شهادات ومذكرات

الزواج تحت مظلة الوجود والعدم

"إذا تزوجت، فسوف تندم، إذا لم تتزوج، فسوف تندم أيضاً، إذا تزوجت أو لم تتزوج، فسوف تندم على كليهما "

 كيركغارد

جاء ليودعها، فقد كان عليه الالتحاق بالخدمة العسكرية، التقيا في احدى الحدائق تتذكر سيمون دي بوفوار انهما كانا يجلسان على العشب، عندما شاهدت والدها يتقدم باتجاهها وتبدو على الضيق، في المقابل كان سارتر ينظر الى الاب الذي جاء لتوبيخ ابنته:" كان شرر المعركة يتطاير من عيني سارتر المتأهب، طلب منه ابي بكياسة مغادرة البلاد، اعترض سارتر لكن دون انفعال فقد كان مصمما على عدم تقديم رحيله ساعة واحدة " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي -

انها الآن في الحادية والعشرين من عمرها، تعيش سيمون دي بوفوار لحظات من المتعة، فهي منذ شهور محط إهتمام جان بول سارتر، الطالب المتميز، كانت الأصغر بين طالبات وطلاب جامعة السوربون. تستعد لخوض الامتحان النهائي لنيل شهادة الاستاذية في الفلسفة، كانت منشغلة في الحديث عن فلسفة " ليبتنتز " حين لمحت أن هناك طالباً ينظر اليها باعجاب، ثم يقترب منها ليقول لها: " جمالك به لمعان خاص وصوتك قوي وحديثك متلاحق " بعد سنوات ستقول عنه سيمون دي بوفوار: " انه اكبر انجاز في حياتي ". تكتب في دفتر يومياتها:" هذا الشاب اعرفه منذ ثلاثة عشر يوماً وقد جال في عقلي، وصار يتكهّن بأفعالي فإمتلكني. يحتاج ذهني إلى حضوره وينتابني الانفعال أمام تعاطفه. الشك والاضطراب والنشوة. أريد أن يرغمني على أن أصير شخصاً حقيقياً ويعتريني الخوف".

منذ البداية وضعا الاتفاق الشهير بينهما، والذي يقضي بان يمارس كل منهما حريته الشخصية بمعزل عن الآخر: " لقد شرح لي سارتر ان ما بيننا هو حب ضروري، وقد يكون من المناسب ان نمر بحب عابر " وقال هو في كتابه الكلمات التي بعد سيرة ذاتيه له:" الرجل العظيم عليه ان يحافظ على نفسه حراً ". وتخبرنا سيمون دي بوفوار ان سارتر كان دائم التذكير لها، بألا تتصور انه من الممكن ان يتنازل عن حريته لها، ولكن ماذا عن الغيرة سألت سيمون، فيُجيب طالب الفلسفة المتفوق:" لن تخطر على البال ما دمنا سنتحدث في كل شيء".

سيمون دي بوفوار المولودة عام 1908، إبنة لعائلة ميسورة الحال، كانت لها شقيقة واحدة، وصديقة واحدة ايضا، في البيت لم تجد حولها سوى الملل، فاشتد احساسها بالوحدة وذات يوم قالت لأمها:"هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل " بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركغارد:" بدأت محباً وانتهيت موجها للضمير"

كان كيركغارد قد عاش قصة حب يائسة، تعرف على ريجينا اولسن عام 1837 فتاة خجولة تبلغ من العمر اربعة عشر عاما، فيما كان يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما، حيث تبدأ واحدة من قصص الحب الكبرى في عالم الادب، انضم من خلالها سورين كيركغارد الى قائمة العشاق غير السعداء، وعلى مدى ثلاث سنوات تعلق بريجينا وحاول التقرب منها اكثر، ثم تقدم لخطبتها في العاشر من ايلول عام 1840، يكتب في واحدة من رسائله:" آه يارجيننا يامليكة قلبي ! يامن تختبئين في اعمق اعماق فؤادي، في اكثر احلام حياتي عظمة "، بعد اشهر سيكتشف انه لا يصلح للحب ولا للزواج، فيقرر ان يكتب رسالة الى ريجينا يرفق معها خاتم الخطوبة:" عرفت على الفور اني ارتكبت خطأ، بالنسبة لتائب مثلي، يكفي ما لدي من حزن ". يدرك انه عاجز عن الحب فيكتب الى شقيقه عام 1842:" انني اعتقد، بحق، ان علاقتي بها يمكن ان تسمى باسم الحب البائس، انني احبها وهي لي، وامنيتها الوحيدة ان اظل بالقرب منها وتلك اعظم امنياتي. ورغم ذلك ينبغي عليّ أن ارفض " – كيركغارد امام عبد الفتاح امام -. فقد تبين له اخيرا استحالة الجمع بين بين رسالته الفلسفية وبين حياة الزوج والاولاد والعائلة. في واحدة من تأملاته نقرأ:" الزواج يجعل المرء في علاقة قاتلة بالعادات والتقاليد. والتقاليد والعادات مثل الريح والطقس، لا تُحصى على الإطلاق.". يعلن ان ابتعاده عن ريجينا كان تصرفا سليما، فالحب جميل، ومنعش للنفس، لكنه سريع الزوال ، كان يرى ان الحب يجب ان يخرج من عالم المتعة، لان الحب سيكون أعمق وأكثر جدوى إذا توقف العشاق عن ترك أنفسهم مدفوعين بغرائزهم الحيوانية. وقد ادرك كيركغارد ان الزواج ليس أكثر أمانا من الحب.

يكتشف كيركغارد من خلال شوبنهاور ان المرأة عامل اذلال للرجل:" ان الهجوم العنيف الذي شنه شوبنهاور على المراة ينبغي ألا لا يلام عليه. فمهمة المراة هي اذلال الرجل وجعله شيئا تافها ". فالمرأة في رأيه، هي الجنس الذي ينتمي إلى المنطقة الثانية من مناطق النوع البشري: " إن للنساء شعوراً طويلة وأفكاراً قصيرة ". كان شوبنهاور قد اعلن إن الزواج هو كناية عن فقدان لنصف الحقوق. وحسب ما هو معروف عن سيرة حياة فيلسوف التشاؤم، فإن علاقته مع النساء اقتصرت على حكايتين، ففي العام 1821 يقع في غرام كارولين ميدون وكانت مطربة في التاسعة عشرة من عمرها، استمرت العلاقة بينهما عشر سنوات متقطعة، رفض ان يتوج هذه العلاقة بالزواج:"ان تتزوج يعني فعل كل ما يمكن ليصبح كل طرف موضع اشمئزاز الآخر"، الحكاية الغرامية الثانية كانت مع خادمة تعمل عنده، لكنه يتركها ذات يوم ويهرب.ولهذا نراه في اواخر حياته يدافع عن عدم ممارسة الجنس، حتى لو قاد ذلك الى انقراض الجنس البشري.يقول لأحد مقربيه:" الجنس اعظم بلاء، فمع ظهور الغريزة الجنسية، ظهر القلق والسوداوية في الوعي ايضا، ونبتت في الحياة الهموم والمصاعب، ذلك لأن اصل حياة جديدة يرتبط باشباع اشد ميولنا سطوة واكثر رغباتنا عنفا، بتعبير اوضح ان الحياة بكل ما فيها من احتياجات وأعباء وآلام ستبدأ من جديد وستعاش مرة اخرى بسبب هذا الذي يسمى الجنس".، اما الحب فانه يعطل أكثر النشاطات جدية، ويقلب وضع العقول الممتازة فهو:" دائماً، المحرّض الأول على القيام بأشد الأعمال سوءاً وأكثرها تعقيداً، وانه لا يتردّد بقطع أعظم العلاقات وزناً وقيمة، وتحطيم أكثر الوشائج متانة، كما لا يرى حرجاً في أن يجعل من الرجل الشريف رجلاً عديم الوجدان، ومن المخلص خائناً. وهكذا يبدو أنه أشبه ما يكون بشيطان رجيم ".

 كانت رؤية شوبنهاور تحط من قيمة المرأة، وهي رؤية اكسبته سمعة سيئة جدا عن النساء خصوصا بعد ان كتب:" ان النساء عبر حياتهن يبقين اطفالا، فهن يرين فقط ما يكون اقرب اليهن، ويتعلق بالحاضر، وينظرن الى مظهر الاشياء على انه الحقيقة، ويفضلن الامور السطحية على الامور الاكثر اهمية ". وقد سعى شوبنهاور الى تفنيد جميع مبادئ الحب الرومانسي، فهو يرى أن الحب انعكاس لإرادة عمياء في الحياة. وغريزة لا عقلانية لاستمرار النوع البشري، فالحب ليس عاطفة فردية، بل عاطفة جنسية بشرية، وهو خداع ووهم كبير، وشرك اعدته الطبيعة كي يحقق الانسان اهدافها واغراضها. غير ان الحب عند نيتشه اكثروضوحا منه عند شوبنهاور، فالحب عند صاحب " هذا هو الانسان " مظهر من مظاهر كمال الحياة، وثراء الفرد السليم المعافى، وبعبارة اخرى، هو تعبير عن إرادة العظمة:" ما هو الحب، إن لم يكن الإدراك والتمتع بان هذا الانسان يعيش، ويفعل، ويشعر بطريقة مغايرة بل معارضة لنا ؟ ومن اجل أن يوحد الحب هذه التناقضات، عليه أن لا يقضي عليها او ينفيها، وهذه الازدواجية المضحكة تكمن حتى في حب الذات ".- انساني مفرط في انسانيته -. ويشير فياتشيسلاف تستاكوف في كتابه " الإيروس والثقافة – ترجمة نزار عيون السود – إلى ان نظرة نيتشه للحب تغيرت بعد فشل قصة حبه مع " لو سالومي " فنجده يكتب:" هل من آذان تسمع تعريفي للحب ؟ إن هذا التعريف هو وحده الجدير بالفيلسوف، فالحب في وسائله حرب، وفي اساسه كراهية مميتة بين الجنسين ".وفي " هكذا تكلم زرادشت " يشن الهجوم الأعنف:" حب المرأة يشمل الظلم والعمى تجاه كل ما لا تحبه... المرأة ليست قادرة بعد على الحب ".

في معظم كتابات نيتشه نجد شذرات من آراءه عن النساء، وكانت هذه الاراء متناقضة في بعض الاحيان وتخضع للحالة النفسية التي يعيشها، فنيتشه الذي يقول "ما يلهم الاحترام للمرأة، وغالبا ما يكون خوفا، هو طبيعتها، التي هي أكثر طبيعية من الرجل، الليونة الحقيقية والمكر، فهي تخفي مخالب النمر تحت القفاز، وايضا سذاجتها وأنانيتها، وعدم قابليتها، وعدم فهم رغباتها وفضائلها ومواقفها ". هو نفسه الذي يصف المراة بالنبل حين تضحي بفضيلتها من اجل العشق، دون ان يقابل هذه التضحية اي امتنان من الرجل.

إن كراهية نيتشه للنساء هي جزء من استراتيجيته الشاملة لإثبات أن مواقفه تجاه الجنس والمرأة، هي مواقف ذات بعد ثقافي، وان هذا الكره جزء من فلسفة يتم فيها إظهار المرأة فيها على أنها نتاج رغبات الذكور لأن:" الرجل هو الذي يبدع صورة المراة.. وتتشكل المراة طبقا لهذه الصورة ".

يكتب بانكو لافرين في كتابه " نيتشه " – ترجمة جورج جحا - ان نيتشه، كشأنه في أمور عديدة أخرى، غير واضح في نظرته الى المرأة. فـ " اللهجة الشديدة التي يتكلم بها عند الحديث عنهن لا يجب أن تؤخذ بجدية وحرفية، فقد كان وراءها رومانتيكي مصدوم، بل حالم عاطفي، اشد خجلا من ان يصبح (رجل نساء) ومحطم قلوب بشكل خاص. النساء اللواتي كان يحس براحة معهن کن العوانس المسنات ".

كانت صحبة النساء تبعث السرور في نفس سارتر، لكنه كان يصر على الافلات من اثار القيود التي من شانها ان تدهور علاقته بالمراة، فيما اعترفت سيمون دي بوفوار بانها تحب سارتر لكنها ظلت تؤكد ان ما بينهما لم يكن اتصاللا شهوانيا بل نوع من انواع السعادة – قوة العمر ترجمة محمد فطومي. كان سارتر قد اعلن ان " الآخرون هم الجحيم " ويشرح لنا في كتابه الفلسفي الضخم " الوجود والعدم " – ترجمة عبد الرحمن بدوي وهناك ترجمة اخرى بعنوان الكينونة والعدم ترجمة نقولا متيني - ان الآخر يسلبنا ذاتنا، حين يبقينا تحت نظره، انه يصادرنا ويضع لنا الحدود. لكن ايضا الاخر هو من يساعدني ان اعرف ذاتي.

ان اساس الفلسفة الوجودية هو ان ان تنظر الى الآخر سواء كان كائنا بشريا ام الهيا، على انه الخلاص. وبما اننا افراد مستقلون فنحن احرار، لكن سيمون دي بوفوار ستجد في سارتر خلاصها فهي تكتب:" إن سارتر اصبح عالمي كله، وبفضله اصبحت اكثر فتنة " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي

في الجانب الاخر كان زوج ام سارتر يرفض استقبال سيمون دي بوفوار في بيته. فسارتر لم يطرح فكرة الزواج بها " لذلك فهي مومس ".. كان سارتر وبوفوار قد اتفقا في البداية ان يرتبطا لمدة عامين، لم يكن لدى سارتر الرغبة في الارتباط مع امراة واحدة، كان يحس بالرضا برفقة النساء:" فسر لي مستخدما مصطلحا عزيزا عليه، إنه الحب الضروري، يحتمل ان نعرف حبا عرضيا " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي –

في العام 1944 كانت الحرب العالمية الثانية تقترب من نهايتها، لذلك كان على سارتر ان يعطي معنى جديدا لفترة ما بعد الحرب، وكان عليه ان يعزز مفهوم الحرية بالالتزام، هذا الالتزام هو الذي دفعه لان يقترح على سيمون دي بوفوار ان يتزوجا، لكنها كانت تدرك ما يمثله الزواج بالنسبة لشخص مثل سارتر تكتب:" إن الانضمام الى صفوف الرجال المتزوجين سيعني ارتدادا كبيرا عن مبدئه، إن الحذر الاساسي حال دون اختياري مستقبلا ربما يندم عليه " – هازل رولي وجها لوجه ترجمة محمد حنانا -.

 وتقول سيمون دي بوفوار لفرانسيس جانسون، انها تتفق تماما مع سارتر في النظرة الى الحب. ولكنها من وجهة نظر المرأة، تفضل ان يحفظ لها الحب، قدرا من السيادة، فلا يصبح الحب حملاً ثقيلا، او استبداداً من الرجل، وهي لذلك تعترف للرجل بان يكون حامياً وعطوفاً وقوياً، لكن عليه ايضا ان يحفظ للمرأة كرامتها وسيادتها، وهي تعيد على سارتر ما كتبته في يوميات فتاة رصينة: - لا ترفع يدك عن كتفي، ولكن لا تجعل يدك ثقيلة "

أمضى جان بول سارتر معظم حياته يطارد النساء الجميلات، وكان يصر على ان كل واحد منا مسؤول عن خيارات حياته الخاصة. لا ينبغي للفرد الحر أن يقفل نفسه في علاقة قد تصبح قفصا غير مريح. أن تكون حراً هو أن تتمتع بإمكانية تغيير المسار، وإعادة تعريف نفسك. فالمحب والعاشق

حر في اختيار علاقته مع الجنس الاخر، لكنه أيضًا يمتلك حرية المغادرة، وهذا يجعل الحب قويا دائما. في وقت متأخر من حياته، اعترف بأن سيمون دي بوفوار قد أذهله بموافقتها على خوض تجربة الارتباط معه، فهي قد قبلت الحرية التي أصر عليها وأصبحت وصية عليها.

يتفق عبد الرحمن بدوي مع تصور كيركغارد للزواج، ونجده يتطابق مع تصور شوبنهاور المتشائم عن المراة، رغم انه عاش قصة حب يروي تفاصيلها في كتابه " الحور والنور" حيث نتعرف على ملامح قصة الحب التي وقعت له في بيروت عندما كان يدرس الفلسفة في الجامعة، ونتعرف من خلال الرسائل على اسم المحبوبة " سلوى " التي يخاطبها قائلا وهو يتجول في احد المتاحف الفنية:" ويشهد الله ما تمنيت شيئا في هذه اللحظة، إلا ان تكوني الى جواري ياسلوى، فتتذوقين معي الجمال الذي لايقدره حق قدرها إلا من كانت نفسه عامرة بالاحساس والعواطف الملتهبة ". لكنه في كتابه " سيرة حياتي" يصر على صواب موقفه من عدم الزواج، لكنه في صفحات اخرى يقول:" لوكنت متزوجاً لتزوجت من امرأة ألمانية" ن فنعرف انه هام عشقا بفتاة المانية كتب لها بعض القصائد وترجم لها اشعارا عن الحب.

في معظم الصور التي نشاهدها لفلاسفة الوجودية ن تبرز صورة الفيلسوف العازب، الناقم على فكرة الزواج، الشارد الذهن.. الباحث عن حريته الشخصية، المدافع بصلابة عن خصوصيته في الحياة.

يكتب عبد الرحمن بدوي:" أن الناس عند الوجوديين ثلاثة: رجل جمال، ورجل اخلاق، ورجل دين. ولذا فمدارج السالكين سبيل الحياة ثلاثة: المدرج الجمالي، والمدرج الاخلاقي، والمدرج الديني – الاول يحيا في اللحظة الحاضرة المنعزلة، والثاني يحيا في الزمان، والثالث يحيا في السرمدية" – مجلة الاديب 1948 -. وكان بدوي يصنف نفسه برجل الاخلاق الذي يحيا في الزمان، بعيدا عن ضوضاء الحياة.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم