شهادات ومذكرات

في وداع علي الشبيبي

مرت علينا قبل أيام أربعينية الفقيد علي محمد حسين الشبيبي (1945-2022) الكاتب الصحفي والباحث الملتزم بهموم الشعب وقضايا الوطن والمناضل في العراق ولبنان وبلاد المهجر، ولنا أن نستذكر بعضا من مراحل حياته ونشاطاته في الحقل العام وكذلك أفكاره ومواقفه وخصاله الشخصية.

ولد الفقيد ببغداد في 1945 وأكمل دراسته الثانوية فيها بعد أن مرت الأسرة بمحن أليمة وبعد أن خاض هو نفسه تجربة قاسية إثر الإنقلاب البعثي الدموي في شباط 1963 إذ سجن مرتان في تلك السنة أولاً لحوالي شهر في النادي الرياضي الأولمبي في الأعظمية، مع بركة الدم حسب وصفه. وبعد إطلاق سراحه، جاءت مجموعة من "الحرس القومي" إليه في دار الأسرة في منتصف الليل وقادته إلى السجن مرة ثانية. ولم تزده القسوة والمحن والترهيب إلا إصرارا على مقارعة الظلم وإحساساً بآلام الفقراء وإلتزاماً بالقيم الإنسانية التي تربى عليها وثقة بقدرته على العمل في أصعب الظروف من أجل قضية عادلة ومستقبل أفضل لشعبه ووطنه.

إنتمى علي إلى الحزب الشيوعي العراقي مبكرا وينقل عنه أنه كان شيوعيا لمدة 11 عاما أي منتمياً إلى الحزب لتلك المدة، وكان من الكوادر التي ساهمت في أعادة بناء التنظيمات الحزبية بعد مجازر عام 1963. وكان علي أيضاً من الوجوه البارزة في النشاط الطلابي في جامعة بغداد حيث درس في كلية التجارة إلا أن ملاحقة أجهزة السلطة إضطرته لترك الدراسة والفرار من قبضة السلطة إلى خارج العراق في أوائل عام 1969. وقبل ذلك وفي عام 1967 كان فقيدنا من الكوادر النشيطة في تنظيم إتحاد الطلبة العام المحظور من قبل السلطة، ونال ود وإحترام زملائه لشجاعته وحيويته الفكرية وخلقه العالي. وحين أجازت حكومة ناجي طالب إجراء إنتخابات طلابية، كان له دوراً حيوياً في الحملة الإنتخابية التي أثمرت فوزاً ساحقاً لإتحاد الطلبة العام وبأغلبية 75% من أصوات الطلبة في جامعة بغداد رغم محاولات الأجهزة الأمنية ترجيح القوى اليمينية. ألغت حكومة عبد الرحمن عارف الإنتخابات وعادت إلى أساليب القمع مستخدمة أزلام البعث من جماعة البكر في الإعتداء على الطلبة وكبح نشاطهم. وردت القوى الطلابية بتشكيل جبهة موحدة ضمت قوى اليسار عموماً بما فيهم الجماعات القومية التقدمية والبعثية اليسارية الرافضة لأساليب الترهيب التي مارستها العصابات التي كان يقودها صدام حسين. كان علي الشبيبي مشجعاً لتحالف قوى اليسار رغم تجربته القاسية عام 1963، وكان مع عدد من رفاقه وزملائه في المواجهة مع نواتات الأجهزة البعثية القمعية حتى قبل إنقلاب 17-30 تموز، وأصبح لذلك ملاحقاً ومستهدفاً بشكل خاص من الأجهزة البعثية المعروفة بوحشيتها. وفي خريف عام 1968 أطلقت النار داخل الحرم الجامعي على سامي مهدي الهاشمي زميل ورفيق علي فحمله علي مع أصدقاء له إلى المستشفى لكن سامي إستشهد بين أيديهم.

وفي تلك الأشهر أخذ نظام البعث بمساومة بعض القوى السياسية وإستفراد وترهيب أخرى بغية تصفيتها وكان من نصيب تنظيم القيادة المركزية للحزب الشيوعي الذي إنتمى إليه الفقيد علي الشبيبي أشد الملاحقة وأبشع أساليب الإرهاب وكان علي من بين الجماعات التي آثرت عدم الإستسلام لوحشية أجهزة البعث رغم أنه كان وجهاً معروفاً بنشاطه وشخصيته ولون بشرته المتميز. هكذا جهز نفسه كما فعل رفاق آخرون لمقاومة أي محاولة إختطاف أو إعتقال تقوم بها عصابات السلطة ضدهم. وكان الشهيد مطشر حواس أول من واجه أزلام الأمن البعثي وقاوم محاولتهم إختطافه وأوقع الخسائر بعصابة الإختطاف إلا أنه إعتقل وأعدم في كانون الثاني 1969. ومع تدهور الأوضاع، إضطر علي ورفاق آخرون الإفلات من قبضة السلطة لمواصلة النضال ومن هؤلاء صديقه ورفيقه الشهيد عادل وصفي الذي إغتالته مخابرات النظام في بيروت بعد عشر سنوات وكان في حينها نائب رئيس تحرير مجلة فلسطين الثورة.

تمكن علي من السفر إلى بريطانيا مع خسارة مدة دراسته في جامعة بغداد، فمكث فترة في مدينة كاردف لدراسة اللغة الإنكليزية والتحضير لمتطلبات الدخول لنظام جامعي مختلف، وإنغمس أثناء ذلك أيضاً بالنشاط الطلابي في جمعية الطلبة العراقيين في المملكة المتحدة حاملاً هموم طلبة الداخل إلى زملائهم في الخارج وراح يزور المدن البريطانية ويلتقي بالطلبة العراقيين لتبادل الخبرات وإنفتح بشكل خاص على زملائه من الطلبة العرب وشارك بفعالية في نشاطات التضامن مع الثورة الفلسطينية. كان علي الشبيبي يؤمن بوحدة ساحات نضال الشعوب في المنطقة العربية والمحيط الإقليمي وعلى نطاق العالم الثالث عموماً، وكان من منظوره أيضاً أن قضايا التحرر الوطني وعلى رأسها قضية فلسطين لا يمكن فصلها عن قضايا التحول الإجتماعي ولا عن الحريات والحقوق الأساسية لشعوب المنطقة. وكان مصراً أيضاً على الإستقلالية الفكرية والسياسية عن الإتحاد السوفيتي. كل ذلك كان قد دفعه للإنحياز إلى تنظيم القيادة المركزية لدى إنشقاق الحزب الشيوعي. قضى علي ثلاث سنوات في بريطانيا، وآثر الإنتقال إلى لبنان في 1972 لإكمال دراسته للإنخراط عن قرب في النضالات السياسية العراقية والعربية.

في بيروت بدأ ممارسة الكتابة الصحفية أثناء فترة دراسته وأكمل دراسة البكالوريوس في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية وثم الماجستير في العلوم السياسية. كان لا يزال على إرتباط تنظيمي بالحزب الشيوعي العراقي (القيادة المركزية) وشارك في أواخر عام 1972 بالكونفرنس الثالث لتنظيم الحزب في قاعدة للأنصار في شمال العراق مندوباً عن تنظيمات الخارج ووصل إلى القاعدة برفقة الراحل الشاعر مظفر النواب بعد رحلة طويلة وخطرة أخذتهما من شمال شرق سوريا إلى كردستان العراق عبر مسارات وعرة تراقبها أجهزة السلطة. مكث علي في جبال كردستان حوالي 3 أشهر تسلل خلالها إلى كركوك حيث إلتقى سراً بالمرحوم والده الشاعر وأستاذ العربية والمفتش التربوي محمد حسين الشبيبي الذي حضر إلى المدينة في ترتيب مسبق وبشجاعة وجرأة  كبيرتين من الأب والإبن.

لم تكن تجربة علي في قاعدة الحزب في كردستان العراق مشجعة، وتحدث لاحقا عن خيبة أمل وعن خلافات كانت تعصف بالتنظيم وعن أجواء عدم ثقة دفعته تدريجياً للإبتعاد عن العمل الحزبي وإعادة النظر بتجربته مع الحزب الشيوعي. كانت عودته من العراق عن طريق سوريا بحد ذاتها إختباراً صعباً ترك أثراً على نظرته لنظام البعث السوري تعززت برفضه دخول الجيش السوري إلى لبنان، ولم يزر سوريا بعد تلك التجربة طوال أكثر من عشرسنوات من إقامته في لبنان. لكن علي لم يتردد لاحقاً في شجب الحرب العدوانية التي قادتها القوى الغربية والخليجية ضد سوريا بغطاء دعم الحراك الشعبي بعد 2011.

كانت مواقف علي مبنية على قيمه ومبادئه الإنسانية والتقدمية وعلى فهمه للصراع الإجتماعي والسياسي والدور المركزي للرأسمالية العالمية وإمتداداتها في ذلك الصراع. لذلك وجه جهوده لخدمة الثورة الفلسطينية فتطوع للعمل في مجلة الهدف لسنوات وكتب فيها مقالاً أسبوعياً وكانت كتاباته تنشر بإسم مستعار، وبعد ذلك في أواخر السبعينيات أخذ ينشر مقاله الأسبوعي في مجلة الكفاح العربي، وثم إنتقل للعمل في معهد الإنماء العربي في قسم الدراسات الإستراتيجية حيث كان مجال إهتمامه البحثي والصحفي الرئيسي في القضايا الدولية، وإهتم بشكل خاص بالقضايا والصراعات في منطقة البحر الأحمر وكذلك بحركات التضامن مع الشعب الفلسطيني وسافر إلى اليمن مرتين وكذلك إلى الصين.

في الحقل السياسي، نشط علي في صفوف الثورة الفلسطينية، وكان نشاطه السياسي في المجال الفلسطيني أقرب إلى التيار اليساري في حركة فتح الذي كان من رموزه منير شفيق. وعند قيام الثورة الإيرانية أيدها بشدة وإنحاز إلى التيار الأسلامي من منطلق كونه القوة الثورية الأكثر فاعلية في تلك المرحلة وسافر إلى إيران مرتين وكان من ضمن المجموعة التي إجتمعت في بيت الخميني. كان تأييد علي للثورة الإيرانية وتعاونه معها من موقع اليسار الثوري العربي وعمل في أواخر الثمانينيات في مجلة العالم الإيرانية الصادرة في أوربا باللغة العربية وأصبح لمدة شهرين في أوائل التسعينيات رئيساً لتحريرها، لكنه سرعان ما إختلف مع أصحاب المجلة بسبب إصراره على موقفه المستقل وعلى وجهة مستقلة للمجلة، فترك الوظيفة والعمل الصحفي عموماً وإنصرف إلى كسب العيش لأسرته في أعمال تجارية دون رأسمال يذكر وفي ظروف صعبة تطلبت كل طاقاته.

في عام 1982 إقترن علي بشريكة حياته السيدة فريدة بشارة وهي من عائلة وطنية لبنانية معروفة وتزامنت بداية حياتهما معا مع الغزو الإسرائيلي للبنان وتحت حصار بيروت وشهدا بدايات  المقاومة، وكان من الصعب على علي البقاء في لبنان إذ لم يكن يحمل أوراقاً رسمية نافذة. هكذا إنتقلت الأسرة إلى فرنسا في عام 1983 حيث أقام علي صلات جديدة مع المجتمع العربي في فرنسا ونشط في أجواء اليسار العراقي المهاجر والأجواء المساندة للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية وبقي على تواصل ونشاط مع الأطراف المعنية حتى بعد أن أخذت مشقة كسب العيش تستنفذ الكثير من طاقته وصحته، وذلك قبل المرض الخبيث الذي داهمه في العام الماضي. كان علي متابعاً على الدوام لتطورات المنطقة ونضالات شعوبها وكان في حوار متواصل مع رفاق وأصدقاء في الحقلين السياسي والإعلامي. وكانت له آراء وتحليلات يستنير بها محاوريه ومواقف واضحة بعيدة عن أية مواربة.

كان علي يتحسس يومياً آلام العراقيين جراء الحروب العبثية التي أشعلها الطاغية والعدوان والتدمير الأمريكي الممنهج للبلاد وكان يدين الحصار الظالم دون لف أو دوران ويحمل القائمين عليه مسؤولية المأساة الإنسانية التي خبرها الشعب العراقي، وكان علي يصر على التمييز بين النظام الحاكم وبين الكيان الوطني والدولة العراقية الذي كان تدميرها في نظره هو الهدف الرئيسي للحرب الإمبريالية. وفي ذلك إختلف مع أولئك الذين برروا مهادنة أو حتى التعاون مع الغزاة لأجل الخلاص من نظام الطاغية. وبعد غزو العراق، وقف علي مع مقاومة الإحتلال وضد الطائفية السياسية ورفض عروضاً للعمل ولإنتهاز الفرص التجارية تحت خيمة الإحتلال، وكانت له مواجهات حادة مع بعض رفاق الأمس ممن أضحى من رموز العهد الجديد وتألم كثيراً لما إعتبره خذلاناً من هؤلاء لشعبهم ومبادئهم.

كان للمقاومة الوطنية اللبنانية مكانة خاصة لدى علي وكان يتابع عن كثب أخبارها وتضحياتها وإنتصاراتها ضد العدو الصهيوني وثم في مواجهة الجماعات التكفيرية المشبوهة. ولم يكن يؤيد مواقف المقاومة دون تقييم ونقد لكنه كان معجباً بشخصية القائد السيد حسن نصرالله ويصفه بالشيوعي المعمم، وكان متابعاً لنضال الشعب اليمني ضد العدوان السعودي-الغربي ومتفاعلاً بشكل يومي وحتى على فراش المرض مع أخبار جبهات القتال ومع آلام الشعب المحاصر. وأيد علي محور المقاومة وقواه الشعبية بشكل خاص، رافضاً المتاجرين بالطائفة والدين والسياسيين الفاسدين وكانت ثقته بصمود القوى المقاتلة وبقدرتها على أن تتجدد وتعمق وعيها وتشق طريقها مهما بلغت الصعوبات وأن تعيد بناء صلاتها بالقواعد الشعبية على مدى المنطقة العربية ومع كل القوى المناضلة ضد الإستعمار الصهيوني وضد هيمنة رأس المال والقواعد الأمريكية.

كان علي الشبيبي إنساناً في غاية الطيبة والبساطة والتواضع والسخاء بكل معانيه وكان يتميز بطيب المعشر ولطف الحديث وبالقرب من الناس وبالود والإحترام تجاه الآخرين. كان منذ طفولته مرهف الإحساس وأولى تجاربه في الكتابة كانت قصة (الخبز الحار) عن المجاعة فى العالم. كل هذه الصفات كانت معه في حياته الخاصة والعامة مما قربه من الأهل والناس عموماً. كان سريع البديهة واسع المعرفة ويتصف بالشجاعة وكان دائم التفاؤل كنظرة عامة للحياة وكحافز للعمل، وكان إلتزامه السياسي نابعاً من قربه إلى الناس وحبه للوطن وولائه لرفاقه ومن حيوية فكرية أكثر منه إلتزاماً أيديولوجياً.

 وأخيراً نورد مما صدر عن المنتدى العراقي في فرنسا لما يحمله من إحترام للراحل علي الشبيبي:

"ببالغ الحزن وعميق الأسى ينعى المنتدى العراقي في فرنسا الإعلامي والمثقف الأستاذ علي محمد حسين الشبيبي الذي رحل عن عالمنا في الرابع والعشرين من تموز بمدينة Gargenville الفرنسية بعد صراع طويل مع المرض عن عمر ناهز السابعة والسبعين قضى معظمه في النضال والإغتراب بسبب المضايقات والترهيب الذي مارسه النظام الدكتاتوري البائد ضد المثقفين والمفكرين الذين لم يساوموا على قيمهم ومبادئهم السامية حيث كان الفقيد من المناضلين الأشداء الذين قارعوا النظام الدكتاتوري في العراق منذ ستينيات القرن الماضي وكرس حياته للعمل في النضال من أجل وطن خال من كل أساليب العنف السياسي وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات لينعم فيه أبناؤه بالعيش الرغيد والحياة الهانئة."

نم هنيئأ علي الشبيبي، فإنك قد أديت الواجب.

***

د. كامل مهدي -  اكاديمي وكاتب من العراق

في المثقف اليوم