شهادات ومذكرات

سيرة ليست للسرد (3)

الظلام كان مطبقاً ولكني تفحصت كل شيء مع التماع البرق وتهيأت للتحرك. لبرهة ترددت ولكن صرخة قوية وجلبة أصوات فزعة نبهتني، فقد هوت امرأة منهم نحو الأرض، فتكدس بعضهم حولها. كانوا بالقرب مني أقل من مترين. حسمت الأمر وقفزت وسط الجلبة ورفعت المرأة بساعدي. تلفت نحو جميع الجوانب فلم أجد ما يثير الشبهة أو من لاحظ دخولي وسط الحشد، وكذلك لم ألحظ دهشة أو استغراباً أو استنكاراً من المحيطين بي. سرت بضعة أمتار وعندما لاحظت أن المرأة قد استعادت بعض قوتها سحبتها متكئة على كتفي. كانت العجوز تتشبث برقبتي بقوة، وتمسح عن وجهها ماء المطر بين فينة وأخرى.

كانت الريح قوية تدفع بحدة زخات المطر لتلسع الوجوه والأجساد. الطريق الموحل المظلم يربك السير، ويجعل المرء يسير وكأنه مكبل بأغلال. الليل في منتصفه، وكان لابدّ أن نسير ساعاته المتبقيات لنعبر فتحة سرتنك بين الجبلين باتجاه سهل سربيل زهاب، قبل انبلاج نور الصباح. كانت تلك أمنيتي، أن نصل إلى هناك قبل أن ينكشف ضوء الصباح أو يتوقف المطر، فهما ستري الذي أتخفى بهِ عن الأعين.

 نواح العجائز يبعث فيّ رعشة تهز جسدي. وكنت أشعر بسخونة يد العجوز وجسدها، وكأنها مسكونة بحمى مرض مميت. ما أردت أن أتلفت كثيراً لأستطلع ما حولي كي لا أثير الشكوك، وكانت نظرة خاطفة بين حين وآخر تكفي للاطمئنان.

ندت صرخة مكتومة من شخص كان يسير في مقدمة الركب، فقد هوى جسده عند أخدود أحتفره السيل.بطأت حركة الجميع وراح البعض يستطلع الأمر. تقدمت نحو الشيخ فتاة طويلة ضخمة الجثة يفصح جسدها المشدود عن قوة وعزيمة. شدته نحوها وضمته إلى صدرها مثل رضيع وعبرت به إلى الجانب الآخر وألقت به على الأرض، وانحنت تمسح عن وجهه الوحل العالق. شاهدت وجهها مع وهج البرق، فطالعتني بعينين جاحظتين. في تلك اللحظات ارتبك الحشد عند ذلك الأخدود، وشكلنا دون أن ينبس أحدٌ بكلمة، سلاسل مترابطة تسحب بعضها لعبور هذا النهر الصغير بمياهه الجارفة المنحدرة من أعلى الجبل. شعرت بحدة ارتعاش يد العجوز التي أمسكت كفي متشبثة بوهن ظاهر، وكانت عيناها تنطان من محجريهما جاحظتين فزعتين متوسلتين. فتبدوان في هذا السواد الموحش كعيني جؤذر. ارتفع صراخ الجحوش يطلبون من الحشد الإسراع في السير. تقدم أحدهم ولكز ظهر الفتاة. فصرخت بوجهه بحدة، فدفعها بصدر دابّته لتقع فوق جسد الشيخ، ثم ترجّل وأخذ يضربها بعصاه. ساطها عدة مرات ولكنها لم تتوقف عن شتمه، فتقدم نحو الشيخ ورفعه عن الأرض، ثم دفعه إلى الأمام ليسقط على وجهه متهالكاً. اندفعت الفتاة ورفعت الشيخ وتقدمت تسير به بصمت أمام الحشد.

طلب مّنا التوقف عند نهاية فتحة الجبل حيث نقطة المراقبة للجيش. تقدم بضعة جنود كانوا عند نقطة الحراسة. تحادثوا مع الجاش في بعض شأن. طلب الجحوش من الجميع أن يتركوا ما يحملونه من متاع أو حقائب. اندفع بعضهم لتفتيش الجميع. كانوا كالكلاب المسعورة يلتقطون من الأيدي كل مايجدونه. بعضهم راح يوقف النساء ويحاول العبث معهن بحثاً عما يحملن من بقايا حلي أو حقائب يد. إثر ذلك حدثت مشادة كلامية بينهم والجنود، وبعد هرج ومرج وصراخ وعويل تركنا الجحوش وتجمعوا خلفنا ثم طلبوا منا السير نحو الأمام ، وبدورهم نبهنا الجنود لضرورة الابتعاد عن حافتي الطريق حيث زرعت هناك حقول الألغام. انطلقنا بالمسير مرة أخرى. تيقنت عندها أنهم لم يلحظوا وجودي لذا سرت متقدماً الجميع حيث اتجهنا نحو المنحدر المفضي إلى الوادي الفسيح الذي شكل لوحة كالحة الظلام. هذا الوادي الذي ينفتح بسعته أمامنا، كنت قد تعرفت عليه سابقا يوم كنت أذهب إلى المراصد فوق الجبلين. السهل هذا المسمى سهل سربيل زهاب، يمتد نحو العمق الإيراني مثل بساط أخضر. ترقّع وجهه بعض القرى المبثوثة في منحدراته وروابيه، وهي اليوم مهجورة محترقة هرب أهلها مع بداية الحرب.

 ربما لوقت قصير نستطيع بعده الوصول إلى البيوت الطينية المهدمة، وهي أقرب قرية تقع على الجانب القريب من الطريق الذي نسير عليه، ولا نحتاج غير الانتباه لحقول الألغام، فاجتيازها بسلام وهي مساحة لا تعدو غير بضع كيلومترات أو أكثر قليلاً، سنكون بعدها قد وصلنا تلك البيوت التي ربما تحمينا من المطر، ونجد فيها بعض راحة بعد عناء المسير كل تلك المسافة الطويلة. تقدير المسافة والاتجاه في هذا الظلام كان يتوقف على حدسي، والصورة التي رسمتها في ذهني عن السهل عبر المنظار في أبراج الرصد. وكان عليَّ  استغلال لحظة البرق للاستدلال على الأماكن.

بتلك الأجساد الفانية الموهنة القوة والسيقان الناحلة الراجفة، تحركنا مخترقين المنحدر نحو الوادي. كان قلبي يخفق بعنف بين ضلوعي، وأنا أشاهد بغال الجاش واقفة بعيدة ترقبنا من الخلف. صعب عليَّ أن أصدق ما حدث، ولكني تمالكت نفسي ورحت أغذ السير وكأني أهرب من تهديد مازال يتعقبني. موجات المطر تهطل مدراراً، سائطة وجهي بقوة وكأنها حصى أو عصي. سرت بسرعة وليس بهرولة خوفاً من إثارة الشكوك، ولكي أعبر مرحلة الخطر التي بعدها لن يستطيع الجنود أو الجاش اللحاق بيّ. شعرت بلسعات البرد وارتعاش جسدي. كنت أتلفت حولي متخيلاً سماع صوت يناديني باسمي كي أتوقف.  بعد مسير طويل ومجهد تيقنت إثره ابتعاد شبح الموت الذي كان قريباً مني، لا بل كان يحوم حولي طيلة الوقت. اطمأنت نفسي، فجلست على الأرض وانتظرت قدوم الباقين. تمنيت اللحظة أن أقف أمام أبي وأطلب منه العفو والمغفرة، وأن أقبـّل أمي التي بدا وجهها أمامي معاتباً، فغيابي سوف يجعلهم يتخلون عن الاحتفال بعيد ميلادي، ولن تكون هناك قبلات فرح بالمناسبة.

ساروا جواري ثم اجتازوني وكانوا حذرين في مسيرهم  يتلمسون بأقدامهم الأرض الرخوة للاستدلال على الطريق خشية من وجود حفر وترع. لم يلتفت نحوي أو يهتم لوجودي أحدٌ منهم، بل كان كل همّهم السير وليس شيء أخر، وكانوا كمن يحادث نفسه ويواسيها أو يلومها، فيروح في نياح وعويل. مع التماعات البرق كنت أحاول الإمساك والتعرف على تلك الملامح التي تغضنت جلودها وغارت وغامت فيها العيون.

تنبهت لتلك الفتاة الضخمة الجثة وهي مازالت تحمل جسد الشيخ وتسير ببطء خلف الجميع. راقبتها وهي تجتازني. كان رأس الشيخ يتدلى ويميل إلى الخلف وقدماه تتدليان وتتأرجحان. شككت بوضعه، فنهضت وتقدمت نحوها. كانت عيناها ساهمتين تنظران ببلاهة نحو الأمام. أوقفتها وأخذت منها جسد الشيخ. كان جسده متيبساً بارداً وعيناه مفتوحتين مبيضتين. وضعته على الأرض. كان فمه قد اعوج وخرج منه سائل لم أميز لونه. وقفت الفتاة بعيداً ترقبني، وكانت مثل شجرة سدر ضخمة متيبسة، تتهيب الاقتراب خوفاً من أن تفاجأ بالحقيقة. في تلك اللحظة اعتقدت أن تلك الفتاة ليست من المهجرين وربما هي مثلي هاربة من وضع آخر لدوافع خاصة. شعرت بذلك، فقد وجدتها معزولة مهدودة القوة ووحيدة بالمطلق، وكان الجميع يمضي بعيداً وكأنهم يحملون أطناناً من البؤس والعذاب لا تطيق حملها أقوى الأجساد، وأنهم مع كثرة ما تعرضوا له من فواجع وموت يومي لم يبق لهم في أرواحهم عادات الناس الأسوياء حين يفجع أصدقاؤهم أو أقاربهم. أغلقت عيني الرجل وأشرت إلى الفتاة أن تبتعد وتستمر في السير. تلفتت يميناً ويساراً، ثم استدارت وراحت تغذ السير بعد أن قلت لها سوف أعتني به فلا تتعبي تفكيرك. بعد أن تيقنت من موت الرجل حملته على كتفي وسرت به بعجالة، ورفعت صوتي موجهاً الجميع للسير نحو جهة اليسار، هناك حيث توجد البيوت الطينية لعلنا نجد فيها ملاذاً. ثم طلبت منهم أن ينتظروا ويتبعوني لأدلهم على الطريق، وحذرتهم من أن يحيدوا عنه لوجود حقول الألغام على جانبيه. واصلت السير كابتاً رغبة عارمة في الحديث مع أحد ما، لم أكن أرى منهم غير أجساد تتحرك خلفي ببطء. صرخات ألمهم تسمع كدوي طبول، وأشعر بعيونهم ترقبني لا بل تلسع ظهري. أصواتهم ما زالت تدوي. تنعي ملْء الحناجر. وأظل أنصت لها لتترسب في الروح فجيعة تتلوى في داخلي كجمر متقد. فكرت أن أتوقف، وأخبر الفتاة بموت شيخها، ولكن وجدتني أبعد عن ذهني مثل هذا التفكير، وأتركه لحين انبلاج الفجر حيث عليها أن تواجه الحقيقة. وعن أي شيء أحدث الآخرين، وهم على هذه الحال، يسيرون مثل المخدرين يهدهم التعب والجوع، لا يسمع منهم غير زفرة أو عويل. أنا وحدي حامل سري الذي حتى وإن اكتشفوه فهم حتماً غير معنيين به. تقدمت مسرعاً أحمل جسد الشيخ الهزيل الخاوي والبارز العظام من تحت جلده المغضن.

أيه أيها الشيخ، أتراك تحدثني بصمتك. ما الذي تريد قوله بعد أن أُزهقت روحك في هذه البرية. ألا حدثتني عن تلك الليلة التي خطفك بها الذئاب ودفعوك إلى حتفك هذا. لقد وضعك القدر في طريقي ومثل ذلك فعله معي، ووضعني بين حشدكم، أحمل الآن جسدك سوية مع خوفي وأملي. كان جدي مثلك دقيق العود خاويه، يثقل عليه أن يرفعني ويضعني في حضنه وأنا ابن الرابعة، يروح يداعب ويشم شعري، أشعر بحرارة أنفاسه، أنت لا تفعل مثلما كان يفعله جدي. جسدك بارد جداً. كان جدي يفرك أصابعي الطرية أيام البرد. كنت ألثغ بحرف الراء فيلح عليّ أن أكرّر لفظه. لا أدري إن كان يتلذذ ويفرح بسماع ذلك، أم تراه يريد أن يقوّم لساني. أكان لك حفيد مثلي، وكنت أنت جداً له تلاعبه وتواده. ما الذي سوف يقولونه، بعد أن أغمضت عين جدهم في هذه الوحشة بعد مسيرة العذاب. جدي علمني في الخامسة عد الأرقام. يجلس معي وسط الغرفة قرب المدفئة، ويرمي فوق سجادة صلاته قطع الميكانو البلاستيكية ويختار منها الأرقام ثم يأخذ ببعثرتها. ما كنت أترك له أن يعبث بأحجاري البلاستيكية، أعانده ويعاندني. ولكنه يغريني بقطعة حلوى، ويدعوني أن أرتب الأرقام بشكلها الصحيح ليمنحني قطعة أخرى. أكان لأحفادك مثل تلك اللعب، أكانوا يعاندونك، هل منحتهم قطعة حلوى؟ أم أنّ القدر لم يمنحك مثل هذه الفرصة ؟ أكانت قلوبهم المجللة بالفرح والأمل تستهويك لتلعب معهم ؟

كان يصعب عليّ أن أحفظ الرقم ستة، وكان ذلك في سنتي الخامسة، أعد الأرقام وأهمل أو أغفل الرقم ستة. عمري الصغير لا يدعه يلتصق بذهني، وعندما أسهو عن ذكره يطلق جدي ضحكته الخفيضة ويكرر .. أيها الملعون أين رميت رقم ستة؟ متى تتعلم هذا الرقم؟ وقد ذهبت كل جهوده سدى، لحين دخولي المدرسة التي علمني فيها أستاذ جبار الحضري الخوف وعد الأرقام بترتيب دقيق لا شائبة فيه. وكان جدّي حين عودتي يضمني إلى صدره ويطلب مني ذات الشيء ويقول ليّ.. شاطر سبع .. سوف تكبر وتصبح طياراً.

ما الذي دفعني لأحمل جثتك اليوم؟ كل ذلك الذي حدثتك عنه، أم أريد أن أتستر بجسدك.. كان مثلك ساكناً هادئاً، وجدته يحملق بي بعين يابسة. كنت في سنتي الثامنة طلبت منه أن يستيقظ ليصاحبني إلى المدرسة. حركت قدمه وهززتها، دفعت يده ورفعتها فسقطت ثقيلة، همدت جواره. جلده كان بارداً مثلما أنت عليه الآن. كان هناك من يبكيه بدموع حرى، ما عداي، فما كان وعيي يتيح ليّ معرفة معنى الموت مثلما عرفته بعد حين، وبالذات عند جبهات القتال. ولكن أنت، ما بكاك أحد، ولم يهتم بك غيري في تلك الوهدة والظلمة الموحشة. حتى تلك الفتاة كانت مسكونة ً بالرعب، تخاف وتهرب من معرفة حقيقتك الجافة، وتتهيب أبدية إغفاءتك، كي لا توقظ الفزع في صدرها المشحون بكومة من عذاب، يكفيها ذخراً لسنوات قادمة. ما رأيت دموعها بقدر ما شاهدت رعبها ينفجر مع سطوع البرق. سوف نصل وترقد أنت هنا وحيداً مطمئناً تواسيك وتؤنسك أو تفزعك أصوات القنابل ونقرات الطيور، وتنمو فوق مثواك سلال من حشائش البراري. وتمر المواسم وحتى الدهور وتعاود الحياة طبيعتها جوارك. تسمع أصوات قهقهاتهم، بقربك، خلفك أو أمامك تدور صرخاتهم، وهم يلعبون متناسين أنك رقدت غريباً في أرضهم، وقد تفتت جسدك الواهن، ومعك تفتت أعوام لا بل قرون بُذلت فيها وبسخاء مفرط ووحشي أرواح دون حساب.

ـ ما تبقى من الطريق للوصول إلى الجانب الإيراني طويل جداً، دعونا نريح أنفسنا عند تلك الخرائب ثم ننطلق في السير عند انبلاج الصباح.

***

فرات المحسن

في المثقف اليوم