شهادات ومذكرات

رائحة الماضي الأندلسية

توفيق التونجيانها سنة ١٩٥٩ حيث كانت المدينة وابنائها يتحضرون للاحتفال بمرور عام على اعلان الجمهورية وتزينت شوارع المدينة حيث كانت الشركات الكبيرة والاغنياء من اهالي المدينة يقومون بانشاء طاق كبير يزين بالمصابيح الملونة وبسعف النخيل وصور الزعيم عبد المريم قاسم. كان الاكبر والاحسن تزينا طاق شكركة نفط الشمال (IPC). كانت المسيرات المحتفلة تجوب شوارع المدينة ذو التعددية العرقية القومية والعقائدية.

ابناء كل قومية من قوميات المدينة كانت تنظم مسيرة خاصة بها. كانت طائرت الهليكوبتر العسكرية ترمي الحلوى وبطاقات السينما المجانية والمنشورات. لكن المدينة عاشت انذاك ثلاث ايام من رعب واستخدام الشدة والعنف الغير مبرر  كانت نتائجها ماساوية على اهل المدينة انذاك حيث قتل وسحل العديديين من التوركمان دون ذنب. ثم جاء انقلاب ١٩٦٣ في الثامن من شباط وبدا النظام الجديد بسلسلة من الاعدامات لمن اتهموا بارتكاب تلك الجرائم وللتاريخ كان بينهم ضحايا ابرياء. لا زلت اتذكر جثثهم معلقة في الساحة مقابل بناية المحاكم.  لا تزال قبور شهداء تلك الايام شاهد عيان على ماسي تلك الايام العصيبة. اليوم المقبرة تتوسط المدينة وتسمى ب (مقبرة الشهداء).

لم يكن بيتنا كبيرا بيت عمالي قرب محطة قطار عرفة الفضي في مدينة سمائها قرمزية وتفوح من هوائها رائحة الكبريت القادم من بابا، كركوك. حيث كان يعمل المرحوم الوالد. السنة ١٩٦٠ . كنت في الصف الثاني الابتدائي في مدرسة الغربية. لم تكن المدرسة قريبة وكانت تقع في منطقة تعليم تبة وسط بيوت تسمى عرصة وتلك البيوت الطينية للفقراء وكان معظم ساكنيها من الاكراد الفيلية ومن الطائفة الشيعية.

الجميل لا ا ال اتذكر بعض زملائي وصديقي الذي كان يجلس بقربي كان اسمه سعدي واخر اسمه حسين كاكه مان واللخوان ثاني ومحسن.كما لتذكر العديدد من المدرسين اللذين علوني لاراوحهم جميعا حيا او ميتا الرحمة والسلام. في هذا الحي حيث كانت تقام مجالس العاشورا المشهورة في كركوك. وفي منطقة تسعين القديمة (اسكي تسن) وحمزلي وكذلك كانت هناك حسينية قرب سوق الهرج. وكانت تلك الحسينية الوحيدة في مركز المدينة. ابناء كركوك ينتمون الى جميع العقائد فتجد الكوردي الشيعي والسني كما كنت تجد كذلك التركماني (الرافضي) الشيعي جنبا الى جنب مع السني وهناك المسيحي من كلدان واشورين والعربي والارمني وانقرض اليهود من المدينة تماما وبقى شواهد قبورهم شاهدا على وجودهم التاريخي في المدينة. تسمى بعض الاحياء باسم ساكنيها او العشيرة التي ينتمي اليها سكانها بينما تسمى البعض الاخر باسماء صاحب الارض والبعض حديث لها اسماء رسمية غير بعيدة من السياسة التي انتهجتها الانظمة المتعاقبة على العراق.4144 رائحة الماضي الاندلسية

الطريق من البيت الى المدرسة كانت غير ماهولة وبعد المرور من امام ببيوت الضباط البيضاء  كان علينا قطع اراضي قاحلة حتى مفرق القطار حيث المدرسة في الطرف الاخر من المحطة المفرق. بناية المدرسة كانت على شكل غرف دراسية تتوسطها ساحة سمنتية واخرى ترابية. اما المصاطب الخشبية المهترية كانت قاسية ورغم ان شبابيك الصفوف الدراسية عادة تكون مفتوحة في فصل الصيف الذي يبدا في واقع الامر مع اعياد نوروز ومع نهايات الشهر الثالث. اما في فصل الشتاء فحدث بلا حرج. البرد الجاف الذي ينخر العظام والتلاميذ يرتجفون من البرد. كنا نصطف كل صباح للتفتيش الصباحي حيث نمد ذراعينا الى الامام بالتوازي  واضعين منديلنا بين ايدينا وويل لمن نسى ان يقلم اضافره او نسى منديله فعصى المعلم اما الاستاذ صبحي افندي  البدين فقد كان يمر بسرعة البرق من بين صفوف الطلاب. وكان وجوده مراقبا ذلك اليوم مفرحا للجميع. بينما كان هناك معلمين اخرين امثال الاستاذ اكرم دندن القصير القامة يفتش كل شيئ. ومن نسى المنديل يضرب بالخيزران على كفه وقد كان من المحتمل ان يسعفه احد جيوب البنطال الابيض. اما افضلهم فكان مدرس الإنكليزي عباس افندي المحبوب لدن جميع التلاميذ . كان في ساحة المدرسة  في احدى السنوات جاء قرار اجبرايا ان يلبس الطلاب الزي الرمادي الموحد. اتذكر بانهم وزعوا على التلاميذ وربما فقط الفقراء منهم على تلك الالبسة التي كانت تشبه ملابس الصينيين الرمادية الموحدة خلال الحقبة الماوية.

لكن التجربة فشلت وعدنا الى ملابسنا العادية. للعلم في تلك الحقبة لم نكن نلبس الا الدشداشة المقلمة في حياتنا العادية  لكنهم في المدرسة اجبرونا ان نلبس البنطال والقميص في المدارس. حديثي كان عن تلك السجادة التي كانت تزين احدى جدران غرفة المعيشة التي كانت طبعا تتحول الى غرفة النوم مساء.

كطفل صغير كنت اجلس ساعات اتمعن تلك السجادة واتخيل الحياة في الاندلس. وباتت تلك السجادة والراقصات الاندلسيات تلعب بخيالي سنين طوال. كان على ان انظر اكثر من نصف قرن كي اجد نفسي ماشيا في شوارع وازقة اشبيلية واجوب مدن الاندلس مع  ابن زيدون واتناقش مع ابن خلدون واغازل الاميرة ولادة بنت المستنكف واستمع الى زرياب في قصر الحمراء . اسعفني الحظ الى اصل الى الاتدلس لكني افكر فيكم انتم يا من لا زلتم تحلمون المثول امام جداران حديقة العدل الشبيهة بوصف جنان الجنة في القصر الحمراء في مدينة غرناطة. سلاما الى تلك الايام

واناس جعلوا من الحياة حلوة حتى في مرارتها.

***

د. توفيق آلتونجي - الاندلس

في المثقف اليوم