شهادات ومذكرات

أبو مسلم الخراساني.. كِبر الجبابرة وجزع الصبيان!!! (2)

سليم جواد الفهدبعد أن تجرأ أبو مسلم وارتكب حماقة قتل سليمان بن كثير الخزاعي شيخ نقباء خراسان وأرسل لدار الخلافة كتابا يعلمهم بذلك بلغ من شدة غضب المنصور أن قال: (أنا بريء من العباس إن لم أقتل ابن وشيكة).

"البلاذري، أنساب الأشراف، ج3، ص39".-ووشيكة أم أبي مسلم-.

موسم الحج.

كتب أبو مسلم إلى أبي العباس يستأذنه في الحج سنة (136).

فكتب أبو العباس للمنصور يقول: (إن أبا مسلم كتب إلي يستأذن في الحج وقد أذنت له وقد ظننت أنه إذا قدم يريد أن يسألني أن أوليه إقامة الحج للناس فاكتب إلي تستأذنني في الحج فإنك إن كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك فأسرع المنصور وقدم الأنبار فوصلها قبل وصول أبي مسلم إليها)."العيني، عقد الجمان، ج7، ص157".

ولم يكد يعلم أبو مسلم بخروج أبي جعفر إلى الحج

حتى امتلأت نفسه غيظا وحقدا وقال: (أما وجد أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا واضطغنها أبو جعفر عليه)."البلاذري، أنساب الأشراف، ج3، ص39".

:الطبري، ج7، ص470-479".

وعلى هذه الصورة من التنافس والتناحر والبغض والكراهية سار الركب إلى مكة تحت أمرة المنصور (وسار أبو مسلم وهو مضطرب تارة يتقدم وتارة يتأخر بادايا وراجعا خوفا على نفسه)."البلاذري، أنساب الأشراف،ج3، ص39".

(ولم يقف أبو مسلم عند هذا الحد فكان يتحبب إلى العرب ويستجلب مودتهم وكان يصلح العقاب ويكسو الأعراب في كل منزل ويصل من سأله وكسا الأعراب البتوت والملاحف وحفر الآبار وسهل الطرق. فكان الصيت والذكر له دون الخليفة)."الطبري، ج7، ص480".

وبعد انتهاء الموسم رجع الجميع قاصدين العراق وأثناء الطريق وصل الخبر بوفاة أبي العباس السفاح فعلم أبو مسلم بالخبر لتقدمه في المسير.

فكتب إلى أبي

جعفر المنصور

(عافاك الله وامتع أجرك، أتاني خبر وفاة أمير المؤمنين رحمه الله فبلغ مني أعظم مبلغ وزادني وجعا وألما فأعظم الله أجرك وجبر مصيبتك ورحم الله أمير المؤمنين وغفر له وجزاه بأحسن من عمله)."البلاذري، أنساب الأشراف، ج3، ص91).

(فلما قرأ المنصور الكتاب استشاط غيظا لأن أبا مسلم لم يهنئه بالخلافة وبعد يومين أرسل له بالبيعة)."الطبري،ج7،ص472". وواضح قصد أبو مسلم من التأخير وهو ارهاب المنصور وتخويفه.

خيانة أبي مسلم:

عندما وصلوا إلى  الانبار أظهر أبو مسلم نوايا الخيانة تجاه المنصور-وهو الذي بايعه بالأمس- وذلك أنه حرض عيسى بن موسى ولي عهد المنصور على إعلان الثورة ضد المنصور وتنصيبه خليفة للمسلمين بدلا منه واعلمه باستعداده التام للتعاون معه من أجل ذلك لكن عيسى رفض العرض رفضا قاطعا وحذر أبا مسلم من مغبة عمله قال له: (الأمر لعمي ولو قدمني أبو العباس لقدمته على نفسي)."ابن أعثم،الفتوح، ج2، ص137".

ووصل الخبر إلى المنصور فزاد من حنقه عليه وقرر التخلص منه إلا إن خروج عبد الله بن علي وإدعائه الخلافة في بلاد الشام جعلت المنصور يرجئ النظر في أمر أبي مسلم لحين الانتهاء من عبد الله بن علي.

فمن هو عبد الله بن علي؟

(هو عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس.

عم السفاح والمنصور من الرجال الدهاة وكان بطلا شجاعا مهيبا جبارا سفاكا للدماء به قامت الدولة العباسية حيث سار في أربعين ألفا لقتال بني أمية  فالتقى مع الخليفة الاموي مروان بن محمد بقرب الموصل فهزمه ومزق جيوشه ولج في طلبه وطوى البلاد حتى نازل دار الخلافة الاموية في دمشق فحاصرها أياما وأخذها بالسيف وقتل خلقا كثيرا من اهل دمشق ثم جهز في الحال أخاه صالح بن علي في طلب مروان إلى أن أدركه بقرية (بوصير) في مصر فبيت مروان فقاتلهم مروان حتى قتل وهرب ابنا مروان عبد الله وعبد الملك إلى الحبشة وانتهت الدولة الأموية.

ولما مات أبو العباس السفاح زعم عبد الله أنه ولي عهده وبايعه أمراء الشام على أنه الخليفة بعد السفاح.

في حين بويع أبو جعفر المنصور بالعراق وأستعد وندب لحرب عمه أبا مسلم الخراساني فالتقى الجمعات (بنصيبين) فإشتد القتال وعظم الخطب ثم انهزم عبد الله في خواصه وقصد البصرة فأخفاه أخوه سليمان مدة ثم ما زال المنصور يلح في طلبه حتى أسلمه فسجنه سنوات فيقال حفر أساس الحبس وأرسل عليه الماء فوقع على عبد الله في سنة(147هـ)."ابن الاثير، الكامل، ج5، ص472".

وبعد أن كتب أبو مسلم إلى الخليفة يعلمه بانتصاره على عبد الله (أرسل المنصور إليه يقطين بن موسى لإحصاء الأموال فثار أبو مسلم وقال: ما لأبي جعفر وهذا إنما له الخمس. ثم قال: يايقطين أمين على الدماء خائن في الأموال قبح الله أبو جعفر وشتمه ونال أمه فقال: أفعلها ابن سلامة الفاعلة لايكنى وشتم يقطين)."البلاذري، أنساب الاشراف، ج3، ص42".واليعقوبي، ج3،ص106 ".

وعندما رجع يقطين أخبر الخليفة بما شاهده وما سمعه.

هنا بدأ المنصور بإعداد الخطة النهائية للقضاء على أبي مسلم وأول هذه الخطة منعه من الوصول إلى خراسان-قلعته الحصينة- ولتحقيق هذا الهدف كخطوة أولى تتبعها خطوات أخرى كتب إليه: (إني قد وليتك الشام ومصر، فهما أفضل من خراسان، فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقائك أتيته من قريب.)."الطبري،ج7، ص483".

ويتبين بجلاء هدف المنصور من هذا الاجراء وهو أبعاد أبي مسلم عن مركز قوته في خراسان لكي يكون ضعيفا وقريبا من مركز الخلافة تسهل مراقبته ورصد تحركاته تمهيدا للقضاء عليه.

وارسل الكتاب مع يقطين بن موسى (فلما قرأه أبو مسلم غضب أشد الغضب وقال: هو يوليني الشام ومصر وخراسان لي ايخدعني ابن سلامة ثم رمى الكتاب من يده)."الطبري، ج7، ص483".

وكان الحسن بن قحطبة -المكلف بمراقبة أبي مسلم وعد أنفاسه- يكتب سرا بالاخبار إلى المنصور فكتب إليه يخبره بكلام أبي مسلم وكتب إليه في آخر الكتاب: (أخبرك يا أمير المؤمنين، إن الشيطان الذي كان ينفخ في رأس عبد الله بن علي، قد انتقل في رأس أبي مسلم، والسلام)."ابن أعثم، الفتوح، ج2، ص165).

وبعد هذه التطورات الخطيرة أصبح التفاهم أو الصلح بينهما مستحيلا  فقرر أبو مسلم أن يحمي نفسه وقد أيقن بالهلاك وليس له ملجأ إلا خراسان أما المنصور فإنه صمم على عدم بلوغ أبو مسلم خراسان. (وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعا على الخلاف وخرج من وجهه معارضا يريد خراسان فوصل كفر (توثا) ومعه دليل يدله على الطريق حتى أخرجه من شهرزور وأخذ طريق حلوان)."ابن الجوزي، المنتظم، ج8، حوادث سنة137).

أما (الخليفة المنصور فرحل من الانبار إلى المدائن وعسكر برومية المدائن التي بناها كسرى فقيل له: (أن أبا مسلم أخذ طريق حلوان فقال: رب أمر الله دون حلوان)."الطبري، ج7، ص474". يقصد بذلك أن يتمكن منه قبل مواصلة سفره إلى خراسان.

وبعد أن استقر المنصور بالمدائن بدء بتنفيذ خطته فبدأ أولا بانتهاج سياسة اللين فكتب إلى أبي مسلم: (إني أردت مذاكرتك في أشياء لم يحتملها الكتاب فأقبل فإن مقامك قلبي)."الدينوري، الأخبار الطوال،ص359).

ولما وصل الكتاب لأبي مسلم وهو في طريقه إلى حلوان-قرب خانقين في محافظة ديالى حاليا- قرأه وكتب:

(إنه لم يبق لأمير المؤمنين-أكرمه الله- عدو إلا أمكنه الله منه وقد كنا نروي عن ملوك (آل ساسان) إن أخوف ما يخاف الوزراء إذا سكنت الدهماء فنحن نافرون من قربك حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت حريون بالسمع والطاعة غير أنهما من بعيد حيث تقارنهما السلامة فإن أرضاك ذاك فأنا كأحسن عبيدك فإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي)."الجهشياري، الوزراء والكتاب، ص111".

وعندما وصل كتاب أبو مسلم إلى المنصور ظل رابط الجأش حذرا من من اتخاذ موقف من شأنه إثارة غضب أبي مسلم ونفوره لذلك أجابه بكتاب قال فيه: (قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم؟

فأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سماع ولا طاعة.

وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك)."المقدسي، البدء والتاريخ، ج6ص78".

لم يكتف أبو جعفر  المنصور بما كان يبعث به من الكتب المنمقة إلى أبي مسلم وبما كانت تحويه من العبارات الخلابة والثناء المزيف بل أمر- بلفته ذكية للغاية- أبناء عمومته ومن حضر من بتي هاشم (أن يكتبوا إليه فيعظموا عليه حق الطاعة ويشكروا ما كان منه ويسألوه أن يبقى على ما كان عليه من الوفاء ويحذرونه عاقبة الغدر ويأمرونه بالرجوع إلى أمير المؤمنين وأن يلتمس رضاه فكتبوا إليه)."ابن الاثير، الكامل، ج5، ص471".

ولم يكتف أبو جعفر بذلك بل-كتكتيك ثاني- كان يرسل خلصائه من دهاة الساسة عنده إلى أبي مسلم يغررون به ويظهرون له إعجاب أبي جعفر بحزمه وشجاعته وتقديره لخدماته وبعد نظره.

فقد بعث بأحد هذه الكتب مع أبي حميد محمد بن إبراهيم الحميري وأوصاه قائلا: (كلم أبا مسلم بألين ما تكلم به أحدا، ومَنهِ وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه به أحد، إن هو صلح وراجع ما أحب، فإن أبى أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين لستُ للعباس وأنا بريء من محمد إن مضيت مشاقا ولم تأتني إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم آل طلبك وقتالك بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك ولا تقولن له هذا الكلام حتى تيأس من رجوعه ولا تطمع منه في خير)." الطبري، ج7، ص484".

 وعلى أثر وصول أبي حميد والوفد المرافق له تغير الموقف لصالح الخليفة فحين دخل عليه وهو لا يزال بحلوان دفع إليه كتاب المنصور وقال له: (إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله وخلاف ما عليه رأيه فيك حسدا  وبغيا يريدون إزالة النعمة وتغييرها، فلا تفسد ما كان منك.

ولا يزال يضرب له على هذه الوتيرة ويبالغ له في التعظيم، ثم يقول له: يا أبا مسلم، إنك لم تزل أمين آل محمد، يعرفك بذلك الناس، وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذاك أعظم مما أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك، ولا يستهوينك الشيطان. فيقول له أبو مسلم: متى كنت تكلمني بهذا الكلام؟!

فيقول له متظاهرا بالإخلاص له والحب: إنك دعوتنا إلى هذا وإلى طاعة أهل بيت النبي ﷺ بني العباس، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك، فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة، فجمعنا الله على طاعتهم وألَّف بين قلوبنا بمحبتهم وأعزنا بنصرنا لهم، ولم نَلْقَ منهم رجلًا إلَّا بما قذف الله قلوبنا حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة وطاعة خالصة، أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتهى أملنا أن نفسد أمرنا ونفرق كلمتنا، وقد قلت لنا: من خالفكم فاقتلوه وإن خالفتكم فاقتلوني.

فالتفت أبو مسلم إلى أبي نصر مالك بن الهيثم الخزاعي فقال له: يا مالك، أما تسمع ما يقول لي هذا؟ ما هذا بكلامه يا مالك.

فيقول له مالك: لا تسمع كلامه ولا يهولنك هذا منه، فلعمري لقد صدقت، ما هذا بكلامه، ولما بعد هذا أشد منه فامض لأمرك ولا ترجع، فوالله لئن أتيته ليقتلنك، ولقد وقع في نفسه منك شيء، لا يأمنك بعده أبدا.

فقال أبو مسلم قوموا فينفض المجلس، ويرسل أبو مسلم إلى «نيزك» فيعرض عليه الأمر، فيشير عليه أن يقيم بالري ولا يذهب إلى أبي جعفر، ويقول له: «فيصير ما بين خراسان والري لك، وهم جندك ما يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت في جندك وكانت خراسان من ورائك، ورأيت رأيك.

ثم أرسل أبو مسلم إلى أبي حميد رسول أبي جعفر ليبلغه رفضه نصيحته، ويقول له أبو مسلم: ارجع إلى صاحبك فليس من رأيي أن آتيه.

فيقول له أبو حميد: أعزمت على خلافه؟ فيقول له أبو مسلم: نعم فيقول له أبو حميد: لا تفعل قال أبو مسلم: لا أريد أن القاه. فلما يأس منه قال له: يقول لك أمير المؤمنين لست للعباس وأنا بريء من محمد إن مضيت مشاقا ولم تأتني إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم آل طلبك وقتالك بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك. فوجم أبو مسلم طويلا وقد كسره ذلك القول وأرعبه)."ابن الاثير، الكامل،ج5، ص484-485".

يتبع

***

سليم جواد الفهد

 

في المثقف اليوم