شهادات ومذكرات

أبو مسلم الخراساني.. كِبر الجبابرة وجزع الصبيان (1)

سليم جواد الفهدالموت هو النهاية الحتمية لكل حي هذه حقيقة يقينية يعرفها العالم كما يعرفها الجاهل لا فرق بينهما في اليقين. الكل سينزل في تلك الحفرة المظلمة باستثناء من لا يجد قبرا حيث يتساوى - في القبر- الجميع الرفيع والوضيع العالم والجاهل الغني والفقير. نفس التراب نفس الوحدة نفس الصمت.

يبقى أن نقول أن الموت يحمل إشكالية فلسفية هي: أنه كلي كلية مطلقة وجزئي جزئية مطلقة أي إن الكل يموتون لكن كل منا يموت وحده. فموت الكل في وقت واحد يمنح الطمأنينة وتنتفي منه الوحشة والرهبة.

أما علمك أن الكل سيموت لكنك ستموت وحدك فهذا يعني أنك ستواجه المجهول وحدك.

هنا تكتمل عناصر المأساة (الوحدة والمجهول وفراق الأحبة). والتفاوت هو سيد الموقف فهناك من ينتظر الموت ويتمسك بآخر رمق للحياة حتى لو كانت حياته حياة بائسة وهناك من يستعجل الرحيل إذا وقع في اليأس واللاجدوى حتى ولو كانت حياته باذخة. ومواقف الناس من الموت متباينة:

فهناك من يلقى الموت بشجاعة فيموت عزيزا شامخا. وهناك من يخاف ويجبن فيموت ذليلا منكسرا.  

وأعتقد أن ليس هناك فضول أروع للنفس من فضول تمثل مصارع الناس والاستماع إليهم في ساعاتهم الأخيرة وتعرف ما قالوه -وقت حلول الأجل- وآخر ما تفوهوا به قبل أن يفارقوا هذا العالم-خيره وشره- فراقا أبديا لا عودة لهم بعده.

وإذا كان جل العامة من الناس والبسطاء معلومين الموقف من الموت فلا جرم أن الفضول يعظم ويزداد إلى أقصى حد حين يقترن الموت بعظمة الميت كأن يكون ملكا أو قائدا أو عالما أو مناضلا ذو بأس حيث تتناسب مكانته مع موقفه من الموت والمفترض أنه كلما كانت مكانة الإنسان كبيرة كان موقفه من الموت شجاعا.

لكن هذا لا يعمم فكم من عظيم المكانة مات جبانا وهذا يدل على أن عظم المكانة قد يأتي عفوا لا إستحقاقا.

ومن هؤلاء أبي مسلم الخراساني! فمن هو وكيف أنتهى به المطاف؟

تضاربت الروايات في أصله واسمه وما ترشح عندي أنه عبد فارسي من علوج أصبهان ولم يكن عربيا وكان اسمه إبراهيم بن عثمان بن يسار وأمه اسمها وشيكة ولد سنة (100هـ-718م) في أصبهان - إيران. وقتله المنصور سنة (137هـ-754م) في المدائن. أتصل بإبراهيم الإمام كبير العباسيين فأعجب به ووجهه إلى خراسان وطلب منه تغيير اسمه فتسمى بعبد الرحمن وتكنى بأبي مسلم. (ابن قتيبة، المعارف، ص420). (الطبري، ج7، ص198). (المقدسي، البدء والتاريخ، ج6، ص92). (ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج3، ص145).

ظهور الدعوة العباسية في خراسان.

في (11رمضان 129هـ) بدأ ظهور دعوة بني العباس في خراسان بقيادة سليمان بن كثير الخزاعي وبمساعدة أبي مسلم الخراساني.

كان أبو مسلم الخراساني في نهاية العشرينيات من عمره حينما بدأ الدعوة لخلافة العباسيين وكان قبلها غلاماً سراجاً يعمل في سرج الخيول حتى اتصل بإبراهيم الإمام كبير بني العباس وكان في خدمته.

وأعجب إبراهيم الإمام بذكاء أبو مسلم وحماسته رغم حداثة سنه فأرسله داعية للعباسيين في خراسان فذهب إليها أبو مسلم واستمال أهلها للدعوة العباسية الناشئة وهجم على والي نيسابور وقتله واستولى عليها وأرسل نصر بن سيار والي خراسان الأموي رسالته الشهيرة للخليفة الأموي، يقول فيها:

(أرى تحت الرماد وميض). (الذهبي، تاريخ الإسلام، ج5، ص323).

وصلت الدولة الأموية إلى أول مراحل هبوطها وضعفها بعد هشام بن عبدالملك وتميزت فترات الخلفاء الذين أتوا بعده بالانقسام والخلافات حتى ظهرت الدعوة العباسية مستغلة الخلاف بين الفرس والعرب في الضرائب والمناصب والجيش والقول بأحقية العباس بن عبدالمطلب عم النبي محمد بالخلافة.

ويعتبر محمد بن عبدالله بن عباس وابنه إبراهيم الإمام مؤسسي الدعوة لكن بعد سجنهما في عهد الخليفة الأموي الأخير (مروان بن محمد) تولى أبو العباس شؤون الحركة العباسية وكان أبو مسلم الخراساني الرجل الأقوى فيها.

لاحقا قام أبو مسلم بإعلان قيام الدولة العباسية في خراسان وحارب نصر بن سيار الوالي الأموي عليها وانتصر عليه ثم احتل مدينة مرو ومنها انتقل أبو العباس إلى الكوفة بشكل سري وظل مختفياً حتى (12 ربيع الأول سنة 132هـ 750م) حين بايعه أهل الكوفة بالخلافة.

وبذلك أصبحت الدولة العباسية واقعاً على الأرض حتى المواجهة الأخيرة بين الجيشين الأموي والعباسي قرب نهر الزاب شمالي العراق وانتصر العباسيون وسيطروا على العراق ثم الشام ومصر التي قتل الخليفة الأموي الأخير فيها وبعد ذلك خضعت لهم بقية الأمصار والولايات التي كانت تتبع الأمويين. (المقدسي، البدء والتاريخ، ج6، ص93).

بداية النهاية:

بدأ الغرور يتسرب إلى نفس أبي مسلم ومطامعه تتجلى واضحة في آخر خلافة أبي العباس وأول خلافة أبي جعفر. كان أبو مسلم قائد عسكري لكنه لم يكن رجل سياسة محنك وشتان مابين الأمرين فكانت تعوزه الخبرة السياسية في مجالها المعروف ومن هنا بدأت المشاكل تظهر إلى الوجود بينه وبين السلطة المركزية التي كانت تريد أن تفرض أوامرها على جميع ولاتها وكان هو يرفض-غرورا- أن يكون أحد وصيا على تصرفاته لقد نسي العبد نفسه!!!

فتجاهل تماما وجود شيوخ ونقباء الدعوة العباسية في خراسان وعلى رأسهم شيخ دعاة خراسان سليمان بن كثير الخزاعي.

سلسلة الحماقات:

أرتكب أبو مسلم عدة حماقات بعضها كارثي هي التي أدت به إلى مصيره المحتوم.

1- بلغت به الحماقة والغرور حدا دفعه إلى تعيين (أبي الجهم بن عطية)جاسوسا في البلاط العباسي لينقل أخبار البلاط إليه أولا بأول. (الدنيوري، الأخبار الطوال، ص356).

2- رفض الإذعان لأمر الخليفة أبي العباس السفاح حين وجه عمه عيسى بن علي سنة (132) واليا على فارس وكان عليها محمد بن الأشعث فاراد محمد قتله فقيل له: إن هذا لا يسوغ لك. فقال: بلى أمرني أبو مسلم أن لا يقدم علي أحد يدعي الولاية من غير أمره إلا ضربت عنقه ثم خلى سبيله. (ابن الأثير، الكامل، ج5، ص443).

3- وضعه قوات في الري بلغ قوامها (ثمانية آلاف) مقاتل لتكون على أهبة الإستعداد عند استدعائها. (ابن الأثير، الكامل، ج5، ص458).

4- أقدم على كارثة لا تغتفر-هي التي أنهت كل شفاعة له- بقتله سليمان بن كثير الخزاعي شيخ النقباء العباسيين واكتفى بأن كتب إلى الخليفة يعلمه بذلك. فتكدر السفاح والمنصور أشد الكدر وقال السفاح: قتلني الله إن لم أقتله به. (البلاذري، أنساب الأشراف، ج3، ص147).

يتبع.

***

سليم جواد الفهد

 

في المثقف اليوم