شهادات ومذكرات

رقبة نجيب محفوظ التي واجهت سكين الارهاب

اعادنا حادث طعن الروائي سلمان رشدي في رقبته الى حادث شهير تعرض له الكاتب الروائي الكبير نجيب محفوظ عام 1994، ففي الساعة الخامسة والربع من مساء يوم الرابع عشر من تشرين الأول عام 1994 كان نجيب محفوظ كعادته يخرج من بيته ليذهب الى ندوته الأسبوعية حيث يلتقي ببعض الأصدقاء.. كان صديقه الدكتور فتحي هاشم ينتظره أمام باب العمارة التي يسكن فيها، تقدم نجيب محفوظ نحو السيارة وما إن جلس في المقعد الأمامي، اقترب منه أحد الاشخاص فتوهّم أنه أحد القرّاء أو المعجبين، لكن الشاب الغريب باغته وغرز سكيناً في رقبته، يتذكر نجيب محفوظ الحادث فيكتب في صحيفة الأهرام يصف الحادث  :"إنني لم أرَ الشاب الذي اعتدى عليّ..لم أرَ وجهه.. الذي حدث هو أنني وأنا أهمّ بركوب السيارة لأذهب إلى موعدي مع أصدقائي، وجدت شخصا يقفز بعيدا، وكنت قد شعرت قبلها بثوان معدودة وكأنّ وحشاً قد نشب أظافره في عنقي.. وقد دهشت ولم أدرك بالضبط ما حدث".

 الشاب الذي طعن نجيب محفوظ يدعى محمد ناجي يعمل فني إصلاح أجهزة إلكترونية، حصل على شهادة متوسطة.. في حوار معه أجراه الكاتب محمد سلماوي قال إنه"اتجه إلى الله" قبل حادثة اغتيال نجيب محفوظ بأربع سنوات :"قرأت كتبًا كثيرة خاصة بالجماعة الإسلامية إلى أن قابلوني"؛ واعترف الشاب لسلماوي بأنه لم يقرأ شيئاً لمحفوظ وعقّب قائلا"أستغفر الله"، وشدد أنه لم يكن يحتاج إلى قراءة أعمال محفوظ، وأنه حاول اغتيال محفوظ لأنه"ينفذ أوامر أمير الجماعة، التي صدرت بناء على فتاوى الشيخ عمر عبد الرحمن".

وذكر سلماوي في كتابه"في حضرة نجيب محفوظ"أنه أبلغ الشاب بأن محفوظ سامحه على جريمته فقال"هذا لا يعنيني ولا يغير من الأمر شيئًا، لقد هاجم نجيب محفوظ الإسلام في كتبه لذا أهدر دمه، وقد شرّفتني الجماعة بأن عهدت إليّ تنفيذ الحكم فيه فأطعت الأمر"

في العام 1989 سيكتب نجيب محفوظ مقالا في جريدة الاهرانم المصرية بعنوان " حقيقة اقوالي عن سلمان رشدي " يتناول فيه قضية سلمان رشدي والفتوى التي صدرت باهدار دمه، حيث يؤكد محفوظ في مقدمة المقال انه تلقى سيلا من الاسئلة حول سلمان رشدي وكتابة " آيات شيطانية " وقبل ان يناقش القضية يعترف نجيب محفوظ انه حتى لحظة كتابة هذا المقال لم يطلع على كتاب رشدي، ولا علم له بما جاء فيه، وعليه فانه لن يعطي رايه في الرواية إلا بعد ان يقرأها .. وفي المقال يركز نجيب محفوظ على الفتوى التي صدرت باهدار دم سلمان رشدي، فهو يرى ان الرد على كتاب رشدي يجب ان يكون من خلال كتاب او كتب تفند ما جاء في الرواية ويضيف في المقال قائلا :" ضربت بالأزهر الشريف مثلاً طيباً فى تصديه للكتاب بالرد عليه فى كتاب آخر، كما أشرت إلى فتوى فضيلة المفتى وذلك كله يهدف أن يدرك القارئ أو المشاهد أن للإسلام رسالة غير الإرهاب والتحريض على القتل " مضيفا :" أنادى بأن تكون حرية الرأى مقدسة ولا يصحح الفكر إلا الفكر، ولكن لا تتساوى المجتمعات فى تحمل الحرية إذا تجاوزت الحدود، وعلى المفكر أن يتحمل مسئولية فكره فى حدود إيمانه وشجاعته وظروف مجتمعه، ولذلك أيدت مصادرة الكتاب حفظاً للسلم الاجتماعى، على شرط ألا يتخذ ذلك ذريعة لقهر الفكر بل أيدت مطالبة الأزهر بمنع طبع أولاد حارتنا طالما أن رأيه فيها لم يتغير، وأكدت أن كتابى ليس فيه ما يمس الأديان أو الرسل، وإنى كبير الأمل فى أن أوضح للمعترضين على وجه الحق فيه، وفى حديث مع التليفزيون السويسرى كانت حقائق جديدة قد ذكرت عن الكتاب فعرفت أنه والعهدة على الكاتبين سب وقذف لم يجر بمثله من قبل، فقلت للمذيعة إنه إن صح ذلك فالكتاب يكون تحت مستوى المناقشة، وإنه كأى فعل خارج عن حد القانون والأدب فمخاصمته تكون فى المحاكم .. إنى لأدرك أنه إذا كان سلمان انحرف فى خياله، فإن المسلمين أساءوا التصرف بالمظاهرات وحرق الكتاب وإهدار الدم، مما قلب الوضع فجعل من المجرم ضحية ومن الضحية متهماً، وتخفيفاً من البلوى أقترح:

1- أن تعلن الدول الإسلامية رفضها للإرهاب وإهدار الدماء باسم الإسلام.

2- أن تطالب الدول باحترام الديانات والمقدسات لدى الشعوب مع عدم التعرض لحرية البحث العلمى القابل للمناقشة.

3- أن تقاطع دور النشر التى تتولى نشر الكتاب.

في نيسان من العام 1959 يعود نجيب محفوظ للكتابة بعد توقف دام اكثر من خمس سنوات، كانت صحيفة الأهرام قد قدمت له عرضا مغريا بنشر إحدى رواياته متسلسلة على صفحات الجريدة، ويذكر نجيب محفوظ أنه أعطى الرواية إلى مدير تحرير الصحيفة حمدي الجمال الذي قرأها وأعجب بها ودفعها للنشر، ويبدو أن مدير التحرير لم ينتبه الى الموضوع الرئيس الذي تناقشه الرواية، حيث اعتبرها رواية عادية تدور أحداثها في إحدى الحارات المصرية.

في الرابع عشر من أيلول 1959 تنشر صحيفة الأهرام في الصفحة الأولى خبراً يقول"اتفقت الأهرام مع نجيب محفوظ كاتب القصة الكبير، على أن تنشر له تباعاً قصته الجديدة الطويلة.. إن نجيب محفوظ هو الكاتب الذي استطاع أن يصور الحياة المصرية تصوير فنان مقتدر مبدع، لذلك فإن قصصه كانت حدثا أدبيا بارزا في تاريخ النهضة الفكرية في السنوات الأخيرة. ولقد وقعت الأهرام مع نجيب محفوظ عقدا يصبح للأهرام بمقتضاه حق النشر الصحفي لقصته الجديدة مقابل ألف جنيه."وبعد أربعة أيام تعود الاهرام لتنشر في الصفحة الأولى هذا العنوان"الأهرام تبدأ في نشر قصة نجيب محفوظ يوم الإثنين القادم"، وبدأ نشر الرواية يوم الإثنين الحادي والعشرين من أيلول  بعنوان أولاد حارتنا.

تُنشر الرواية وتمرّ الحلقات الاولى دون أن ينتبه لها أحد، حتى كتب أحد النقاد في صحيفة الجمهورية المصرية مقالاً يشير فيه الى أن نجيب محفوظ يتناول قضية الخلق في"أولاد حارتنا"، بعد نشر المقال بدأت بعض الجهات الدينية بمطالبة النيابة العامة إلى التدخل لوقف النشر، ودخل الازهر على الخط حيث اعتبرها بعض المشايخ تتضمن كفرا صريحا، وان الشخصيات في الرواية ترمز الى الانبياء، ووصلت رسائل الشكوى والاحتجاجات الى رئاسة الجمهورية التي طلبت إيضاحا من رئيس التحرير آنذاك محمد حسنين هيكل،، ويذكر هيكل في حواره الذي أجراه معه يوسف القعيد ونشر في كتاب بعنوان" هيكل يتذكر.. عبد الناصر والمثقفين": بعد الضجة التي حدثت أخذت"اولاد حارتنا وقرأتها، وأدركت مغزى تحذير نجيب محفوظ لعلي الجمال، إلا أن رأيي استقر على المواصلة بالنشر، ولم أكن أتخيّل أن تصل الضجة حولها الى بعض الجهات الدينية الكبرى التي طالبت الرئاسة بوقف النشر حتى لا تحدث مصادمات بين الحكومة والإسلاميين"، وفي كتاب صفحات مجهولة من حياة نجيب محفوظ، يخبرنا رجاء النقاش أن جمال عبد الناصر اتصل بهيكل وكان قد قرأ بعض الحلقات ليسأل هيكل عن الضجة المثارة، ويدافع هيكل عن نجيب محفوظ وينصح الرئيس بأن لايمنع الرواية، لأنّ مثل هكذا قرار سيضع الدولة تحت رحمة الإسلاميين، ووافق عبد الناصر، لكنه اقترح على هيكل أن يسرع في النشر ويجعله يومياً حتى تنتهي حلقات الرواية وتنتهي معها الازمة، ويكلف عبد الناصر مندوباً من الرئاسة أن يبلغ نجيب محفوظ بأن الرواية لن تنشر في كتاب يقول نجيب محفوظ :"بعد أن انتهت الاهرام من نشر أولاد حارتنا اتصل بي الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية وقال لي من : من الصعب السماح بطبع هذه الرواية، لأنها سوف تثير ضجة كبيرة.. وتجتمع لجنة الدفاع عن الإسلام برئاسة محمد الغزالي وهو من الشخصيات القيادية في حركة الإخوان المسلمين وتهاجم اللجنة رواية"أولاد حارتنا هجوما عنيفا حيث أكد البيان أن الرواية تعبث بتاريخ الديانات وتدعو إلى الإلحاد.

ترصد"اولاد حارتنا " قصة الكون من خلال حارة مصرية، حيث يستدعي نجيب محفوظ العالم منذ بدء الخليقة وظهور الخلافات الأولى بين قابيل وهابيل، مروراً بخروج آدم من الجنة وبداية الآلام والصراعات التي ارتبطت بأحفاده منذ خروج أبيهم من الجنة وحتى الآن. كما تستدعي الرواية قصص الأنبياء المختلفة وأدوارهم في تحقيق العدل الإنساني ضد الفتوات الذين استحكموا في عباد الله الغلابة، وأذاقوهم ويلات القمع والقهر والمهانة. لقد نقل محفوظ قصة الكون منذ بدء الخليقة، بمحاكاة تسجيلية دقيقة ورائعة وجذابة إلى حارته التي استطاع باقتدار كالتب كبير أن يمسك بادق تفاصيلها ويحرك شخوصها كيفما يريد.

يقول نجيب محفوظ لرجاء النقاش انه :"يريد الكشف عن الهدف الأساسي للبشرية، وهو البحث عن سر الكون، وحتى تستطيع البشرية الكشف عن هذا السر، تحتاج إلى التفرغ له والاستعداد، وهي لن تتمكن من هذا إلا بعد القضاء على استغلال الأغنياء للفقراء، والصراع بين الناس من أجل لقمة العيش فالرواية تصور هذا الصراع المرير الذي تزعّمه الأنبياء والرسل دفاعاً عن الفقراء وتهيئة العيش السعيد للناس أجمعين حتى يتفرغوا للبحث الأعظم، ولكن ما إن تنتهي الرسالة حتى يعود الأغنياء فيقبضون على زمام الأمور، وتعود المعركة من جديد للوصول إلى العدل والرفاهية للجميع، ثم تدخّل"العلم"بعد انتهاء الرسالات ليقوم بنفس الغاية وهي إسعاد الناس، ولكنّ المستغلين سخّروا العلم لمصلحتهم أيضا، وقتلوا رمزه في القصة، إلا أن شخصا آخر استطاع الهروب بسرّ الاختراعات العلمية الحديثة ليعاود الكفاح من أجل إنهاء الصراع بسبب لقمة العيش والتفرغ لمعرفة سر الحياة".- صفحات من مذكرات نجيب محفوظ –

في دراسة بعنوان " السقوط والخلاص .. قراءة في رواية اولاد حارتنا " نشرت في مجلة فصول في كانون الثاني عام 1995 اي بعد ثلاثة اشهر على محاولة اغتيال محفوظ يكتب المفكر حسن حنفي :" لا يمكن قراءة اولاد حارتنا ومصادرها الدينية في قصص نجيب محفوظ وإلا حولناها الى كتاب في التفسير وليس رواية . ولهذا لا تكون المطابقة بين الرواية والنص القرآني وحده، بل بين الرواية والواقع الاجتماعي " ويضيف حنفي :" فليس في الرواية ما يستحق المنع او التحريم، لكنها دسيسة ووشاية بعض رجال الدين، مزايدة في الايمان، وتقربا الى السلطات، ورغبة في التسلط على رقاب الناس ".

قبل ان ينشر نجيب محفوظ روايته " اولاد حارتنا " كان قد نشر في صحيفة الاهرام مقالا عن فكرة الالوهية في الفلسفة الحديثة وفيه يقول :"شعر الفلاسفة المحدثون، كغيرهم من المفكرين في أي عصر آخر، بأننا نستطيع أن نعرف القليل عن الله، لكننا لانستطيع أن نعرف عنه كل شيء، فثمة طرق نستطيع أن نعرف فيها الله وأخرى لانستطيع أن نعرفه فيها".

كان نجيب محفوظ ينوي عام 1930 الحصول على شهادة الماجستير في الفلسفة، وأخذ ينشر مقالات في"المجلة الجديدة"التي كان يصدرها آنذاك سلامة موسى، يرى فيها أن الإنسان يمكن أن ينتصر على الفقر بالعلم، ولهذا قرر ان يناقش في رواياته التي كتبها فيما بعد قضايا علمية كان الاقتراب منها أمراً محفوفاً بالمخاطر.. وفي ثلاثيّته الشهيرة بين قصرين.. قصر الشوق.. السكرية يسلط الضوء على إزمة الإنسان الوجودية ورؤية أبطال الرواية الى الكون، وشكوك البعض منهم تجاه المعتقدات المتداولة آنذاك :"وجَّهني سلامة موسى إلى شيئين مهمين، هما العلم والاشتراكية، ومنذ دخلا مخّي لم يخرجا منه حتى الآن".

وفي مقال ينشره نجيب محفوظ في "المجلة الجديدة" عام 1930 بعنوان: "احتضار معتقدات وتولد معتقدات"يشير إلى أن المدنيات القديمة قامت على معتقدات ترسخت في وجدان شعوبها، لأنها كانت بمأمن في نفوسهم من النقد والبحث اللذين يولّدان الشك والريبة، غير أن الوضع الحالي أصابه تغير بتسليط ضوء العقل على تلك المبادئ التي قامت بها تلك المعتقدات القديمة، ولذلك فإن العصر الحالي يعاني فيه الناس من الاضطراب والتخبط الفكري والمعرفي،لأنهم يشهدون عصر احتضار وتولد معتقدات. ولذلك فالمقياس الذي علينا أن نتشبث به هو العقل والتطور العقلي، لأنه سيجعلنا نتوجه إلى الطريق الأصوب، وإذا كانت الفلسفة تطرح الأسئلة، فبإمكاننا أن نقول إن الأدب يحاول طرح إجاباتها، وتشكيل زوايا لرؤية تفاعل الشخصيات مع تلك الأسئلة، وكذلك محاولاتها للحل في المعالجة الفنية. وهو ما يقوم به الأديب ذو الخلفية الفلسفية على وجه التحديد".

يكرّر نجيب محفوظ في معظم رواياته علاقته مع العلم والفلسفة. وقد كان يؤمن أن الفكر الفلسفي وحده يستطيع النفاذ والنظر الى مشكلة الألوهية والخلق، فهو يرى أنّ العلم هو الصورة الوحيدة للمعرفة البشرية،، وكان يرفض اعتبار اللاهوت أو الفلسفة الميتافيزيقية ميادين للمعرفة، فالعالم الذي يصفه العلم هو العالم الوحيد الموجود، وهو يرى أن مسائل الدين والأخلاق يجب أن تخضع لمعايير العلم.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم