شهادات ومذكرات

خافيير مارياس.. أجمل الروايات تلك التي نعجز عن كتابتها

ينطبق على خافيير مارياس الذي رحل عن عالمنا قبل ايام، العبارة التي افتتح فيها روايته الشهيرة قلب ابيض جدا " لم اشأ ان اعرف، لكني عرفت ". قال انه اتجه للكتابه، حتى لا يضطر الى الاستيقاظ صباح كل يوم  للذهاب الى العمل، وايضا لانه يعتقد ان سنواته في الحياة ستكون قليلة، وان الموت ربما يفاجأه في اي لحظة، فكان لابد ان يحول العمل الى لعبة تذكره بالعاب الطفولة. كل رواية اشبه بالمغامرة: " لا تعرف ما إذا كنت ستكون قادراً على إنهائها؟ ".

الروائي الاسباني الشهير، كان ينتظر ان يحتفل بعيد ميلاده الـ " 71 "، عاني في اسابيعه الاخيرة من غيبوبة لم تقطعها سوى تمتمات كان صاحبها يحاول ان يسأل: هل ستكون نهايته مثل نهاية دون كيشوت يبحث عن وجوه الاصدقاء التي سيغيبها الموت. باعت كتبه ملايين النسخ وترجمت الى اكثر من 40 لغة، في آخر مقابلة معه قال للصحفيين انه محظوظ جدا لان رواياته محفوظة في مخيلة عدد كبير من القراء.

أَحدث خبر وفاته ضجة كبيرة في اسبانيا دفعت رئيس الوزراء لان يكتب: "إنه يوم حزين لاسبانيا.لقد غادر عالمنا أحد أعظم الكتاب في عصرنا"، فيما اصدر اشهر نوادي كرة القدم ريال مدريد بيانا قدم فيه التعازي بوفاة "المدريديستا العظيم "..

امضى سنواته  في بيت وسط مدريد، مكتظاً بالكتب والأفلام والصور التي تتناثر على الجدران، اهتم في رواياته بالقلق الانساني، ولد في اسبانيا وعاش في امريكا وكتب في فرنسا يعترف ان: "الهوية غير مهمة لي. ما الذي نعرفه عن شكسبير؟ وجودي صدفة خالصة". بدا حياته مترجما يدين بالولاء لشكسبير اولا ثم الى وليام فوكنر وجوزف كونراد و فلاديمير نابوكوف، كانت الصحافة تتوقع كل عام ان تحط جائزة نوبل بين يديه،منذ ان وضع اسمه على قائمة المرشحين عام  1989.استمر بكتابة مقال اسبوعي منذ  اكثر من عشر سنوات، قال ان نافذة الصحافة اتاحت له ان يخاطب الملايين، كتب في السياسة، والفن وكرة القدم والسينما وانتقد مبالغات الحركات النسوية، وانحرافات التلفزيون، وانعدام الثقة الذي تولده شبكات التواصل الاجتماعي. حافظ على ولائه للآلة الكاتبة ورفض تشغيل جهاز كومبيوتر في غرفة الكتابة، هاجم الهوس بالانترنيت.

ولد خافيير مارياس فرانكو في مدريد في العشرين من ايلول عام 1951. وهو الابن الأصغر بين خمسة أولاد للفيلسوف الاسباني " جوليان مارياس " العضو البارز في جيل 34 الادبي وتلميذ الفيلسوف الشهير خوسيه أورتيغا وغاسيت والذي اسس معه " معهد الانسان " وتولى رئاسته، انحاز الأب الى الجمهوريين في الحرب الاهلية الاسبانية وهاجم نظام فرانكو، فصل من الجامعة، كان عمر خافير عاما عندما اضطرته عائلته الى السفر الى الولايات المتحدة الامريكية، حيث عمل والده  استاذا في عدد من الجامعات.في طفولته كان يشاهد الكاتب الشهير فلاديمير ناباكوف يتمشى في الحديقة القريبة من منزلهم، بعد سنوات سيتلصص على صاحب لوليتا، يتابع خطواته وحركاته وعشقه للشطرنج، عام 2009 ينشر كتابا عن ناباكوف وفوكنر. قرأ في صباه رواية لوليتا وتخيل ان ناباكوف استعار اسم والدته التي كانت تدعى لوليتا ايضا.

وجد نفسه منذ صباه  وسط مغارة من الكتب تحيط كل اركان البيت، يبدأ بقراءة رحلات جلفر والكسندر دوماس، حاول ان يكتب قصصا مصورة اشبه بقصص تان تان التي سحرته في طفولته

في السابعة عشر من عمره  يسافر الى باريس حيث اخبر عمه ان الشهرة تناديه، تفرغ للكتابة في الصباح، وفي فترات الظهيرة يذهب الى السينما وفي الليل  يعزف ويغني للمارة في شارع الشانزليزيه مقابل القليل من المال، يكتشف ان الكتابة هي طريقته  الوحيدة في العيش والارتباط بالعالم، يكمل دراساته في قواعد اللغة الإنكليزية، يعثر على رواية " حياة وآراء تريسترام شاندي للورنس ستيرن، فيقرر ترجمتها الى الاسبانية، في حوار صحفي يعترف ان رواية  تريسترام شاندي علمته  كل شيء عن كتابة الرواية، فقد ادرك من خلالها " أن الرواية قد تحتوي على أي شيء وتظل رواية ".

عاد إلى إسبانيا عام 1973 للدراسة في جامعة كومبلوتنس بمدريد، ليحصل على شهادة في الفلسفة والعلوم الأدبية. عمل استاذا محاضرا  في جامعة أكسفورد.

حصيلته الادبية ستة عشر رواية وعدد من المجاميع القصصية، ومقالات متنوعة خصص منها كتابا عن كرة القدم، آخر كتبه صدر في بداية العام 2022، وكان بعنوان  " هل سيكون الطباخ شخصًا جيدا؟ .

منذ خمسة عقود يكتب  عن الحب، والخسارة،، والخيبة  تتردد في رواياته عبارات مثل الغدر والخيانة، فقد اثرت عليه الخيانة التي تعرض لها والده من احد اصدقاءه. يمتلك  براعة  في التقاط العادي واليومي حفظت له مكانه  مميزة في الصف الأول من الروائيين الاسبان، يقول الناقد الادبي لصحيفة الاندبندنت البريطانية:"من لا يقرأ مارياس محكوم عليه بالفناء، عقله عميق وحاد ومزعج أحيانًا ومرح أحيانا وذكي دائما ". كتب في الغارديان:" إن هناك موضوعات معينة للكاتب، ومنها: الخيانة، السرية، استحالة معرفة الأشياء أو الناس أو حتى نفس المرء، وهناك أيضا الزواج والحب، وهذه الأمور هي التي يتناولها الكتاب، إن تاريخ الأدب هو سقوط نفس قطرة الماء على الحجارة نفسها ولكن بلغة أخرى، وبطريقة أخرى وأشكال مختلفة، ولكنها تبقى نفس الشيء، نفس القصص، نفس قطرة الماء، ونفس الحجارة منذ هوميروس أو قبله " .

قال إنه يكتب عن لحظات الأزمة في حياة الناس العاديين، ويتماهى معها يعترف أنه رجل محظوظ لأنه اكتشف ما يريده من حياته. عندما سألته صحيفة " البايس " عن الموضوعات التي تدفعه للكتابه، أجاب: "أكتب عما يبدو لي أنه خطير أو غير عادل أو غبي بشكل خاص. من الواضح، في بعض الأحيان أخطأ في الأمر أو يمكنني أن أعارض التيار بشدة ".

الرواية طريقة لنقل الاعترافات، يقول مارياس، الذي يختار بعناية عناوين رواياته والبعض منها مستمدة من حوارات شكسبيرية انه يستمر بالكتابة لأنه لا يعرف ما ذا يفعل من دون الكتابة "  حين أكتب رواية، أفكر "بشكل أفضل، أو في الأقل بقصد أكثر، مما تحت أية ظروف أخرى. وذلك شيء لا أود التخلي عنه أو أن أفقده، فهو أمر عزيز جداً علي" – ترجمة احمد شافعي -.

يسخر من الذين يطالبون الروائي الكتابة عن الواقع، فهو يرى ان مثل هذه الكتابة تحول الادب الى الى وثائق وتاريخ ونوع من انواع الصحافة، لان الروائي الحقيقي لا يسعى الى عكس الواقع وانما الكتابة عن اللاواقع،

اصدر روايته الاولى عام 1971 بعنوان "قدرات الذئب"، لكنها لم تلفت الانتباه اليه، "رواية أوكسفورد" التي صدرت عام 1989 – ترجمة صباح خرّاط الزوين - تناول فيها تجربته كأستاذ في جامعة أكسفورد. إلا ان روايته  " قلب ابيض جدا " – ترجمة علي ابراهيم اشقر ستلفت الانظار اليه وتضع اسمه كواحد من ابرز كتاب الرواية في اسبانيا، في " قلب ابيض جدا " ينشغل بازمة الانسان المعاصر في ظلّ واقع يفقد شيئاً فشيئاً كلّ عناصر الإنسانية . العام 1994 يصدر عمله الروائي " فكر في غدا أثناء المعركة" – ترجمة علي ابراهيم اشقر- وستحصد الرواية خمس جوائز وجاء عنوانها مستلهما من احدى حوارات  مسرحية شكسبير ريتشارد الثالث 

أثار ضجة في عام 2012 عندما رفض جائزة الرواية الوطنية الإسبانية البالغة 20 ألف يورو عن روايته " غراميات " قال:   "طوال حياتي تمكنت من تجنب مؤسسات الدولة، بغض النظر عن الحزب الذي كان في الحكومة، ورفضت كل الدخل من الخزانة العامة. لا أريد أن يُنظر إلي كمؤلف تفضله أي حكومة معينة ". يقول أنه قضى حياته المهنية بأكملها في الارتجال بسبب عدم وجود مشروع أدبي.

روايته الشهيرة " غراميات " ترجمها صالح علماني " تتناول حياة الشابة ماريا التي تعمل في دار نشر في مدريد، وعليها إرضاء الكُتاب الذين يتعاملون مع الدار حتى حين يتصلون بها ليسألوها عن لون ملابسهم التي سيرتدوها هذا الصباح . ترتاد يوميا احدى مقاهي العاصمة  ونجدها تتابع رجلا وأمراة سيثيران اهتمامها، لكنها بعد ايام تشعر بالفراغ والحزن لغيابهما المفاجئ عن المقهى. تكتشف فيما بعد أن متشرّداً قتل الزوج في الشارع تفكر بأنها تعرفهما ما يكفي لتعزية أرملته. تبدأ حكاياتها الحقيقية عندما تتعرف الى صديق العائلة، خافيير دياز وتُفتن به، ثم نجدها تتورط في حياة الأرملة والتداعيات العاطفية لوفاة الزوج.

عندما تم اختياره عضوا في الأكاديمية الملكية الاسبانية عام 2008 قال في كلمته إن أجمل رواياته هي تلك التي عجز عن كتابتها،  وأجمل ما في الكتابة هو الضياع  عندما يفقد الروائي خارطة الطريق.

***

علي حسين

في المثقف اليوم