهمة الفلسفة أيضاً هي البحث عن السعادة للإنسان، وبالتالي هذه المراحل الباحثة عن السعادة تخليص الإنسان من مشكلاته ومن أزماته سواء كانت تتعلق بالفكر أم بالدين أم بالمجتمع أم بالأزمات الروحية.

وحول رؤية عبد الراضي محمد عبد المحسن في علاقة الفلسفة بالدين، فقد أكد أن هذا التوفيق كان أول مشروع قام على مسألة التوفيق بين الفلسفة والدين، هذا المشروع هو مشروع الفلسفة الإسلامية في ومضته الأولى عند "أبو يعقوب الكندي" وفى أعلى تجلياته لدى "ابن رشد" صاحب نظرية التوفيق بين «الحكمة والشريعة» التي صيغت فيما بعد فيما يسمى «الحقيقة المزدوجة» هذه المحاولة الهائلة للتوفيق التي لم تؤثر فقط في محيط الشرق الإسلامي ولكنها انتقلت إلى الغرب المسيحي واستقبلها «توما الإكوينى» ليصوغ بها نظريته فى عملية التوفيق وعملية إصلاح الفكر الغربي مما أثمر مدرستين فى الغرب «مدرسة رشدية» و«مدرسة لارشدية» إذن مسألة الصدام بين الفلسفة والدين هذه تمت معالجتها منذ القدم وبينوا أن الفلسفة غرضها سعادة الإنسان تماما، مثلما أن الدين غرضه سعادة الإنسان، ومن ثم فإن أي معالجات أو أي أفكار ومبادئ لا تصب في هذا الاتجاه، سعادة الإنسان وحل مشكلاته، فهي ليست أفكارا فلسفية وإنما تسمى سفسطة وليست فلسفة حقيقية.

وحول أهم العقبات التي تواجه الخطاب الإسلامي الوسطى وكيف يمكننا التغلب عليها ليكون هذا الخطاب الأكثر حضورًا وتأثيرا فيه؟.. قال الدكتور عبد الراضي أن أول عقبة تواجه الخطاب الإسلامي هي الصورة الذهنية الشائه التي تم رسمها لهذا الخطاب من خلال الخطابات المناوئة التي تتمثل في خطاب التنفير وخطاب التفجير، وخطاب التعصب الذى تمثله الخطابات الإيديولوجية لجماعات الإرهاب والتطرف، وبالتالي لابد من تصحيح هذه الصورة الذهنية، الأمر الثاني لابد من تصحيح المفاهيم التي تؤدى إلى تفخيخ المجتمع وبث ثقافة الكراهية فيه وعلى رأسها أدبيات الخوارج التي أخذتها التيارات الإرهابية التكفيرية المعاصرة، التى تتمثل فى تكفير الآخر وإقصائه وإلغائه واستحلال دمه وماله وعرضه، وهذا يشكل عقبة كبرى، لأن هذه الأمور قد أدت لبعض المنتمين لهذا الدين إلى مغادرة محيط الإيمان والتحصن بدعاوى الإلحاد واللجوء إليه لكى يحصنوا أنفسهم أمام هذه الازدواجية التي يرونها ما بين دعاوى تسامح حقيقية موجودة في هذا الدين ومحبة تقوم عليه، لأن هذا الدين رسوله قد جعل المحبة أساسا للإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم: «لن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شئ إن فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم».

تحية طيبة للأستاذ الدكتور عبد الراضي محمد عبد المحسن الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

أ.د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

في المثقف اليوم