شهادات ومذكرات

ثقافة وأدب عرب الأهوار

صلاح جبارمنذ العهود السومرية والبابلية والتي تعد مهد الحضارات التي علمت العالم العلم والمعرفة، (وما زالت الرسومات المنقوشة على التحفيات والآثار تمثل فنونا تشكيلية أبدعها وصاغها الإنسان الرافديني منذ ولادته ومجيئه إلى هذا العالم، ولايستطيع أي فنان مهما كانت قدرته أن يبدع في تكوين هذه الصورة الواقعية لحياة الإنسان هناك، أما حروفهم وكتاباتهم فكانت لغة شعرية خاصة يمتلكها الإنسان السومري المليء بالثقافة الحضارية والتراث، ومن يكتب الآن الشعر المعاصر بلغة الحداثة أو قصيدة النثر، ويقول: إنه إبداع في هذا الفن الأدبي، فإنه لم يقرأ قصائد السومريين الذين سبقوه بكتابة الشعر والرسم وغيرها من فنون العلم والأدب)(1).فالإنسان في الأهوار هو الامتداد الجذري للحضارة السومرية، ومن يتصور أن أقوام الأهوار يشوبهم الجهل وعدم معرفتهم للعلم والثقافة والأدب، فإنه مخطيء؛ لأن هذه البيئة الجنوبية هي الامتداد التاريخي لتراث سومر وحضارتها، ومن هذه البيئة برزت بيوت وشخصيات علمية وأدبية، ومن هذه البيوت بيت جمال الدين، وبيت فرج الله، وبيت آل حيدر، وبيت السنيد، وبيت المظفر، وبيت آل خيون، وبيت السادة الجزائريين، وبيت الشبيب، ومن الشخصيات الأدبية الشاعر الكبير الدكتور مصطفى جمال الدين، والشاعر جميل حيدر، والشاعر حمدي الحمدي، والخطيب الشاعرعبد الحميد السنيد والد الشاعر جواد جميل، والروائي فهد مدفون الأسدي، والدكتور الفنان عبد المطلب السنيد، والدكتور صلاح فليفل الجابري، والشاعرة بلقيس حمد السنيد، وفي وقتنا الحاضر برز العديد من الشعراء الشباب أهمهم حازم التميمي، وشاكر الغزي، ومحسن العويسي، وحسام البطاط، وفلاح مزهر، وفرحان المرشدي، وغيرهم كثير.

ونظرا لطبيعة الأهوار الساحرة حيث السماء الزرقاء وخضرة النباتات وزرقة المياه وصدى زقزقة العصافير، هذه المشاهد الرائعة جعلت الإنسان هناك إما شاعرا أو أديبا أو قاصا أو روائيا أو كاتبا مسرحيا، وعندما يولد الإنسان هناك بين أعواد القصب، فأنه يتربى على سماع الشعر بأنواعه الفصيح والشعبي، والطبيعة الجميلة للأهوار هي التي أسهمت في ولادة قوافل الأدباء والشعراء والفنانين فوق تلك الجزر الطافح.

لقد عشت في الأهوار سنوات طويلة ومتتالية، وتعلمت وسمعت الشعر هناك في المضايف والصرايف والبيوت وأحيانا نعقد ندوات شعرية تمتد إلى آخر الليل، يتفنن خلالها الشعراء بالرد والهجاء، والشعر هناك هو فاكهة الدواوين في جميع الأوقات، والأبوذية والدارمي والموال والأهزوجة والقصيدة الأنصارية، هي أنواع شعرية شعبية، وهذا الشعر مؤطر بالحسجة والرمزية الحديثة والخيال والصور الشعرية الرائعة، وقد أنجبت قرى الأهوار شعراء الأبوذية، ومن أبرزهم أبو معيشي(2)وهو من مدينة سوق الشيوخ إذ يقول:

زماني جرد اسيوفه وسنهــــــه

عليه واحرمت عيني وسنهــــه

وحك اللي فرض خمسه وسنهه

بعد هيهات عيش ايصير اليـــه

ومن شعراء الأبوذية أيضا ثامر حمودة والمطرب طاهر السعيدي والحاج جاسم الجشاف الماجدي وحسن سعدون الكطان وجاسم محمد الحجامي وأسد الخيون وخلف ساجت شاهر وستار الدلي الحجامي ومن شعراء القصيدة الشعبية مظفر النواب؛ لأنه عاش في الأهوار سنوات طويلة وكتب ديوانه الموسوم"للريل او حمد"هناك بين أعواد القصب الذي يعد باكورة الشاعر الإبداعية، ومن الشعراء الشعبيين مجيد جاسم الخيون الذي أصدر عدة مجاميع شعرية.

إن الشعر والأدب والثقافة هي لغة أبناء الأهوار، ومن هذه البيئة برزت أسماء شعرية لامعة، وما زالت المنافي تغص بهذه الأقلام، ولهم علاقة مع تلك البيئة، حتى ذهب بعضهم إلى إصدار مجلة موسومة بـ(القصب)، وهذا الشاعر هو مدين الموسوي من قضاء الفهود المحاذية لهور الحمّار.

إن ثقافة عرب الأهوار قد تأصلت منذ السومريين، أما الأدب بأنواعه الشعر، والقصة، والرواية، والمسرحية، فإنها تستمد نصوصها من حياة الإنسان.

لقد أنجبت هذه القرى شخصيات ثقافية وعلمية ويقال إن مدينة "الجبايش" كانت قديما مدينة علم ومعرفة وأدب، ويمتاز الإنسان في الأهوار بالذكاء والذهن الصافي البعيد عن الضوضاء، ويذكر أسد الخيون وهو شخصية أدبية وعشائرية (في إحدى مواسم الفيضان الذي اجتاح الجبايش كانت إحدى عوائل هذه الشخصية تمكث في سفينة هي وأثاثها، وفي سفينة ثانية كانت مكتبة هذه العائلة)، وهذا الشيء إنما يدل على عشق الإنسان هناك للكتاب الثقافي والأدبي، وتجسيداً لمقولة (القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ)، ولكن الإنسان الرافديني هو الذي يكتب ويقرأ، وكنت شاهدا على بقايا تلك الآثار الثقافية والمدارس العلمية في جامع "المؤمنين" في كرمة بني سعيد، والذي يعد مدرسة علمية يعود تاريخها إلى مئات السنين، وكان المرجع الديني الميرزا عناية الله جمال الدين صاحب هذه المدرسة الثقافية، وفي الجامع إيوانات وصفوف، ويسمى بجامع (المرزات) وفي الجامع مكتبة صغيرة وأتذكر في السبعينات عندما كنا صغارا نذهب إلى ذلك الجامع الذي تهدّم سقفه وبعض جدرانه، ونتصفح الكتب الثقافية والعلمية التي أكلت أغلفتها الأوساخ والأتربة، ونشم بين طيات هذه الكتب حضارة البلاد وتراثها، ونقرأ بين سطورها حكايات تلك البيئة وتاريخها ومعتقداتها، فالتعليم والمعرفة هي من سمات وصفات وثقافة أبناء الأهوار، وحتى المنطق والبلاغة في القول هي من تقاليد وفصاحة الإنسان الأهواري، وعندما يولد الإنسان هناك فإن أمه تسمعه الشعر وهو في المهد.

دللول.... يلولد يابني دللـــــــول

عدوك عليل.... اوساكن الجول(3)

وغيرها من الأبيات الشعرية والأناشيد الجميلة، إنها لغة أبناء الأهوار المليئة بالخيال والجمال والسحر كسحر البيئة التي يسكنونها منذ القدم، وتوجد في مجتمعات الأهوار تقاليد تختلف عن باقي المناطق، فمثلا عندما يمر شخص بحادثة مؤلمة أو يحتاج بعض المساعدة من محبيه، فإنه يلخص هذا الطلب ليس برسالة أو وصية، وإنما يبعث ببيت من الشعر، وهذا البيت هو لسان حال الشاعر الذي يخاطب به أحباءه، وغالبا ما تكون هذه اللغة المخاطبة تختص بالشعراء، وعندما يصدر أحد الشعراء هناك ديوانا شعريا أو كتابا ثقافيا، فإن هذا النتاج تعقد حوله ندوات نقدية وأدبية، تكون غالبا كمحكمة تقيّم هذا الإصدار، ويكون الشاعر أو المؤلف هو المدافع عن الإشكاليات والجدل الذي يثار حول إصداره الثقافي والأدبي. (والثقافة عند عرب الأهوار ليست الفنون الأدبية فحسب، وإنما تكون كذلك عن طريق تناولهم للأمثال والحكم والغناء والأناشيد والملاحم الأسطورية التي توارثوها من الحضارة السومرية، ويقال إن أول مسرحية مثلت وعرضت في العراق كانت في سوق الشيوخ المحاذي للأهوار)(4)، وثقافة أهل الأهوار لم يكن الشعر والحكم والأمثال فحسب، وإنما تكون كذلك عن طريق القصص الواقعية والخيالية التي يرويها الأجداد والآباء في دواوينهم، وتطول هذه القصص إلى عدة ساعات وتكون بمنزلة الرواية الأدبية، وتمتاز الحكايات والقصص بالأحداث المثيرة والقصص الجميلة.

يعد القصب في الحضارت السابقة المادة الأساسية في الكتابة، وهو بمنزلة القلم الآن، وقد عرف السومريون هذه المادة منذ نشوئهم وولادتهم فوق إيشانات بيئة الأهوار، أما الورق فهو مستخرج من البردي، إذن بيئة الأهوار تنتج القلم والورق.

لقد تناول بعض الأدباء والروائيين بأسلوب قصصي وروائي، فمثلا إصدار الروائي فهد مدفون الأسدي مجموعته القصصية (عدن ضاع) متناولا فيها حياة سكان الأهوار، وكما تناول صاحب هذه الدراسة بيئة الأهوار في روايته (قامات القصب)، كما أنجبت الأهوار شخصيات علمية وأدبية مثل الشيخ كاظم الحلفي صاحب مجلة الأضواء الذي كان يصدرها مع السيد الشهيد محمد باقر الصدر، ومن قرى الأهوار الناقد ياسين النصّير مع القاص غازي العبادي والشاعر جواد جميل، ومن قرى الأهوار القاص جمعة اللامي والقاص الروائي نجم والي، والدكتور شاكر مصطفى سليم والشاعر عبد الأمير الموسوي، والمخرج المسرحي فاضل خليل والأديب رشيد خليل، والكاتب فاضل الغزي، كما برزت في الأهوار شخصيات أدبية وعلمية مندائية مثل الشاعرة المعروفة لميعة عباس عمارة والأستاذ الدكتور فرحان سيف، وهولاء ينحدرون جميعا من الصابئة، وأنجبت قرى الأهوار الشعراء (مختار سعيد ووحيد خيون ومهند جمال الدين وجواد السنيد وعبد الوهاب الأمين ومحمد جواد فرج الله) وغيرهم من الشخصيات الثقافية والفنية والعلمية والأدبية.

***

صلاح جبار ابو سهير

.......................

([1]) مقال للكاتب منشور في مجلة ضفاف، ع12_13، فينا_النمسا، 2003م: 150

([2]) هو رائد شعر الأبوذية في العراق، كان من سكنة قضاء سوق الشيوخ.

([3]) أبيات شعرية ترددها النسوة في الأهوار من أجل أن ينام أطفالهن الصغار وهنّ يحتضنهم.

([4]) مقال للكاتب، مجلة ضفاف، ع12_13، 2003م: 150

 

في المثقف اليوم