شهادات ومذكرات

الملف الأمني لعالم الإجتماع علي الوردي

حظي الدكتور علي الوردي بموقع متميز ومهم في الوسط الفكري العراقي، ووجدت نتاجاته وكتبه قبولاً ورواجاً قلّ ما حظي به كاتب عراقي آخر، وليس من باب الصدفة أن احتل الوردي هذا الموقع وكسبَ جمهوراً واسعاً من القراء بمستويات معرفية متنوعة .

فمنذ اطلالته المثيرة المستفزة لكوامن الحياة أوائل الخمسينات من القرن الماضي بفروضه، وما أشّرته من ثوابت في محاولاته الرائدة في فهم شخصية الفرد العراقي، ظل الوردي يلعب بالحيوية ذاتها دوراً بارزاً وخطيراً في حياة مجتمعنا الفكرية، مشكلاً بذاته وحدهُ ظاهرة ثقافية غطّت نصف القرن المنصرم بأبعادها الذهنية وآثارها المتميزة.

اتسمت فترة الخمسينات بركود فكري بسبب السياسة التي كان يمارسها النظام الملكي في مواجهة المطالب المشروعة في تحقيق العدالة الاجتماعية والحريات الديمقراطية، وبالمقابل كانت قوى التحرر الوطني تعزز مواقعها السياسية والفكرية،  والوسط الثقافي والأكاديمي يتلهف لكل نتاج فكري يدعو لمحاربة التخلف والجهل والتبعية وقمع الحريات .

في مثل هذا المناخ كان يعلو صوت الشاب علي الوردي وهو يحمل شحنات جريئة، يتصدى لنظام مجتمعي دأب على تبرير الظلم والإستغلال ، في دراساته العديدة لظواهر حياتنا الروحية والإجتماعية، فجاء بالجديد الذي لا يرضي الكثيرين ممن اعتادو أن يروا الأشياء من خلال نوافذهم الخاصة بهم، وصَدَم آخرين ليخرج بهم إلى بعد جديد في النظر، يعيد تشكيل مسلّماتهم بما ينسجم ومعطيات العصر ويستجيب لمتطلباته.

في هذا السياق تأتي محاولة سعدون هليل في كتاب من اعداده صدر عن دار سطور عام 2016 ، بعنوان ( علي الوردي في ملفّه الأمني) تقديم صورة أخرى له، تبدو أكثر التباساً في حالتنا العراقية، وهي المتمثلة بثنائية اشكالية ( السلطة-المثقف)، وبرغم ان الكتاب تضمن ملحقاً بالأحداث التي مرّ بها الوردي، أشار إليها بمقالات جديدة لم تنشر من قبل، أخذت حيزاً كبيراً بين صفحات الكتاب، إلا ان الجانب المثير والجديد فيه، تلك التقارير الصادرة عن دوائر الأمن في العهدين الملكي والجمهوري، المحفوظة في دائرة الأمن العامة بملف رقمه (25042)، وهي تترصد نشاطات علي الوردي الاجتماعية، وتراقب أفكاره وكتاباته، لم تقتصر التقارير على مراقبة الوردي وحده، إنما ذهبت بالدور نفسه إلى فئة واسعة من النخب الفكرية والثقافية، وشملت أسماءً مهمة على الصعيدين الأكاديمي والثقافي، اذكر على سبيل المثال منهم: هشام الشواف، ابراهيم كبة، صلاح خالص، محمد عزيز، اسماعيل الشيخلي، صفاء الحافظ، عبد الله اسماعيل، عبد الجليل الطاهر، عبد الفتاح ابراهيم، شاكر خصباك، حسين جميل، فيصل السامر، محمد حديد، عبد الوهاب البياتي، مسعود محمد، مهدي المخزومي، عبد الرحمن البزاز، جابر عمر، فاضل حسين، فضلاً عن عشرات الكتاب والأساتذة.

ما يدعو للتساؤل هو دور هذه الشخصيات الوطني والمعرفي في الواقع العراقي حينذاك، أقول أن هؤلاء قدموا أمثلة لايستطيع أحد أن ينكرها، دفاعاً عن مواقفهم الأخلاقية والسياسية، وعلى صعيد معرفي أرسى هؤلاء أسس المشروع النهضوي الحداثوي العراقي،  فغالبية هؤلاء ينتمون إلى الوسط (اليساري، الوطني، الديمقراطي، القومي)، لا بالمعنى الأيديولوجي للإنتماء، إنما يلتقي الجميع في المعنى التنويري، الرافض، المتجدد.

يذهب البعض ان مشاركة من هذا القبيل في صياغة مستقبل البلاد، وضمان الحريات وتحقيق العدالة أمر لا غنى عنه في تحقيق شروط الإبداع، ويتعين على السياسيين ادراك هذه الحقيقة وعدم الاستخفاف بها، فالمعرفة ليست نتاج ابداعي فني محض، إنما هي موقف من القضايا الإنسانية الجميلة في الحياة ، ومواجهة واحتجاج، يقول أدور سعيد بهذا الصدد في كتابه (المثقف والسلطة): ان أمثال هذه الإحتجاجات من جانب المفكرين لن تأتي لهم بأصدقاء في أعلى المناصب، ولن تتيح لهم أن يحظوا بآيات التكريم الرسمي، والمثقف أو المفكر يجد نفسه في عزلة، لكن هذه العزلة خير من الصحبة التي تعني قبول الأوضاع الراهنة على ما هي عليه.

في التاريخ العراقي المعاصر أمثلة كثيرة على أساليب القمع الذي مارسته سلطات الاستبداد، التي تمتلك المال والقوة والنفوذ، بينما لايمتلك المفكر سوى عقله، وقد يخسره في ظل القمع، المثقف يمتلك الكلمة التي قد تضيع منه في اختلاط الجبهات، وصوته لن يسمع حين تدوّي البنادق، ويتعالى الرصاص .

يقف علي الوردي في مقدمة المحتجين بالكلمة فيما جاء به من نهج ومعالجة لواقع المجتمع العراقي، وما أثاره من اشكالات الخوض في المعارك الفكرية التي أسهمت في بعث الحركة والنشاط في بنية الفكر العراقي وحملته على مراجعة موجوده وأطاريحه، ومهاراته تكمن في خلق حركة جدل عامة، ومراجعة واسعة للكثير من القيم والمعايير والثوابت، التي تشرّبها المجتمع سلوكاً ومواقف وأنماط تفكير.

وبسبب هذه المواقف المعلنة للوردي حيال أزمات المجتمع العراقي المستعصية، وما قدّمه من نموذج في مواجهتها، وهو نموذج استثنائي في نوعيته وقوة مثاله، كانت الحكومات تعدّ هذه المواقف خطراً يهدد كيانها، ويهزّ عروش الملوك، وكانت أولى الإتهامات الموجّة له وصمه بـ(الشيوعية)، بينما كان الرجل ناقداً للفلسفة الماركسية غير معادٍ لها، وله رأيه بهذا الخصوص : للماركسية دور مهم لايستهان به في تطور الفكر البشري، ولكنها كغيرها من النظريات المهمة التي ظهرت في التاريخ، لا يمكن أن تكون خالية من العيوب ما دامت من صنع البشر، كما يعتقد ان الماركسية نظرة أحادية الجانب، وأن ماركس لم يكن سوى مفكر ذي بعد شمولي. في الوقت نفسه وجّه عدد من الكتاب المحسوبين على اليسار نقوداتهم لأفكار الوردي، منهم على سبيل المثال الدكتور سليم علي الوردي وعبد المطلب صالح، يتهمان منهجه اللاعلمي في معالجة الواقع الإجتماعي وظواهره، ووقوعه في مطبّ تناقض الأفكار.

بينما يلتزم علي الوردي فيما يقتضيه الموقف الأخلاقي أن يكون الى جانب زملائه (صالح أحمد العلي، عبد الجليل الطاهر، حميد القيسي، صلاح الدين الناهي، هادي حسين علي)، في التوقيع على مذكرة احتجاج الى حكومة فاضل الجمالي، لاقدامها على غلق مجلة الثقافة الجديدة (اليسارية)، التي يرأس تحريرها صلاح خالص، فوجهت وزارة المعارف أنذاك إنذاراً لهؤلاء الأساتذة، في كانون الثاني 1955 ونُشر الإنذار في جريدة صوت الأهالي .

كما تعرّض الوردي للأعتقال عام 1952على هامش مذكرة احتجاج رفعها عدد من الأساتذة ضد سياسة الحكومة في قمع الحريات، وهي تمعن في أساليبها الإستبدادية، ومثل هذه المذكرات والوثائق العديد مما ورد في الكتاب، لم تنقطع الرقابة ولا توقفت اجراءات دوائر الأمن في محاصرة الوردي وتقييد حركته طيلة سنوات عمله الأكاديمي، وما بعدها حتى آخر يوم في حياته، وفي تاريخنا نستطيع أن نرسم لوحة مشوهة لموقف آخر لمثقف يضع نفسه مخبراً للسلطة وأداة رخيصة لها، لتبرير سياستها وتحقيق مشروعيتها، عبر تحويل العقل الثقافي الى عقل دعائي تتركز تجلياته في تمجيد الزيف الفكري والسلطوي ، واشاعة الظلام .

ان الحقيقة المرّة التي تلخّصها هذه التقارير، انها تمثل نهجاً في سلوك السلطة الشاذ ، التي تعاقبت على حكم العراق، بل أزمة في نظام الحكم عاصرتها أجيال عديدة، واجهت كل تحدياتها وتركت آثارها بعمق في حياة النخب الثقافية، فكان نصيبهم الإحباط والخيبات والغربة.

***

جمال العتابي

 

في المثقف اليوم