شهادات ومذكرات

أبو مسلم الخراساني.. كِبر الجبابرة وجزع الصبيان!! (3)

سليم جواد الفهدعمد المنصور إلى التفريق بين أبي مسلم وخاصته. حيث لم يفت أبا جعفر أن يتقرب إلى أنصار أبي مسلم وأعوانه الأشداء بكل وسيلة فيبعث المنصور  إلى أبي داود خالد بن إبراهيم الذهلي صديق أبي مسلم ونائبه بخراسان يقول له: (لك ولاية خراسان مابقيت لك الحياة إن ثنيته عن عزمه)."الطبري، ج7، ص486).

فيصبح بوعد المنصور هذا من أشد أنصار الخليفة المتحمسين لطاعته فيكتب إلى أبي مسلم: (إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه ﷺ، فلا تخالف إمامك ولا ترجع إلا بإذنه)"الطبري،ج7، ص486". ويوافيه كتاب أبي داود وهو على هذه الحال من التردد والقلق فيزيده رعبا ويخور عزمه ويضعف اصراره.

فاستدعى أبا إسحق المروزي وكان ممن يثق بهم فشاوره في الأمر وقال له: (هذه سيوف أبي جعفر من خلفنا وقد أنكرت من كنت أثق به من أمرائي. فقال له: أيها الأمير أتطمع أن تنال أبا جعفر وأنت بحلوان وعساكره بالمدائن وهو خليفة مجمع عليه. أرى أن توجه بي إليه حتى أسأله لك الأمان، فأما صفح وأما قتل على عز قبل أن ترى المذلة من عسكرك، أما قتلوك وأما أسلموك)."الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج5، ص40".وفعلا قام بإرسال أبي إسحق لهذه المهمة.

أما المنصور فإنه لما علم بإرسال أبي إسحق أمر أفراد البيت العباسي بتلقيه واكرامه كمظهر لكسبه إلى صفه وفعلا استقبلوه بالحفاوة والتعظيم وتمكن المنصور من استمالته إلى جانبه ووعده بولاية خراسان.

قال له: (أصرفه عن وجهه ولك ولاية خراسان). "البلاذري، أنساب الأشراف، ج3، ص41".

فرجع أبو إسحق إلى أبي مسلم وقال له: (ما أنكرت شيئا منهم وقد رأيتهم معظمين لحقك يرون لك ما يرون لأنفسهم واني أرى أن ترجع إلى خليفتك فتعتذر إليه مما كان منك). "ابن الجوزي، المنتظم، ج8، أحداث سنة 137". 

وبذلك نجح المنصور نجاحا باهرا في كسب واستمالة أصحاب أبي مسلم المقربين منه إلى صفه فأقنع هؤلاء أبا مسلم تارة بالرغبة وتارة بالرهبة بضرورة مقابلة الخليفة وهكذا استطاع المنصور بدهائه وحيلته على خلق جو من الرهبة والأمل في نفس أبي مسلم فاستجاب أبو مسلم وقرر السفر إلى المدائن لمقالبة المنصور رغم تحذير مستشاره الأمين "نيزك" بعدم الذهاب.

فلما أعياه ذلك قال "نيزك" له: (إذا دخلت على المنصور فأقتله ثم بايع لمن شئت من بني العباس فإن القوم لا يخالفونك)."الطبري،ج7، ص486".

أبو مسلم في طريقه إلى مصرعه!

وهكذا خُدع أبو مسلم ذي العقل الصغير  ونسي عزمه على الخلاف ونسي أن مخالفة الخلفاء وذوي السلطة لا سبيل إلى إزالتها إلا بقتل مثيرها. (وكتب أبو مسلم إلى الخليفة أبي جعفر يخبره أنه منصرف إليه. واستدعى ابا نصر مالك بن الهيثم، فاستخلفه على عسكره وأمواله، وأمره بالمكوث في حلوان، وقال له: أقم حتى يأتيك كتابي، فإن أتاك مختوما بنصف خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بالخاتم كله فأعلم أني لم أختمه، وصحب معه ثلاثة آلاف فارس باسلحتهم وتوجه إلى المدائن)."ابن الأثير، الكامل، ج5، ص473".

ولما وصل كتاب أبي مسلم إلى المنصور  بدأ بترتيب أموره وأخذ يستطلع آراء المقربين له ليتعرف على آرائهم في قتل أبي مسلم فدعا (أبا إسحق بن مسلم العقيلي وشاوره فأشار عليه بأن يفعل، واستشار يزيد بن أبي أسيد فأيده في قتله وشاور مسلم بن قتيبة فقال مسلم: لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا)."ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج1،ص26".

وبذلك يكون المنصور قد استكمل مشاوراته في هذا الأمر والكل قد أيدوا قتل أبي مسلم بعد الحماقات التي أرتكبها وخاصة قتله شيخ الدعاة سليمان بن كثير وجرأته على الخليفة المنصور.

ثم إن أبو مسلم أستعد  للذهاب إلى الخليفة وسار إلى حتفه ومنيته.

بين يدي المنصور:

(وقد رأى المنصور استكمالا لنجاح خطته أن يأمر الناس بالترحيب به فكان لا يمر بمكان إلا استقبلوه بالبر والإحسان والإكرام فلما دنى من المدائن بعث المنصور لإستقباله ولي عهده عيسى بن موسى زيادة في الحفاوة به و لإدخال الطمأنينة في قلبه حيث قال له عيسى عندما لقاه: لو خير المنصور بين موت ابنه وموتك لأختار موت ابنه فإنه لا يجد منك خلفا وذهب لأكثر من هذا حين ضمن له الوفاء من الخليفة وهو لا يعلم بالخطة التي بيتها المنصور لقتله)."المقدسي، البدء والتاريخ، ج7، ص79".  

يقول أبو إيوب حاجب المنصور: (فلما دنا أبو مسلم من المدائن أمر أمير المؤمنين الناس فتلقوه، فلما كان عشية دخلت على أمير المؤمنين، وهو في خباء على مصلى.

فقلت: هذا الرجل يدخل العشية فما تريد أن تصنع؟

قال: أريد أن أقتله.

قلت: أنشدك الله، إنه يدخل معه الناس وقد علموا ما صنع فإن دخل عليك ولم يخرج لم آمن البلاء، ولكن إذا دخل عليك فأذن له أن ينصرف، فإذا غدا عليك رأيت رأيك)."الطبري، ج7, ص487".فاستجاب المنصور للرأي السديد.

(فدخل أبو مسلم على الخليفة وقبل يده وقام قائما بين يديه. فقال له الخليفة: كدت أن تمضي قبل أن أفضي إليك بما أريد، قال: لقد أتيت يا أمير المؤمنين فأمر بأمرك. قال أبو جعفر: انصرف يا عبد الرحمن فأرح نفسك وادخل الحمام، فإن للسفر قشفًا، ثم أُغد علي فانصرف أبو مسلم وانصرف الناس معه)."المسعودي، مروج الذهب، ج3، ص303".

اللقاء الأخير.

وبعد أن خرج أبو مسلم ومن معه أخذ المنصور يعد العدة لتنفيذ الخطة.

(فاستدعى عثمان بن نهيك رئيس الحرس وأربعة من أشد أصحابه ممن يعتمد عليهم قوة و ولاء فكانوا: (شبيب بن واج المروروذي. وابن بنته علي بن أحمد بن بسطام وحرب بن قيس. ويسأل المنصور عثمان بن نهيك فيقول له: كيف بلاء أمير المؤمنين عندك؟ فيجيبه متحمسا: إنما أنا عبدك، والله لو أمرتني أن أتكئ على سيفي حتى يخرج من ظهري لفعلت.

فيقول له وهو في حماسته هذه: كيف أنت إن أمرتك بقتل أبي مسلم.

قال: أقتله والله يا أمير المؤمنين)."اليعقوبي، التاريخ، ج3، ص107".

فأطمأن المنصور على سلامة موقفهم وبدأ يشرح خطته لهم فقال:(إذا عاتبته فعلا صوتي فلا تخرجوا وكان قد أعد لهم مكانا وراء الستار خلف أبي مسلم فإذا صفقت فأخرجوا إليه وأقتلوه)."الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج10، ص209".

ولما أحكمت المؤامرة أمرهم الخليفة أن يكونوا خلف الستار وأرسل عيونا على طريق أبي مسلم بعضهم على إثر بعض (فقالوا: قد ركب.

قال أبو أيوب: فقلت يا أمير المؤمنين ألا أخرج فأطوف في العسكر فأنظر ما يقول الناس، هل ظن أحد ظنا أو تكلم أحد بشيء؟

قال: بلى فخرجت، وتلقاني أبو مسلم داخلًا فتبسم، وسلمت عليه ودخل فكان هذا آخر أيام أبي مسلم من الدنيا)."الطبري، ج7، ص489".

بين براثن الموت.

أرسل المنصور حاجبه الخاص الربيع لاستدعاء أبي مسلم من منزل عيسى بن موسى فخاف وقال لموسى: (أحسست بالشر أركب معي إلى أمير المؤمنين.

قال له عيسى: أنت في ذمتي  فتقدم فأني لاحقك ولا تعجل بالدخول حتى أدخل معك)." البلاذري، أنساب الأشراف، ج3، ص40".

فأقبل أبو مسلم واستأذن بالدخول بعد أن أبطأ عليه عيسى بن موسى وجاء الأذن من المنصور بالسماح له بالدخول فلما قام ليدخل أدخله سلام الحاحب في دهليز ثم طلب منه أن ينزع سيفه.

فقال: ماكان يصنع بي هذا قبلا فأجابه سلام: لا عليك ولم يزل به حتى نزع سيفه من وسطه فقال أبو مسلم: الآن عرف الدامي موضع سهمه)."اليعقوبي، التاريخ، ج3، ص107".

فلما دخل أبو مسلم سلم على الخليفة وأشار له المنصور بالجلوس فجلس.

وفي هذه الجلسة بدأت محاكمة أبي مسلم.

(فقال له أبو جعفر: أخبرني عن نصلين أصبتهما في متاع عبد الله بن علي؟ قال: هذا أحدهما الذي عليَّ. قال: أرنيه فانتضاه، فناوله فهزه أبو جعفر ثم وضعه تحت فراشه. وأقبل عليه فقال: أخبرني عن قولك حين أتاك الخبر بموت العباس لمن أشار عليك أن تنصرف إليَّ «نقدم فنرى من رأينا» ومضيت فلا أنت أقمت حتى نلحقك ولا أنت رجعت إليَّ؟

قال: منعني من ذلك ما أخبرتك من طلب المرفق بالناس وقلت تقدم الكوفة فليس عليه مني خلاف.

قال: فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟

قال: خفت أن يكون دخلك مني شيء، فقلت آتي خراسان فأكتب إليك بعذري، وإلى ذاك قد ذهب ما في نفسك علي.

قال: قتلك سليمان بن كثير وانت تعلم مكانته عندنا.

قال: صغرني وأهانني وخالفني. قال المنصور: والله ما زدتني إلا غضبا ألست الكاتب إليَّ تبدأ بنفسك؟ والكاتب إليَّ تخطب آمنة بنت علي وتزعم أنك أبو مسلم بن سليط بن عبد الله بن عباس؟ لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعبا. أتذكر شتمك لي بالشام وقولك أياي ابن سلامة وكان أبو جعفر يقول ذلك ويده ترتعد فلما رأى أبو مسلم غضبه قال: يا أمير المؤمنين، لا تدخل على نفسك هذا الغم من أجلي، فإن قدري أصغر مما بلغ منك هذا. فلما طال عتاب المنصور قال أبو مسلم: أذكر بلائي وما كان مني. قال: يابن الخبيثة! والله لو كانت جارية مكانك لأجزأت، إنما عملت في دولتنا وبريحنا، فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلاً أيها العلج.

وأخذ أبو مسلم يده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه، ولكن أبا جعفر أسرع فصفق بيده، فخرج عثمان بن نهيك فضربه ضربه بالسيف، قطع بها حمائل سيفه، فأومأ أبو مسلم إلى قدم أبي جعفر يقبلها ويقول: أناشدك الله يا أمير المؤمنين، استبقني لأعدائك.

فدفعه برجله وقال له: «لا أبقاني الله إذن، وأي عدو لي أعدى منك؟ فضربه شبيب فقطع رجله.

فقال أبو مسلم: وا تعساه، ألا قوة ألا مغيث!

وأخذه الحرس بسيوفهم فركع على قدم المنصور يقبلها وهو يصيح: العفو يا أمير المؤمنين! فقال المنصور: يا ابن اللخناء العفو وقد اعتورتك السيوف كِبر الجبابرة وجزع الصبيان !؟

فقطع عثمان رأسه لخمس بقين من شعبان سنة(137) ثم وقف المنصور على رأسه وأنشد:

زعمت أن الدين لاينقضى ... فاستوف بالكيل أبا مسلم.

أشرب بكأساً كُنتَ تَسقي بها.

أَمر بالحلقِ من العلقمِ.

ثم أمر به المنصور فرمي بدجله)."ابن الجوزي، المنتظم، ج8، حوادث سنة137".

هذه هي قصة جبان تزيا بزي الشجعان لكن الموقف من ملاقاة الموت فضح جبنه.

فكم من جبان اليوم ستره زي السلطة ولو واجه الموت لجزع جزع الصبيان!؟

***

سليم جواد الفهد

 

في المثقف اليوم