شهادات ومذكرات

في ذكرى رحيل بصير اليمن

في سبعينيَّاتِ القرن الماضي تعرفتهُ رسماً وصوتاً، لكنني لم التقِ به شخصياً، وظلت أُمنية اللقاء مؤجلة حتى التسعينيّات حين زرته فى بيته، وكان الفضل في اللقاء يعود إلى تلميذي النجيب الشاعر علوان مهدي، فقد رتب الزيارة تاريخاً ووقتاً، فوجدتُ الرجل على تواضعٍ جمًّ، يحدثك مع ابتسامة دائمة لا تفارقُ شفتيه، ونكتة مناسبةٍ ترد بين الفينة والأخرى ضمن أحاديثهِ الممتعة.

ثم تكررت اللقاءات، وإنْ كانت متباعدةً، لكنني كنتُ أحرص فيها على توجيه بعض الأسئلة إليه، وبخاصة تلك التي تتعلق بالعملية الإبداعية، أو أقرأ لهُ رأياً (لي) مكتوباً غير منشور قد يخصُّ موقفاً، أو ظاهرة أدبيّة، فيصغي على نحو يشجعك فيه على الاستمرار، ثم يزيد بأن يطري المقروء، وكان يستمع في الوقت نفسه إلى الشباب الذين يجيئون إليه ليعرضوا عليه بعض شعرهم بالدقة نفسها دون أنْ ينسى المزحة والطرفة والنكتة.4200 البرذوني

شاركته في بعض الندوات الأدبيّة، واللقاءات لاسيما تلك التي عقدتها وزارةُ الثقافة والسياحة: كالندوة المكرسة لإحياء الذكرى الحادية والثلاثين لرحيل الشاعر محمد محمود الزبيري في 1/4/1996م، والمهرجان الخاص بالجواهري سنة 1997، واللقاء التلفزيوني على الفضائية اليمنيّة (نيسان - 1999م) فخرجتُ بانطباعٍ من تلك الندوات تمثل بالآتي:

1- حين يتحدث المرحوم عبد الله البردّوني، فإنه يسترسل، فيطنب كثيراً، لأن المعلومات التي يحفظها عن المبدع، أو التاريخ الأدبي العام كثيرة جداً، لهذا لن تجد منهجيّة في حديثهِ، فقد يخرج عن الموضوع إلى موضوعات أخرى، ولا يعود إليه إلاّ بعد أنْ تظنُّ أنه نسيه.

2- كان أديباً موسوعّياً بكل معنى الموسوعيّة، ففضلاً عن كونه شاعراً كبيراً من شعراء قصيدة الشطرينِ الجديدة، إلا أنه ناقد ذو منطلقات جريئة، وتجد تلك المنطلقات في العديد من كتبه، وبخاصة: (رحلة في الشعر اليمني قديمهِ وحديثه) و(فنون الأدب الشعبي في اليمن) و(من أول قصيدة إلى آخر طلقةٍ - دراسة فى شعر الزبيري وحياته)، كما أنه مقاليٌّ معروف، لكنَّ بعض مقالاته تلك تميل إلى الإسهاب أيضاً لكثرةِ ما يختزنُ في ذاكرته من معلومات قيِّمة.

3- حين يتحدث في الندوات لا يميل إلى الاستشهاد بالشعر، وإذا ما فعل، فذلك من النادر، لأن التاريخ يستغرقه بأحداثه، ومواقف الرجال، وهو حريص على ذكر تلك الأحداث والمواقف مؤرخة بالسنةِ والشهر واليوم (أحياناً) كما في إيراده سبب سجن الزبيري، وخروج الجواهري من حجابةِ الملك فيصل الأول.

أمّا انطباعي عن انجازه الشعريّ فليس سهلاً أن يرد في بضع كلمات، لأنّ البردّوني قمة عالية من قمم شعر الشطرين، وهو يكتب هذا اللون بروح المعاصرة، والإيمان بدور الحرف في الإثارة، و التغيير، أو الرفض، وقد نشر اثني عشر ديواناً خلال سنوات عمره الإبداعي بداءةً بديوان (من أرض بلقيس) ونهاية بديوان (رجعة الحكيم بن زائد)، وفي تلك الدواوين ظواهر فنية عديدة، ومضامين موضوعّية لها خصوصيتها اليمنية.

ففي الجانب الفني يميل إلى استخدام التراث: تاريخاً، ورموزاً، ونصوصاً، ومدناً وجبالاً، وحوادث لها مغزاها، ولعلّ هذا الاهتمام هو الذي دعاه لأن يكتبَ قصيدة القناع التي تجلت في (تحولات يزيد بن مفرغ الحميري) الذي قاده مزاحه الشعري إلى المطاردة، والسجن في قوله:

ألاليتَ اللحى كانت حشيشاً

فنعلفهـا خيولَ المسلمينا

حين شاهد الريحَ تلعب بلحية والي "سجستان" عبّاد بن زياد،... كما أنّ البردّوني يميل إلى استخدام تقنيات السرد الحديثة: كالمونولوج الدرامي، والديالوج، والراوي العليم، وغير ذلك، ولعلّ في (السلطان ...والثائر الشهيد) خير مثال على هذه التقنية، إذ جعل الثلاثة والثلاثين بيتاً الأولى على لسان السلطان، وجعل الأخرى على لسان الشهيد الذي يبعث من جديد فى نهاية القصيدة:

كالبذرِ دَفَنْتَ هنا جسدي

والآن البذرُ هنـا أورقْ

*

فلقلبِ التربةِ أشــواقٌ

كالوردِ، وحلم كالزئبقْ

*

بدمـاءِ الفـادي تتحنّى

لزفـافِ مُناهُ تتـزوقْ

***

أمّا أهم ما في شعره من مضامين، أو أبعاد موضوعّية فيتجلّى في الدعوة إلى الوحدة، ونبذ التفرقة، والدفاع عن الوطن، والتغني بصنعاء، وتمجيد ثورتي سبتمبر وأكتوبر: 1962-1963م، والسخرية الشديدة من الطغاة، والمتجبرين، وأدعياء النضال، ومروجي ثقافة القصور، وبائعي الذمم، وسراق الشعوب، والمتاجرين بالحرية .

ولعل قصيدتهُ (بنوك ...وديوك) خير ما يمثل هذه السخرية الحادة:

لنا بطـونٌ ... ولديكمْ بنـوكْ

هذي المآسـي نصًّبتْكمْ ملوكْ

*

لنا شـروطٌ، ولكـم شـرطةٌ

تخطُّ بالكرباج (حسنَ السلوكْ)

*

أنتمْ تحوكـونَ الذي لا نـرى

وتستشـفُّونَ الذي لا نحـوكْ

***

رحم الله بصير اليمن عبد الله البردُّوني،وأسكنه الفردوس الأعلى، علماً أنه ولد في (1929م) ورحل إلى الرفيق الأعلى في (30 -8- 1999م)، فقد كان قامة إبداعيّة كبيرة في شعر الشطرين، وكاتباً ذا دراية موسوعية في الأدب.

وعزاؤنا في تلك الآثار الإبداعية، والنقدية التي تركها لتدلَّ على بقائه بين أهله وأصدقائه ومحبيه حّياً.

***

د. عبد الرضا عليّ

في المثقف اليوم